ولازلنا نتحدث عن العملية السياسية والحوار، منطلقين من قناعتنا بأن الحل السياسي هو الأداة الأمثل من بين وسائل وآليات التغيير، لأنه الأكثر أمانا والأقل تكلفة، والذي يمكن أن يحفظ البلد من التفكك. والحل السياسي ليس سهلا على الإطلاق، كما يعتقد البعض ويختصره خاطئا في جلسات تبادل الابتسامات وتطييب الخواطر ثم التوافق على أي تسوية والسلام، بل هو يمكن أن يكون عملا ثوريا من الطراز الأول. وبالطبع، هو ليس الوسيلة أو الآلية الوحيدة، ولكنه يطل برأسه في ظروف معينة، أبرزها ظرف توازن الضعف، وظرف عدم القدرة والاستطاعة، لهذا السبب أو ذاك، في استخدام وسائل وآليات التغيير الأخرى وتحقيق النجاح بها.
وفي الحقيقة، فإن وسائل وآليات التغيير، ليست مجرد فنيات وتقنيات يمكنك التعامل مع أي منها كيفما اتفق وكيفما يشتهي مزاجك، وإنما هي شحنات سياسية وفكرية من الدرجة الأولى، تخلقت في رحم التجارب الملموسة على نطاق العالم، ومن بينها تجاربنا في السودان، وتجسدت في آليات الإضراب السياسي العام، والعصيان المدني، والانتفاضة الشعبية السلمية، والانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح، والنشاط المسلح المباشر، والحصار الدبلوماسي، والحل السياسي الذي يتضمن الحوار والتفاوض.
ومن الطبيعي أن تتباين الرؤى داخل قوى التغيير، بما في ذلك القوى المنتظمة في تحالفات سياسية، حول هذه الآليات، فهذا يدعو إلى الانتفاضة، وذاك يتبنى الحوار والتفاوض، وثالث يتمسك بالعمل العسكري. لكن، بقليل من التفكير ومزيد من الإبداع والجهد والمثابرة، يمكن توحيد هذه الرؤى المتباينة، أو على الأقل، إبداع كيفية تكاملها ليكمل كل منها الآخر ولا يفترض أو يشترط نجاحه في نفي هذا الآخر، لأن في التمسك بهذا الإفتراض أو الإشتراط تهديدا لوحدة قوى التغيير وهزيمة لقضيتها.
وهكذا، فإن رفض تصادم وتناقض تكتيكات وآليات ووسائل التغيير، والتمسك بضرورة وموضوعية التكامل وجدلية العلاقة بينها، هي فكرة محورية لنجاح عملية التغيير. ومن الصعب، بل ومن غير الممكن، طرح العلاقة بين آليات العمل السلمي والآليات الأخرى بطريقة «مع أو ضد» أو «يا هذا يا ذاك». فالقوى المتصارعة تسعى لحسم الصراع لصالحها، متبنية آليات عملها، في الغالب حسب حدة الغبن الاجتماعي/الاثني، وحسب الآلية التي يتبناها الآخر، ولكن، والأهم من ذلك كله، حسب قدرتها وإمكانياتها في تبني هذه الآلية أو تلك وتحقيق النجاح بها كما ذكرنا.
لذلك ليس غريبا على الحركات التي انطلقت من الأطراف حمل السلاح، بينما يفترش أهل المناصير الأرض إعتصاما سلميا، ويلجأ ملاك الأراضي في الجزيرة للقضاء، ويتظاهر الشباب والطلاب سلميا إلا من سلاح هتاف الحناجر.
من الصعب، طرح العلاقة بين آليات العمل السلمي والآليات الأخرى بطريقة «مع أو ضد» أو «يا هذا يا ذاك». فالقوى المتصارعة تسعى لحسم الصراع لصالحها
ومن ناحية أخرى، ورغم ان آلية النضال المحددة تخضع لطبيعة الصراع السياسي والإجتماعي على أرض الواقع المعاش، مثلما تخضع لتقديرات القوى التي تتبناها، فإن ردة الفعل من أنظمة القمع والشمولية دائما عنيفة فى كل الأحوال، سواء تجاه الطبيب علي فضل الذي ظل يقود نضالا سلميا حتى لحظة استشهاده تحت التعذيب، أو الطبيب خليل إبراهيم الذي كان يقود تمردا مسلحا حتى لحظة استشهاده في الميدان.
وخلق آليات التغيير الناجعة ليست حكرا على قوى سياسية بعينها دونا عن الآخرين، مهما دُعمت هذه القوى بقاعدة جماهيرية واسعة، أو إتسمت بدرجة عالية من الجسارة.
ولما كان إنجاز التحول المدني الديمقراطي والسير نحو بناء دولة العدالة الاجتماعية هو الهدف المشترك بين مختلف قوى ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، فمن الطبيعي والمفترض أن تتكامل أطروحات هذه القوى حول آليات التغيير حتى تنتج فعلا يخترق حاجز الاختلاف والتباين السطحي.
وإذا كان هناك فعل سياسي ثوري من أجل التغيير تحت مظلة أي من آليات للتغيير، فإنه لن يصيب أى فعل آخر تحت مظلة أي آلية أخرى بالسكتة القلبية، بل سيدعمه ويفتح له فرصا جديدة. إن التكامل بين آليات التغيير المختلفة، والذى قد يتم بترتيب أو بدونه، سيدفع الناس إلى التحرك فى كل الاتجاهات، ليداهموا ما دنسته وخربته قوى الردة ودعاة عودة الشمولية، فيوسعونه تنظيفا وتعديلا، حتى تخرج المبادرة السياسية لتعلن عن إرادة شعبية قوية تشل حركة أي عائق أمام إنجاز مهام الإنتقال وتحقيق أهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة.
ولا أعتقد أن هنالك عاقلا يرفض أن تتحقق هذه الأهداف بهذه الآلية أو تلك من آليات ووسائل التغيير المتاحة، أو سيتبرأ منها لإذا حققتها وسيلة غير وسيلته. لكن، هنا لابد من الحذر الشديد.
فشكل ومحتوى البديل الناتج من عملية التغيير، سيتحدد إلى درجة كبيرة بنوع الآلية أو الوسيلة التي سيحدث بها هذا التغيير. فالتغيير عبر الانتفاضة الشعبية يعني ترسيخ الحريات والديمقراطية والسير قدما لتفكيك دولة الشمولية والإستبداد.
والتغيير عبر الوسائل غير الجماهيرية، كالانقلاب والعمل المسلح، يحمل إمكانية فرض الوصاية ومصادرة الديمقراطية وسرقة أحلام الجماهير لصالح المجموعة المسلحة. بينما آلية التفاوض والحوار تتطلب قبول احتمال أن النظام القديم، أو أحد مكوناته، بشكل أو بآخر، سيكون جزءا من البديل الجديد، كما تتطلب التحسب لإمكانية إعادة إنتاج الأزمة، ومن ثم منع ذلك. أعتقد بهذا الفهم، وبالنظر إلى إقتراب هذا التنظيم أو ذاك من الأهداف أعلاه، يمكننا تفهم ما يتبناه من وسائل ونبحث في كيفية تكاملها مع وسائلنا، دون الانزلاق إلى محاكمة الوسائل، أو تفتيش الضمير وتوزيع الإتهامات الجزافية أن هذا «غواصة» وذاك «منبرش» والآخر يسعى إلى صفقة! وما الحكم، من قبل ومن بعد، إلا للشعب السوداني. وتبقى الإشارة إلى أفضلية آلية الحراك السلمي الجماهيري لإحداث التغيير المنشود، على ما عداها من آليات، لأسباب بديهية ومفهومة.
وهي آلية لا تضع نفسه في أي مواجهة أو تناقض مع الآليات الأخرى، وإنما تسعى للتكامل معها للسير معا في وجهة الطريق السلمي الديمقراطي الجماهيري لانجاز التغيير.
كاتب سوداني