الجندي المبني للمجهول

في جولتي الربيعية الصباحية أمشي بعد غيبة طويلة كجندي منتصر قبل أن يصبح مجهولا. قالت شحرورة ربيع متحررة: غبت عنا يا صديق همسنا.. فابتسم توأم روحها موافقا.. ليس بين العصافير غيرة ولا تنافس على الود، لأن قلب الشحارير يتسع لكثرة من العشق لا يعلمها إلا من سكن ركنا من أركان القلب.. أمشي محتفيا بعيون الكيانات الربيعية ترحب بأوبتي إلى جولتي الصباحية بعد غيبتي.. سنابل تحني رأسها تحية وتميل على جاراتها أن اشتقنا إلى عينيك.. الورد هنا وهناك في النباتات اللطيفة وحتى في الشوكية، في الأشجار التي تفتقت أكمامها، أو في تلك التي تحمل ثمراتها الصغيرة أمامها.. كلها تبعث عبيرها إليّ .. تقول لي: نزلت سهلا وسُقيت عطرا.. أما أنا فأمشي كعادتي.. غير أن حُبا كهذا الحُب يشتتني ويجمعني.. ينثرني ويزرعني.. يُحييني عشقا ثم يصرعني.. في هذا المعبر المخضر فتنة والمحمر خجلا يلتوي الطريق، وأنا بين حقول القمح أمشي كجندي منتصر.. لا لشيء إلا لأن الربيع استطاع أنْ يَقدم والكل هنا في خير ونعمة.. الكل هنا في عمق هذه الأرض يعرفني لأني وأنا أعبر أعطيه قطعة من فيضي.. أمشي بين الخصب وتلوينات الولادة هنا في حقول القمح المروية.. أمشي جنديا شامخا يعرفه الطير والزهر والقمح والفول وتحت وقع خطاه يسيل الماء في هذا الجدول ويغني شحرور لأميرته كلمات تحكي عن عمر لا تكفي ريشاته أن تحسب دقات السعادة في قلبه.. أنا جندي منتصر بما حَبَتْني به الطبيعة من فيض.. لكنني جندي حين يَقْضي بين البشر سيسمونه وبلا أدنى خجل: الجندي المجهول.. كم من جندي مات على هذه الأرض معروفا، لكن الأحياء وهم يحتفون به نسبوه إلى المجهول.. نسبوه كما ينسب كل فعل يكون معلوما، لكن لمشيئة المتكلم يسند الفعل إلى المجهول.
الجندي المجهول هو في الأصل جندي معلوم، ثم بنيت هويته وأفعاله وأقواله إلى المجهول، البناء إلى المجهول مسألة لغوية لها خلفيات ثقافية وتصورية إدراكية. من البديهي أن يسأل الانفصاليون عن عجائبية العلاقة بين بناء فعل للمجهول وحكاية الجندي المجهول الموجودة في كل الثقافات بما فيها الثقافة العربية.
الانفصاليون هم من يدعون دائما وأبدا إلى فصل قضايا اللغة عن الواقع وعن التمثيلات الذهنية، وعن التصورات الثقافية هم كثيرون في كل ثقافة يعتقدون أن العقل الذي أنتج التعبيرات الثقافية ليس مسؤولا مسؤولية كبيرة عن الطرق التي قيلت بها، وأن الأشكال اللغوية تظل مهما علا شأنها أشكالا تخفي ألباب المسائل.
درس البناء للمجهول درس نحوي مكرر يصادفك في المدرسة وأنت صبي تبحث في ثنايا المجهول عن طريقك، ويلقاك وأنت في الثانوية شخصا تصارع ذاتك النكرة تريدها أن تكون معلومة، ويلقاك إن أنت اخترت أن تدرس لغات يسند فعلها إلى المجهول، وأنت أكثر حزما أو أقل عزما.. وفي كل هذه المراحل تكرر المعلومات نفسها، أن البناء للمجهول هو أن تُسند فعلا إلى نائب فاعل حين يحذف فاعله للجهل به أو للتستر عليه أو للتقليل من شأنه. وقال لنا الدرس المبسط الذي نقله جيل من المدرسين عن جيل من علماء النحو، إن البناء للمجهول هو نقيض للبناء للمعلوم تقول (ضرب زيد عمرا) فتنقله من هذه المعلومية لتقول (ضُرب عمرٌو) ويظل عَمْرٌو مضروبا لكنه بدلا من أن يكون مفعولا قلبا وقالبا يصبح فاعلا قالبا ويظل مفعولا قلبا.

القالب هنا هو البنية النحوية السطحية التي تتطلب أن يحتل المفعول مكانا سقط منه مكون أساسي في الجملة هو الفاعل، لذلك تسمى زحزحة المفعول من محل النصب إلى محل الرفع نيابة للفاعل تقتضي أن يكلل بعلامة الرفع الأميرية في العمل الإعرابي، ويصير عُمدة بعد أن كان فَضلة. لكن أين ذهب الفاعل زيد؟ لقد كان معلوما وبات بحكم هذا الحذف مجهولا. ينبغي أن نقول ههنا إن المسألة ليست شكلية أو قالبية، هي مسألة إدراكية لأن المتكلم الذي يحدثنا بالجملة المسند فيها الفعل إلى المعلوم يخبرنا بشيء عناصره تامة من جهة الإسناد، لكن أيضا من جهة التعيين. فالضارب معلوم والمضروب كذلك وهذه حالة إدراكية تحصل لنا حين نُحَوْسِب عناصر الجملة باستحضارها وبتسميتها جميعا وكأننا إزاء كون مكشوف العناصر لا يتخفى فيه شيء وسنسمي هذا الشيء بالمعلومية.

درس البناء للمجهول درس نحوي مكرر يصادفك في المدرسة وأنت صبي تبحث في ثنايا المجهول عن طريقك، ويلقاك وأنت في الثانوية شخصا تصارع ذاتك النكرة تريدها أن تكون معلومة، ويلقاك إن أنت اخترت أن تدرس لغات يسند فعلها إلى المجهول، وأنت أكثر حزما أو أقل عزما.

تعني المعلومية أن يُبنى الكون بناء واضحَ المعالم، فلا يَخفى فيه ما ينبغي أن يظهر ولا يظهر أكثر مما يطلب المستمع معرفته هذا ما يسميه غرايس Grice بقاعدة الكم، وتعني ألا يعلمك مخاطبك إلا بالمعلومات اللازمة لا أكثر ولا أقل. المعلومية الدنيا هي أن تجيب بجملة (ضرب زيد عمرا) عن معلومة من معلومات ثلاث هي الضارب والمضروب والضرب. كأن يعرف المستمع أن هناك ضربا ومضروبا ولا يعرف الضارب. في هذه الحالة تتمم له الجملة الناقص. حين يُبنى الفعل للمجهول فإن الأسئلة تختلف كأن يقال (ما لعمرو يبكي؟) فيقال (ضُرب عمرو) فالإسناد إلى المجهول لم يتستر بالضرورة على الفاعل، بل إنه كان بناء على تبئير على عمرو المضروب وأن المستمع حين أسند إلى المجهول توخى تدريجا في بناء الكون: إن اكتفى السائل بالجواب الذي يبني الفعل إلى المجهول، فإن المجهولية تصبح موجهة برغبة من السامع في أن لا يعرف الفاعل، لكن إن سأل (من ضرب عمرا) عدنا إلى استراتيجية الأسئلة الثلاثة التي تنتج في سياق المعلومية. فالمجهولية هي حالة إدراكية أولى يمكن أن تقود إلى المعلومية. وليس هناك من نية في التستر على الفاعل بل هناك نية في التبئير الإدراكي على المفعول.
لكن لنفترض أن زيدا جندي يحارب من أجل وطنه، وأنه ضرب العدو في مقتل أو أصابه في ثغر من الثغور ذهب بنصيب من قوته وقاد بلاده إلى الانتصار، وأن ذلك الجندي ذهب متسترا مضحيا بنفسه إلى ثكنة قريبة ودمرها، فإن الجملة (ضرب زيدٌ العدو) ستكون هي الجملة الأصلية التي تبني الخبر بناء مفيدا من جهة المعلومية. لكن لنفترض أن الجندي زيد تُكتم على اسمه وهذا شرط من شروط نجاح العملية فيقال (ضُرب العدو)؛ في هذه الحالة يصبح الأمر تسترا وخوفا على حياة زيد الذي لم يعد بعد ولا يعلم إن كان في الطريق عائدا أو أنه لن يعود. لكن ماذا لو أن الجندي قُتل في تلك الإصابة فلمَ التستر عليه؟ سنكون إزاء كثير من التأويل الذي يتعلق بأسباب التستر على زيد وبمن تستر عليه أهم أصحابه؟ أم هم أهلوه الذين يعلمون الحادثة ولا يعلمون من البطل وراءها؛ أو لأن المعلومة التي يمتلكها الجند والقادة الذين يعمل معهم الجندي زيد وتحت إمرتهم لم تمر لأسباب كثيرة منها الانشغال بالاحتفال بالنصر ونسيان من صنعه؟
الانشغال بالنصر ونسيان فاعليه إن تكرر سيصبح ثقافة تدفعنا إلى نسيان الذوات الفاعلة في نصرنا القليل، وتجعلنا نُداوي النسيان ببناء فعل النصر إلى نائب فاعل بناء يزحزح فيه (العدو) المفعول إلى رتبة نائب الفاعل؛ عندها يصمت عن زيد الفاعل ويذكر في جملنا المبنية للمفعول العدو… يموت (زيد) الفاعل باللغة ويموت في الذاكرة ويسمى مجهولا..
أمشي في وسط الحقل الربيعي منتشيا برحلتي بين من يعرفني ويعرف أني حين عدت إلى الحقل زائرا، فإني عدت منتصرا على الغياب منتصرا على النسيان منتصرا على الإسناد الذي يمكن أن يحذفني ويبني الفعل وبتآمر إعرابي إلى من لم يفعله، بل إلى من تأثر بفعل الفاعل عليه.. لكن حينما يزغرد الشحرور لي ويقال تسترا (زُغرد لزيد).. سأكون عندها منتصرا لأن من أسند الفعل إلى المجهول رفعني وجعل العصفور المنشد مبنيا للمجهول.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية