إن «قراءة كتاب عظيم للمرة الأولى في مرحلة النضج تبعث في النفس متعة استثنائية تختلف (يصعب تحديد مدى الاختلاف) عن متعة قراءته في عمر الشباب» من هذا الباب دخلتُ إلى عوالم كتاب «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» للإيطالي إيتالو كالفينو، ترجمة دلال نصر الله، الصادر عن دار المدى (بغداد). كنت على يقين أني سأدخل هيكلا مهجورا، فما أثث ذاكرتي من أعمال قديمة، لم يعد يحمل البريق نفسه، لكني كنت مخطئة!
دعونا نتفق أولا على أن الأدب الكلاسيكي يفرض في الغالب على تلاميذ المدارس في العالم كله، لأسباب عديدة، وهي شبيهة بالأسباب التي جعلتنا نحن أيضا نختار الشعر الجاهلي ونصوص الحقبات التاريخية السابقة لقراءتها، قبل بلوغنا العمر الجامعي. ولعل أول سبب هو التعرف على مفردات اللغة التي لم نعد نستعملها، فيما هي جزء مهم من النسيج اللغوي، وثانيا كون هذه النصوص هي آلة الزمن الوحيدة التي نستعملها للسفر إلى الماضي، وهي تنقل لنا تفاصيل وحقيقة الحياة في الماضي.
من جهة أخرى كثيرة هي النصوص الكلاسيكية التي ألهمت كتّابا معاصرين وصناع سينما لتقديم أعمال جميلة جدا، فاقت واقعنا الممل الخاوي تماما من أي نوع من الإثارة. وبالنسبة للكاتب الإيطالي فالكتب الكلاسيكية تشكل ثروة لمن قرأها وأحبها، وهي صامدة على مدى عشرات ومئات السنين لأنها تحتوي على ما لا نعرفه، فالتلصص على زمن غير زمننا يُشعرنا بلذة غريبة، خاصة حين تكون المادة التي بين أيدينا ذات نكهة قصصية بعيدة عن المعلومات التاريخية المملة.
اقترح كالفينو أربعة عشر تعريفا للكلاسيكيات، فيما تبدو لنا شيئا بديهيا، كونها تحيلنا على تلك النصوص القديمة التي لا تموت أبدا. وإن كانت نافذة بديعة نرى من خلالها الماضي بكل أثاثه وعتاده، فهو مصِر على أنها «تساعدنا في فهم ذواتنا، والمرحلة الزمنية التي نعيشها». لا يخلو أي نص من بصمته الإنسانية المشتركة، لهذا فإن قراءة الكلاسيكيات لا يجعلنا فقط نفهم الماضي، بل يوضح لنا الحاضر ويجعله مفهوما حتى إن كان فائق التعقيد. أما الأمر اللطيف في هذا الكتاب فهو أن مواده وهي مجموعة من المقالات والمحاضرات التي كتبها كالفينو بين 1954 و1985 لم تظهر في كتاب إلا بعد وفاته بست سنوات عام 1991، وهذا يغلف الكتاب بثوب من الحنين والتعاطف معه، مع مزيد من الإعجاب. هذا غير تناوله كلاسيكيات معروفة وأخرى خارج المجموعة المستهلكة بالقراءات والدراسات والأبحاث (على الأقل بالنسبة للقارئ العربي، أو حتى لا أثير حساسية البعض سأقول بالنسبة لي) فقد وجدت أن هذه الطريقة تجعلنا نرغب في قراءة مؤلفات لا تزال مجهولة، ولنأخذ على سبيل المثال ملحمة فارسية تعود إلى القرن الثاني عشر، تروي حكاية الملك بهرام الذي رأى سبع أميرات فعشقهن جميعهن، في آن واحد، وعكس النسق الذي تعودنا عليه في أساطير كهذه، فالملك يحصل على الأميرات تباعا، ولا يقع في عشق أميرة واحدة من أول نظرة، ولن يخوض الصعاب للحصول عليها. يقف كالفينو عند رمزية هذه الأسطورة الفارسية، للشاعر نظامي الكنجوي، ويعتبرها ملحمة في غاية التعقيد في ابتكاراتها الأسلوبية وتضميناتها الروحية، ويعتبر حصول المكتبة الإيطالية على نسخة منها «حظا نادراً لأن العطية لم يحظ بها إلا الإيطاليون من بين كل قراء الغرب الآخرين».
تبدو حكاية كاتب قصة روبنسون كروزو أكثر غرابة من بطله، كونه كان واعظاً ومغامراً، بدأ حياته تاجراً، فباع الجوارب بالجملة، وصنع الطوب قبل إفلاسه، «ثم أصبح مناصرا ومستشارا لحزب ويغ الذي دعم وليم الثالث، وكاتب كتيبات للمنشقين، وسجن بعدها وأنقذه وزير في حزب المحافظين فاشتغل جاسوسا لمصلحته، ثم أصبح المؤسس والمحرر الوحيد لصحيفة «ذي ريفيو» التي أهلته لنيل لقب مؤسس الصحافة الحديثة».
يأتي الإبهار أيضا من طريقة عرض كالفينو للنسيجين القصصي واللفظي اللذين ينسجمان بشكل جد فخم في هذه الملحمة ولخصوبة الخيال الفريد فيها، مع إشارة مهمة إلى أن لا نظير لها في الأدب الغربي.
في قصة أخرى تعود لعام 1719 كتبها رائد الرواية المعاصرة دانييل ديفو (1660 – 1731) رغم مشارفته على الستين عاما، عن بحار عاش ثماني وعشرين سنة وحيداً على جزيرة غير مأهولة على ساحل أمريكي، يروي كالفينو العناصر التي غابت عن القصة التي حفظناها لكثرة قراءتنا لها مختصرة، ومشاهدتنا لها في نسخ مصورة منها الفيلم الشهير الذي أدى فيه الممثل الأمريكي الشهير توم هانكس دور البطولة، وكمن يكتشف كنزا ثمينا جدا، نقع على التفاصيل الأكثر إدهاشا من قصة البحار نفسها. مستعينا بنشر مقدمة الطبعة الأولى في مقالته تضمنها كتاب «كتب عبر الأزمان، من إعداد أورورا زانكيلي، في تورين عام 1957. ويعيدنا الكاتب إلى حياة دانييل ديفو وكتبه التجارية، وقرائه من الطبقة النامية، من الفتيات العاملات، وتجار الشوارع، وأصحاب الفنادق الصغيرة، والندُل، والبحارة، والجنود، وكل ما يمثل «أذواق العامة».
تبدو حكاية كاتب قصة روبنسون كروزو أكثر غرابة من بطله، كونه كان واعظاً ومغامراً، بدأ حياته تاجراً، فباع الجوارب بالجملة، وصنع الطوب قبل إفلاسه، «ثم أصبح مناصرا ومستشارا لحزب ويغ الذي دعم وليم الثالث، وكاتب كتيبات للمنشقين، وسجن بعدها وأنقذه وزير في حزب المحافظين فاشتغل جاسوسا لمصلحته، ثم أصبح المؤسس والمحرر الوحيد لصحيفة «ذي ريفيو» التي أهلته لنيل لقب مؤسس الصحافة الحديثة». يدهشنا كالفينو لا بالقصة نفسها، بل بصانع القصص ومؤلفها، ويتتبع آثار رواتها وهو على يقين من أن الإمتاع كل الإمتاع في إخراج في إخراج التفصيل المجهول من كل ما شاع واشتهر وعُرِف، تماما كما فعل مع قصة كروسو بحيث نسيناها أمام غرابة أهم محطات حياة دانييل ديفو.
نتساءل هنا هل هناك بعد آخر لكل قصة تُروى؟ والجواب يكرره كالفينو في أغلب مقالاته بشكل مباشر أو غير مباشر، فبالنسبة له كل عمل «يحتفي بصراع الإنسان المتأني مع المادة، وتبجيل التواضع /…/ والفرح المصاحب لصنع الأشياء بأيدينا» فهو عمل يتحول لدروس حقيقية للأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل، وعمرا بعد عمر، وكلما أعيدت قراءته تم اكتشاف بعدٍ غير مرئي في حقبة سابقة. يتلاءم الأدب الكلاسيكي أكثر مع معاناة الإنسان وصراعاته الأخلاقية، إذ لطالما وجدناه أقرب لتفكيك شيفرة الأحقاد والأطماع والخسارات وقوة المشاعر وتحولاتها بين العشق والكراهية والرغبة في الانتقام، والغفران والمسامحة.
لا شك في أنه فضّل البدء بالأوديسة، والالتزام بسلم زمني يوضح تطور الكلاسيكيات عبر الحقب التاريخية المهمة، ليبلغ شكسبير، فولتير، ديدرو، ستندال، ديكينز، بلزاك، فلوبير، تولستوي، مارك توين، هنري جيمس، همنغواي، خورخي لويس بورخيس، وآخرين، هم في الحقيقة سبيلنا الوحيد للتواصل مع بني جلدتنا الغابرين، وإن كان هناك من طريقة لاستخلاص نتائج للمعادلة البشرية الصعبة، فهي دون أدنى شك قراءة الكلاسيكيات، وهذه فائدة إضافية نستشفها من هذه المقالات الممتعة، التي يمكن اعتبارها نماذج لخطف قارئها أو المصغي إليها من أي ملل قد يحيد بهما بعيدا عن محتواها، فهي خالية من الحشو الذي يعمد إليه بعض الكتاب والمحاضرين، وهي قصيرة لا تتجاوز الخمس صفحات لكل واحدة، وخالية من المصطلحات التي تحتاج لمعجم لفهمها. ويبدو جليا أنه قدمها لقارئه وكأنه يقدم له قطعة حلوى لذيذة.
دعوني أذكركم أيضا أن القارئ المحظوظ (كما يسميه كالفينو) هو القارئ الذي يعثر على كتاب كهذا، لأنه سيكون محفزا قويا ليبحث عن هذه القائمة المتواضعة من الكلاسيكيات المقترحة في مقالاته ومحاضراته. وهو إن دعا لقراءة الكلاسيكيات بقوة فهو أيضا يدعو لقراءة الكتابات المعاصرة بتبادل ماهر وبجرعات دقيقة لاستخلاص أقصى منفعة منه. كما يضيف: «قد يكون العالم المعاصر تافها سخيفا، لكنه لا يزال نقطة ثابتة نقارن بها تقدمنا أو تخلفنا».
شاعرة وإعلامية من البحرين
[تبدو حكاية كاتب قصة روبنسون كروزو أكثر غرابة من بطله، كونه كان واعظاً ومغامراً، بدأ حياته تاجراً، فباع الجوارب بالجملة، وصنع الطوب قبل إفلاسه، «ثم أصبح مناصرا ومستشارا لحزب ويغ الذي دعم وليم الثالث، وكاتب كتيبات للمنشقين، وسجن بعدها وأنقذه وزير في حزب المحافظين فاشتغل جاسوسا لمصلحته، ثم أصبح المؤسس والمحرر الوحيد لصحيفة «ذي ريفيو» التي أهلته لنيل لقب مؤسس الصحافة الحديثة»] انتهى الاقتباس
عزيزتي بروين حبيب، يبدو أنك تنقلين هنا عما سبق لمروِّجي الإعلام أن كتبوا على الملأ خالطين بين شخص دانييل ديفو الحقيقي (الواقعي) وبين شخص بطله روبنسون كروسو المتخيَّل (اللاواقعي)، رغم أن ثمة شيئا من الإيحاء السردي من الأول إلى الثاني. دانييل ديفو تحديدا يُعتبر رائدَ الصحافة الحديثة بسبب من صحيفته الشهيرة وقتها “الإعصار” (The Storm) التي أسسها سنة 1704، كأول عمل صحافي حديث يسجِّل تفاصيل ذلك “الإعصار ” الرهيب الذي اجتاح لندن على مدى أكثر من سبعة أيام في أواخر العام 1703، والذي بات معروفا باسم “الإعصار الأكبر” بصفته “الإعصار الأشد والأطول والأوسع من بين كل تلك الأعاصير والعواصف التي دوَّنها التاريخ منذ بدء الخليقة”، على حد تعبير ديفو نفسه !!؟
واستخدم ديفو روايات شهود
أحسنت أحسنت أحسنت أحسنت ,,,, بارك الله بارك الله بارك الله ,,,,
وربي ينصر فلسطين ويهزم إسرائيل الصهاينة شر الهزيمة يا رب العالمين ,,,,
نشكر الكاتبة على اختياراتها المتميزة ومن بينها هذا الإختيار الجميل.. محور الكتابة القصصية وموضوعها الأساسي يبقى دائما هو الإنسان، وإن تغيرت الأزمنة.. في عصرنا مطلوب التفتح والتعارف، والإحتكاك بمن لا يشبهنا في بعض أو كثير من قيمه وثقافته وتقاليده.. وفي هذا تجدد وحيوية للمنظر والمسمع، وهو يبعد الروتين الثقافي ويغني المعاش.. نزيد أنه يدخل برأينا في هذا الباب قرائة ما تيسر من أدب الأزمنة الماضية….
.
ونريد أن نغني مقالك في هذا التعليق بكتاب آخر للكاتب الأرجنتيني “ألبيرتو منغل” Alberto Manguel تناول فيه موضوع القرائة عبر العصور وسماه “تاريخٌ عن الكتابة” ” A History of Reading”. وهو بلا شك، كما يظهر من خلال المقال، يتقاطع مع كتاب الكاتب الإيطالي موضوع المقال.
مع التحايا..
معذرة عن الخطأ : “تاريخ عن القراءة” وليس “تاريخ عن الكتابة”.
مقال رائع و مفيد حول أهمية القراءة ، قراءة الأدب الكلاسيكي عموما. ما دام المقال شمل قصة روبنسون كروزو لماذا لم تتم المقارنة مع قصة حي بن يقظان لابن طفيل ؟ على شاكلة المقارنة بين الكوميديا الإلهية لدانتي و رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. مع العلم أن القصتين العربيتين كانتا أسبق بزمن طويل. كامل الشكر والتقدير للأخت الكاتبة على هذا المقال الممتع.