يعتبر النص الديني من أهم النصوص المتوارثة على الإطلاق، بالنسبة لأي أمة، ومنها الأمة العربية، لذا كان وما يزال وسيظل، حاضرا بقوة في الذاكرة العربية لما ينماز به أولا، من قدسية باعتباره خطابا عمودي الحركة، أي أنه ينتقل من السماء إلى الأرض، من الأعلى إلى الأسفل، ثم ثانيا، لما ينماز به من دسامة على جميع الأصعدة، خصوصا تلك المتعلقة بالجانب الوجودي. وهو بهذه الدسامة والتماسك والقوة يضمن القدرة على امتلاك الأشياء، وكذا السيطرة على الإنسان على الدوام. ومن ثم، يظل المرجع الأساس للإنسان البسيط، كما للإنسان المثقف والمفكر والعالم، في كل مجالات العلم والمعرفة والحياة.
والشاعر العربي المعاصر، لم يتردد البتة في العودة إلى هذا النص الغائر في عمق التاريخ، للاستفادة منه، ولإخصاب تجربته الشعرية وإغنائها. ولا غرابة في هذا ما دامت وظيفة الشاعر في هذا الزمن المدنس، دوما وأبداً، هي فضح السائد والكائن، وتعرية الرداءة وكشفها. إنها وظيفة التصحيح، على أساس أنه في حوزتها أن تطرح البديل والممكن، وأن تستشرف المستقبل، وتتشوف إلى ما ينبغي أن يكون. وبهذا ألا يمكن القول إن رسالة الشاعر، في هذه الحالة، هي رسالة نبوئية، وإن الشاعر نبي بمعنى من المعاني؟
في الشعر المعاصر إذن، أصبحت العودة إلى التراث الديني عامة، من مستلزمات المعاصرة، بما هي ـ هذه العودة ـ محاولة لخلق الممكن والمستحيل انطلاقا مما هو كائن من جهة، ومن جهة أخرى لما يستشعره المبدع والقارئ العربيين على حد سواء، من خلال التراث الديني، من إشباع روحي، وإحساس باليقين والطمأنينة، على أساس أن تتحقق هذه العودة/القراءة بروح معاصرة، والشاعر الناجح هو من يتوسل في ذلك، كما يقول محيي الدين صبحي، بتقانة «ظلال المضامين». لقد أصبح العديد من الشعراء المعاصرين منشغلين بالتراث الديني (قرآن، توراة، إنجيل، سيرة نبوية، أحاديث نبوية) لدرجة الهوس، وإن كان ذلك بشكل يختلف من شاعر إلى آخر، حسب درجة الوعي بهذا الفعل المتمايز بين هذا وذاك. وبهذا سوف يغدو هذا التراث مرجعا خصبا ومهماً لكل من طوّحت به هواجس المعاصرة في أتون الكتابة الشعرية، يعود إليه ليجتره حينا أو يمتصه حينا ثانيا أو يحاوره حينا ثالثا.
لقد وجد الشعراء في عودتهم إلى التراث الديني، الغنى والخصوبة، ما جعل معظم قصائدهم، خصوصا عند أولئك الذين استثمروه بوعي، تنماز بالكثافة والتفرد، وبمسحة شرقية واضحة. وفي الحق إن الشاعر الناجح هو من يعيد خلق التراث الديني، وتحيينه كرمز وقناع، ليس بالشكل المتداول والمتعارف عليه، وإنما بشكل يخضع فيه للسياقات الجديدة. ولن يتأتى هذا للشعراء إلا بامتصاصهم لهذا التراث أو بمحاورتهم له ما أمكن. والملاحظ أن الشعراء المعاصرين الذين استثمروا الرمز الديني، في تجاربهم الشعرية، لم يكن النجاح حليفهم بشكل مطلق ودائم، بل إن الشاعر الواحد منهم، تجده مرة يفلح في استخدام هذا الرمز كما ينبغي، إما بالحوار أو الامتصاص، ومرة أخرى يكون استخدامه باهتا لا يخرج عن نطاق المتداول بحيث لا يضيف الشاعر لهذا الموروث الديني شيئا ذات قيمة، اللهم إلا اجتراره واستهلاكه بمحموله المتداول.
الشاعر المعاصر لم يتخذ في بداياته الأولى النبض الصوفي كمرجعية فلسفية وفكرية، وإنما اتخذه كرمز وشكل لبناء معظم صوره الشعرية. لقد كانت عودة الشعراء المعاصرين إلى الموروث الصوفي، سببا في خلق شكل جديد، وبناء حداثي للصورة الشعرية.. بناء يعتمد بالأساس على «جدل الأضداد».. بناء سيؤسس لاحقا، لما يمكن تسميته بشعرية الرؤيا.
وللرمز الديني روافد عديدة، لعل من أهمها، الرمز الصوفي بمرجعيته العرفانية خاصة.. مرجعية لها لغتها الخاصة وفهمها الخاص لطبيعة الوجود ولفكرة الله. «التصوف من حيث إنه مذهب الغرض منه تصفية القلب من غير الله والصعود بالروح إلى عالم التقديس بإخلاص العبودية للخالق والتجرد عما سواه ـ إذ التصوف من حيث هذا الغرض قديم قدم النزعة التي أوجدته وهي ثورة الضمير على ما يصيب الناس من مظالم لا تقتصر على ما يصد عن الآخرين، وإنما تنصب أولا وقبل كل شيء على ظلم الإنسان نفسه، وتقرن هذه الثورة برغبة في الكشف عن الله بأي وسيلة تقويها تصفية القلب من كل شاغل. وقد أدرك الإنسان منذ ألوف السنين أن خلف هذه الغلف الجسدية سرا مكنونا لا يستثيره إلا إرهاق هذا البدن بالمجاهدات لإضعاف سطوته والحط من سلطانه. فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية ولبس شكلا مناسبا لعقولها وأفكارها.» (درويش الجندي: «الرمزية في الأدب العربي»).
والشعراء العرب، منذ الحداثة المعاصرة، تأثروا تأثرا بالغا بهذه الفلسفة المعقدة في فهمها وفي لغتها ورموزها، وهي التي تتميز بالعمق في إدراك هذا الوجود بصرف النظر عن الصرامة العقلية المحدودة، وهي، عطفا على ذلك، تتجاوز هذه الصرامة في الإدراك بالاعتماد على مدارك أخرى أعمق غير تلك الظاهرة والمكشوفة. فمحور «علم التصوف يدور حول الله سبحانه وتعإلى، وهو ينشد من ألوان المعرفة، معرفة الله عز وجل، وكيف يعرف الإنسان الله؟ إنه لا يعرفه بالحواس لأنه غير متحيز، ولا بالعقل لأنه لا يرتقي إلى الفكر، فالمنطق لا يجاوز المحدود. والفلسفة خادعة ودراسة الكتب تغذي خداع النفس وتضلل فكرة الحق في سحب من الكلمات الجوفاء، إنما تأتي هذه المعرفة عن طريق القلب بالإشراف والانكشاف والإلهام» (المصدر نفسه).
لقد وجد الشعراء المعاصرون في هذه الفلسفة رمزا يوحي بعمق هذا الوجود وغموضه والتباسه. والأكيد أن الشعر ببعده التخييلي، وسيلة أخرى، ومسلك آخر لولوج هذه العوالم المبطنة، والطبقات الوجودية السفلى، بمعنى إنهما – الشعر والتصوف – يتقاطعان في الطبيعة والهدف. تقول خالدة سعيد هنا «الشعر هو المحل الذي يتمثل فيه وعي الأنا بذاتها، تماسكا أو تصدعا، ووعيا بعلاقتها بالموضوع تمييزا وتداخلا، وهذا في طليعة الأسباب التي تفسر الترابط بين الشعر والتجربة الصوفية بما هي إعادة نظر في علاقة الإنسان أو الذات بالله أو بالعالم وبذاتها. وكون الشعر الحديث محلا لهذا التصدع الأنطولوجي جعله يحفل بالأقنعة والمرايا والأصوات المتداخلة» (خالدة سعيد : «الملامح الفكرية للحداثة» مجلة فصول) هذا فضلا عن إن حياة المتصوفة كانت ضاجة بالاضطهاد والملاحقات والقتل والحرق، ما جعل هؤلاء المتصوفة ضحية أفكارهم، وجعلهم بالتالي، عند الشعراء المعاصرين، رموزا ومرايا بروميثيوسية (نسبة إلى بروميثيوس) ترمز لفكرة الاستشهاد وللمثقف العضوي الذي يناضل من أجل أفكاره الحرة، ولو أدى به ذلك إلى الاستشهاد.
والحق إن الشاعر المعاصر لم يتخذ في بداياته الأولى النبض الصوفي كمرجعية فلسفية وفكرية، وإنما اتخذه كرمز وشكل لبناء معظم صوره الشعرية. لقد كانت عودة الشعراء المعاصرين إلى الموروث الصوفي، سببا في خلق شكل جديد، وبناء حداثي للصورة الشعرية.. بناء يعتمد بالأساس على «جدل الأضداد».. بناء سيؤسس لاحقا، لما يمكن تسميته بشعرية الرؤيا.
شاعر وناقد مغربي