لا أعتقد أن الشعر استقرّ على تعريفٍ له، منذ انفجاره الكوني في التعبير عن إنسانه، إذ أن إنسانه نفسه لم يستقرّ على حال رغم ظنون الثوابت فيه، ولا نعرف إن كان قد حان زمن طفرات الإنسان في التحوّل إلى ما يهجس به خوفه وخياله، من استذئاب ودراكولية وزومبية، ومن أشكالٍ فضائيةٍ تعكس تصوراته عن نفسه. وإنْ تعدّى هذا الهاجس إلى ما يمكن أن يكون عليه في أكوانٍ موازية أو متعددة اختلفت فيها شروط التكوين لتنتج ما يهجس به، في حياته التي هي ليست أكثر من ومضةٍ بالنسبة لكائن أعلى، ضخمٍ لا تُعتبر حياتنا عليها بالنسبة إليه أكثر من زمن تركه عدسةَ مجهره في مراقبتنا، ليرشف رشفةً من فنجان قهوته. بينما هي بالنسبة إلينا ملايين ومليارات من السنوات، وتجعلنا نقول حين نكتشف ذلك عن الحياة: ماهي إلا ومضة، وتجعل شعراء منا يعبّرون عن ذلك بشعر الوميض وقصيدة الومضة أو النبضة أو ما نخترع من تعريفات للشعر الذي يعبّر عنا عاكساً ومجسداً لنا في ثباتنا وتحولاتنا.
من شعر الومضة، (الذي يعتقد أصحابه وهم مُحقّون ربّما وغير محقين في تعريفاتِ محقّين غيرهم ربّما، إذ لا يستقرّ الشعر على حالٍ، كما الثعالب في ابتكارها لوضعيات التخفي عن الدجاج، أو ربّما كما الفيروسات في تحولاتها داخل مضيفيها)، ومن شعرِ غير الومضة الذي يرتدي ثياب السطر وثياب القطعة في قصيدة النثر القصيرة ومتوسطة الطول، تبرز مجموعة الشاعرة المغربية رجاء الطالبي مفصحةً في عنوانها عن: المرأة المُسَلْسَلَة أي المقيّدة بالسلاسل: «أندروميدا»: ابنة كيفاوس ملك أثيوبيا، أو فلسطين في روايات أخرى، وابنة كاسيوبيا التي تباهت أن ابنتها أجمل بكثير من حوريات البحر، فأرسل إله البحر المغرور بوسيدون وحشَ البحار لتدمير إثيوبيا، ودفْع كيفاوس إلى تقييد ابنته على الصخور كقربان لاسترضائه، قبيلَ أن يتمكن البطل بيرسيوس نازلاً على حصانه المجنح من السماء لقتل الوحش وإنقاذها.
وهذا ما تخيّله اليوناني القديم من ملاحظته مجرّة النجوم الأقرب إلى مجرتنا درب التبانة، والتي سمّاها أندروميدا، أو سمّى هذه المجرة على ما تخيلتْه أساطيره، ليسير العالم مستخدماً لها، في خيال الأدب كما في اكتشافات العلم؛ ولتصل إلى الطالبي، متداخلةً بملاحظاتها عن الأرض والسماء، وقراءاتها للثقافة، وعيشها للشعر في داخلها، فتنتجَ قصائد ومضة العين أو نبضة القلب التي تجمعها وتفرقها ضمن مجموعتها، برفقة لغتها، معبرة عن ذلك بـ
«رميتُ بأغنيات الحبّ
من النافذة
كنتُ في رفقة لغتي
أُنظّف زجاجَ العالم».
«أوراق أندروميدا» مجموعة شعرية لا تبرز فيها الأسطورة بصورة مباشرة تعكس ما أراد مبدعوها من معانيها، بقدْر ما تتغلغل المعاني في شرايين القصائد، عاكسةً ومجسّدة مجالاتٍ تدخل في فلسفة الموت المعقّدة كما في تناول خبز الحياة البسيطة، وفي تفصيص عُقَد اليأس كما في ضمّ بتلات وردة الأمل، في مسيرة الإنسان. ولا تطرقُ هذه المجموعة كذلك حديد الذكورة المستحيل سلاسل في تكبيل النساء، بمطارق النسويّة التي تعاني من رسم المصير بهذه السلاسل، وإنما تتوزع متغلغلة في شرايين القصائد التي تعنى بصراعات الإنسان وأحلامه داخل وخارج خصوصية الذكورة والأنوثة. لكنّ هذه المجموعة تحاول كما يبدو بغموض الشعر ومجازاته وإيحاءاته أن ترسم خصوصيتها في الجدْل بسلاسل العلم ومكتشفاته حول التشابك الكمّي ولا نهائية الاحتمالات وما يَخلق من عوالم تدور على نفسها لتعيد الإنسان إلى عوالم الأساطير.
وفي اجتراحات الخصوصيات القديمة هذه بأساليب عصرها والجديدة الآن بأساليب عصرنا لدى شعراء مثل الطالبي، تبرز مسائل الصُّدفة التي فتحها الشاعر الملهِم محمود درويش بقصيدته المذهلة الفاتحة «لاعب النرد»، بوابةً شاسعةً بمداخل متعددة على الأكوان التي تنفتح لشعراء العلم الآن، جليّةً بالنسبة للطالبي في قصيدتها: «نظرة أندروميدا»، حيث: «تتحلّل كلمات مردوخ المختصرة، الكلمات التي تسود الفراغ: ذلك الفراغ الذي يشكّل الحصن لدى مزاعم الآلهة والذي لن يتمّ ملؤه إلا بجهاز النجوم السيّارة التي تم تقييد ضوئها من قبل الهندسات المرسومة في اللحظة الأبدية،/ الهندسات التي تُحيك الخيط «حيث الحرية عصفورٌ برّي يكسر جناحيه ويستسلم فقط من أجل المتعة التي يمنحها سلطانُ الصُّدْفة».
تلك الصُّدْفة التي تقود الطالبي من داخلها إلى التقاط أحد ريشات أجنحة عصفورها البرّي، ونسجِها ضمن ما تريد أن يكون من خصوصيات تسلسل قصائد مجموعتها، بغض النظر عن تأتأة لامات التعريف، حيث تبدأ القصيدة التالية بعنوان من جملةٍ انتهت به سابقتُها، كما لو كان سيجارةَ ما بعد الحبّ، متدفقةً أنفاساً في القصيدة التالية، ومقرونةً بالحبّ: «للصُّدْفة أميرُها»، حيث:
«للصُّدْفة سلطانُها
الذي يرمي بالنظرات التي تحرق
أكثر من النار المشتعلة في الغرانيت
المتصدع حباً
في ألسنة اللهب المضطرمة
في لهيب الحب.»
في أوراق أندروميدا التي تهتدي بـ «نجمة القطب» في رفضها ما كان إلى صُدَف ما يكون، تلملم الطالبي أوراقها في بنيةٍ تتسلسل فيها 62 قصيدةً، تبدأها بمجموعة قصائد الومضة أو النبضة أو الخفقة كما يحسّ ويشاء قارئها، وكما هي لديها: «أقلّ من ومضةٍ/ أطولُ يوم في حياة الإنسان/ نهفو للاحتفال بالوقت/ بين كوكبة من النجوم» بمجموع اثنتي عشر قصيدة. تسلسل بعدها قصائد النثر القصيرة ومتوسطة الطول والطويلة، مع تخلّلها بقصائد ومضة، في محاولات ربما للتماثل مع أطوال وميض النجوم في مجرة أندروميدا، من غير استبعادٍ لهذا الاحتمال، حيث تحفل مفردات لغة الطالبي وتركيب جملها بمعاني الفضاء التي نرى بها سماوات ونجوماً وليلاً وظلاماً وظلماتٍ وشموساً ونهارات وما يتوزّع في الفضاء من نبضاتٍ لا تخلو من مفردات العلم الذي يتناولها. إلى جانب تأمّلاتها في الموت والحياة والحبّ واليأس والرفض في حياة الإنسان، والمرأة على وجه الخصوص في سلاسلها المجدولة بأزمان قهرها التي لا تريد أن تنتهي، ولكن، بمرافقة أملها الدائم، حيث: «كلّ من عليها لا يعدَم نفساً»، بمعارضة «كل من عليها فان»، بإصرار تلك الشجرة في حديقة الشاعرة التي تمنحُ الحديقةَ أنفاساً: «من نافذتي، تطلّ شجرة صغيرة برأسها الأشعث الذي جاهدوا كي يقصّوا تمرّده، لكنها تشذّ عن المقصّ، تتنفس وتُطلّ برأسها من النافذة، كي تزيح عن الهواء ما علق به من أنفاسٍ ثقيلة».
ويمكننا من دون كبير جهدٍ، إن لم نشأ تدقيق معنى جاهدوا «المذكر»، الإحساسَ بتمرّد الحياة على ما يحاول اجتثاثها، من دون تطرّف نسوي، حيث: «ما نظرتْ عينُ الشاعر ولكنْ قلبُه حيث توجَّه النظرُ يُحْيي ما تجمَّد»، في ذات هذه القصيدة.
وما دامت اللغة أحد هموم ومشغولات الطالبي، ما دام فضاؤها أحد اصرارات انعتاقها من سلاسل أندروميدا إلى فضاء المجرات المفتوحة على بعضها، وما دامت قصيدتُها تتلوّن من النبض إلى إطالة المتعة وانفتاحها على المتع اليومية الصغيرة، يمكن لقارئ أوراق الأسطورة والمجرة أن يستمتعَ بنسج مجموعةٍ مميزة يمتدّ ثوبها المنسوج إلى فضاءات داخله. فيعيش المفرداتِ نجوماً، والتأمّلَ تجاوزاً للموت إلى متع الحياة، وأساليبَ نسج الأمثال والشخصيات والأغاني امتداداً إلى ما في الكتب المقدسة، وسبينوزا، والمسافر الذي زاده الخيال. كما يمكنه أن يستمتع بعيش تضارب وتلاقح الصُّدَف في البدايات والمتون والخواتيم التي لا تثبت في احتمالٍ، بذكاء التقاطها، وإنما هي «تمشي»، وتكتفي ولا تكتفي بها مشاعر القارئ: «تمشي، الأشياء الممنوحة للعابر الذي يفكر في كل شيء أو لا يفكر في أي شيء. أعشابُ الرصيف الخضراء المنبثقة من الإسفلت، ربما لا تعني أيّ شيء، ربما تعني كلّ شيء، لكنها تحوّل فكركَ بشكل خفيّ، وبدون أن تدركَ ذلك، تغيّرُ الفضاءَ، عندما تخترق اللامدرك، ليس كحلمٍ، ولكن كاجتيازٍ لعتبةٍ، حيث لا يوجد بابٌ ولا نافذة».
كما يمكن للقارئ الشّغوف إلى إضاءات أكثر العودةَ إلى مفهوم الشعر نقداً لدى الطالبي، في تصّورها عنه خارج قصيدتها وداخلها بآن ،حيث نقرأ رأيها غير المحدد شرطاً لهذه القصيدة، في إحدى مقابلاتها: «الشعر مسكونٌ بنداءات اللايقين والتشوّش، مسكونٌ بمساءلة الوجود والذات، مصاحبٌ لشروخات الذات وجروحها وقفزاتها وتحولاتها في الحياة والوجود. إن الحيّز الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة، ونحن نقارب جوهر الشعر انطلاقا من جوهرها. الشعر كما يقول هايدغر يملك تسميةً مؤسسةً للوجود ولجوهر كل الأشياء وليس مجرّد قول يقال كيفما اتفق. وأنت لا تكتب قصيدتك انطلاقا من فراغ، ولابد لك من معرفةٍ تعمِّق القولَ الشعريَّ لتضيئه، وإلا يكون مجرّد تهويمٍ وهذيانٍ وثرثرة. القصيدة لا يمكن أن تتجرّد من وعي المبدع ومعرفته، لأنك تكتب انطلاقاً من هذا الوعي، والقصيدةُ تسبق أحيانا هذا الوعي وتتجاوزه لتؤسس لوعي جديد خاص بها».
رجاء الطالبي شاعرةٌ وقاصّة وأكاديمية ومترجمةٌ مغربية، أصدرت العديد من الأعمال، منها «عين هاجر»، «برد خفيف»، «عزلة السناجب»، «حياة أخرى»، «مكان ما في اللانهائي»، و«قرصةٌ على خدّ الخسارات». ولها العديد من المترجمات، منها ما ترجمته عن الشعر العالمي «كتابة الخراب»، ورواية فرانسواز ساغان: «صباح الخير أيها الحزن».
رجاء الطالبي: «أوراق أندروميدا»
دار فضاءات للنشر والتوزيع: عمان، الأردن 2022
106 صفحات.