حب الزعماء في أنظمة الاستبداد رياضة علنية يتنافس فيها الجميع على مرأى الجميع لأن من يتقاعس عنها يورد نفسه موارد العذاب أو الهلاك. ولهذا يهتف الجميع بالروح بالدم نفديك يا فلان. لكنه «حب» قسري ناجم عن استحكام الخوف الذي تتعهده أجهزة الأمن والاستخبارات بكل ما يلزم وما لا يلزم. إنه حب كاذب لا حقيقة له. أما في الديمقراطيات الليبرالية فقد يحدث أن تكره الأمة زعيمها، بل وأن تستخف به. إلا أنه يحدث في بعض الحالات، وليس في جميعها، أن تحب الأمة زعيمها محبة صادقة. ولا شك أن بريطانيا تقدم أقوى الأمثلة وأندرها في هذا الشأن. إذ إن البريطانيين، وأبناء بلدان الكومنولث، يمحضون مليكتهم إليزابيث الثانية خالص الحب وبالغ التوقير. إنها قصة حب حقيقي! عاطفة ما انفكت تتعاظم على مدى العقود. ولم يحدث حتى اليوم أن قابلت بريطانيّا واحدا لا يحب الملكة، سواء كان من المثقفين أم من عامة الشعب. حتى صديقي لورنس الذي اعتنق الإسلام بعد رحلة بحث فكري، فهو لا يزال مقيما على حب إليزابيث. إنه الحب الذي نشأ عليه وشبّ! وقد تحاورنا في هذا الشأن فأنكرت عليه ولاءه لسلالات الدم الأزرق، وقلت له إن الملكيّة نظام أساسه chance not choice، أي عشوائية الصدف وليس عقلانية الاختيار، وأضفت أن الإسلام لا يقر مبدأ الحكم الوراثي، بل إن النظام الأنسب لروح دين محمد في ليبراليته الأصلية (روح التحرر، كما سماها الشيخ عبد العزيز الثعالبي) إنما هو النظام الجمهوري، وأن ما ابتدعه معاوية بتوريث الحكم ابنه يزيدا إنما كان تأسيسا لما سماه الفقهاء بـ»الملك العضوض» المناقض لمبدأ اختيار الأكفأ والأصلح من أمة المسلمين.
لكن الحقيقة التي لا سبيل إلى نكرانها هي أن حب الملكيّة متجذر في الوجدان البريطاني. صحيح أن شعبية الأمير تشارلز متدنّية وأن البريطانيين يفضلون عليه ابنه وليامز، وصحيح أن العزوف عن الملكيّة أخذ ينتشر لدى بعض الشباب وفئات من الاسكتلنديين. لكن الصحيح أيضا أن شعبية الملكيّة عموما، وإليزابيث تحديدا، لا تزال عارمة لدى معظم البريطانيين وأمم الكومنولث الـ54. ولست أعرف من الثابتين على المناداة بالمبدأ الجمهوري إلا جريدة الغارديان. كما أني تابعت تناول الإعلام العالمي لاحتفالات اليوبيل الماسيّ قبل أسبوع، فلم أظفر بصوت بريطاني ينتقد الملكيّة ويدعو للحكم الجمهوري إلا في نشرة أنباء وحيدة من نشرات التلفزيون السويسري. لكن رغم تألّق إليزابيث طيلة سبعين سنة أمضتها رامزة لوحدة الأمة ودوامها، مالكة غير حاكمة، فإن مستقبل آل ويندسور قد صار عرضة لعوادي الزمن السياسي. إذ لا يبعد، في غضون عقدين أو ثلاثة، أن تنال اسكتلندا استقلالها (فتعيد الانضمام للاتحاد الأوروبي)، وأن تستعيد إيرلندا وحدتها. وما أن يحدث ذلك حتى تكون ويلز قد أصيبت هي أيضا بعدوى الانفصال. لهذا قال الأمير ويليامز إنه عندما يأتي دوره لاعتلاء العرش، فالأرجح أنه لن يكون ملكا إلا على إنكلترا!
وإذا كان رأي وليامز يدعو إلى الإعجاب (لأنه ينم عن بعد نظر)، فإن لإدوارد السابع رأيا يدعو إلى العجب (لأنه نفذ إلى حقيقة النظام الملكي فرآه عاريا). لم يكن إدوارد السابع أفضل ملوك بريطانيا؛
كان عابثا تعتاش الجرائد الشعبية من قصص مغامراته وسهراته في ملاهي فرنسا، ورغم ما بذلت أمه الملكة فكتوريا من جهود فإنها لم تفلح في حمله على الجادة وفارقت الدنيا وهي متخوفة على مصير العرش متيقنة من عدم أهلية ابنها للخلافة. ومع هذا فقد كان عنده من النزاهة، أو القدرة على التجرّد، قدر مثير. سئل في الامتحان، لما كان في السادسة عشرة من العمر، هل يجدر بالملوك أن تختارهم شعوبهم بالانتخاب؟ فأجاب بأن «الوصول إلى الحكم بالانتخاب أفضل من تسلّمه بالوراثة لأن الانتخاب يتيح فرصا أوسع لاختيار الملك الصالح. أما إذا كان الحكم بالحق الوراثي، فإنه لا سبيل لمنع الملك من الحكم إذا تبين أنه ملك فاسد أو ضعيف».
هكذا استطاع «الأمير الصغير» أن يوجز الحقيقة المعروفة منذ القديم: أول عيوب النظام الملكي هو اعتباطية التعيين بمجرد صدفة الانتماء لعائلة محددة (فالوراثة معطى بيولوجي عشوائي تتفنن الأنظمة في محاولة تذويب عشوائيته في محلول العقلنة البعدية التي تفرضها المصالح والنوازع)؛ والعيب الثاني هو أبدية الحكم (بقاء الملك على العرش طالما بقي على قيد الحياة، واستمرار الملكيّة في السلالة طالما ظلت تنجب العقب). حقيقة منطقية بسيطة، لكن يبدو أنها عديمة القيمة عند الشعوب المحبة للملكيّات. لماذا؟ ربما لأن المحبة تحرر من المنطق وتسام عليه.
لهذا كله، فإن قصة إليزابيث تستدعي جهدا في الفهم والتفهم: كيف للجموع التي لا تجتمع عادة إلا على الكراهية والتعصب والعنصرية وما شاكلها من «الأهواء الحزينة» أن تجتمع طيلة سبعين سنة على حب امرأة حبا قويا دائما لا يدانيه بعض المداناة إلا حبها لنجوم الفن والرياضة!
كاتب تونسي
احسنت الاسلوب والكتابة رغم الحاجة الى اضافات وادلة وبراهين
هو ليس الحب ، ولكن الاعتياد على الشخص، والتعايش معه ، كيفما يكون
تفسير غير صحيح. !قرا عن ام الملكه و ما فعلت في الحرب العالميه الثانيه حتى تتعرف على مصدر الحب.
الا ترى يا استاذ ان سبب عدم الاستقرار السياسى في تونس هو انقلاب الرئيس الحبيب بورقيبة على نظام البايات الوراثي سنة 1957 و تربعه على كرسي الرئاسة مدى الحياة الى ان شاخ و خرف فصارت زوجته وسيلة ثم بعدها بنت اخته سعيدة الساسي ، تتدخلان في تعيين الوزراء. و هي الفرصة التي استغلها العسكري الامني زين العابدين بن علي ليتم تعيينه وزيرا للداهاية ثم رءيسا للحكومة فانقض على كرسي رئاسة الجمهورية بانقلاب طبي سنة 1987؟؟؟.