كيف لأحد أن يجد الثقة في كتابة مقالة تُلخَّص في أنّ آخَر لم يقرأ كتاباً بعينه قبل الإشارة إليه في مقالة أو أنّه كتب مقالة في اتكاء على غيرها حصراً! يمكن للسيد بدر الدين عرودكي في ردّه المتوتّر على مقالتي، التخفّف من الثقة في ما قرأته وما لم أقرأه، كي يجمع قدراً أكبر من المصداقية في ما كتبه. لستُ هنا لأردّ على أحد، لكن لأعقّب باقتضاب على بعض الافتراضات الخاطئة للسيد عرودكي، بدون الإشارة بطبيعة الحال للإساءات اللفظية في مقالته، فهي تحوي ردودَها في ذاتها. أتى ردّه على مقالة لي بعنوان «ميلان كونديرا وإسرائيل» المنشورة على هذه الصفحات في الثاني عشر من هذا الشهر.
لم تكن مقالتي عن ترجمة السيد عرودكي لكتاب كونديرا، بل عن الرأي العربي السائد في كونديرا، منتقلاً من ذلك إلى مسؤوليات الترجمات والمترجمين في ذلك، وهو ما سميته بتزييف الإدراك في ترجمات ناقصة. لكن رداً كهذا من المترجم اضطرني لهذا التعقيب، متجنّباً فيه الغايات التفريغية والتصارخ الثقافوي. وهنيئاً للمترجم إشارتي له في المقالة السابقة وفي هذه، وأنا مدرك تماماً بأني ها هنا، أساهم معه في حرف مقالتي تلك عن موضوعها وتثبيت اللقطة على المترجم.
يبدأ السيد عرودكي مقالته بانتقاد ما كتبه حسن حميد ومحمَّلاً بانتقاداته تلك يُقارب مقالتي مستسهلاً، بالربط القسري بينهما، إعادة تدويرها ملقياً إياها على ما كتبتُه، فيما يظنّه توفيقاً، بانياً انتقاداته على مسلّمة أني قرأت مقالة حميد واتكأت عليها، قابضاً بشدّة على هذا الربط.
في مقالته التي نعتتني (أنا وليس ما كتبت) بـ «الجهل» ستّ مرّات مبتدئاً بالعنوان (نعم، تكلّفتُ بعدّها)، يقول بأنّي «لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب المترجم أصلاً»، ثمّ مكرّراً بأني لم أقرأها مضيفاً على «جهلي» «سوءَ نيّتي». الخبر السيئ السريع هو أنّني قرأتها، أمّا الأسوأ فهو أنّها متاحة على الإنترنت، وفي «غوغل» روابط عدّة لتحميل الكتاب وقراءته، ثمّ يؤكّد السيد عرودكي بأنّ الرقيب السوري هو من حذف المقدّمة التي انتقدتُ حذفها في مقالتي، مبرئاً نفسه.
لكنه يشير كذلك إلى أنّ المقدّمة حضرت في ترجمة أخرى ظهرت بعد طبعة «دار الأهالي» السورية بسنتين (2001). سؤالي هو إن كان بالإمكان نشر الترجمة مع المقدّمة خارج سورية لمَ يتم نشرها ناقصة في سورية؟ لكنني سأتجاوز ذلك وأقبل افتراض المترجم بأن الرقيب السوري من حذفها، لا هو كمترجم.
قلتُ سأقبل افتراضه في أن الحذف أتى من الرقيب، لا بمبادرة من المترجم يعرف بحكم الخبرة ما يمكن تقديمه وما يجب حذفه في حياة يحكمها نظام الأسد. هنا أنتقل إلى مسؤولية المترجم الذي تجاوب مع حذف الرقابة السورية للمقدمة، والذي لم يسحب ترجمته ليبحث عن ناشر آخر، المترجم هنا لم يصرّ على أمانة ما يقدّمه للقارئ العربي، وهو يدرك مسؤولية ذلك في تزييف إدراك القارئ واهتماماته، فيخرج الكتاب أخيراً حسب اقتراح الرقيب (اقتراح بمعنى الإلزام) بحذف مقدّمته، ويصل الكتاب للقارئ ناقصاً، وهذا نتاج ثقافي يتحمّل مسؤوليته المترجم أولاً كونه صاحب النتاج الصادر باسمه، المترجم الذي يتراوح تجاوبه مع الرقيب (أيّ رقيب) بين الخضوع والتواطؤ في أسوأ الحالات. هذا وما زلت متوافقاً مع المترجم في قوله بأنّ الرقيب كان خارجياً وليس ذاتياً.
أمّا الإشارة إلى أنّني، «لأسباب أجهلها تماماً» يقول، ودائماً متّكئاً في انتقاده لي على انتقاده لحسن حميد، أوحي بأن «الرقيب السوري بريء من ذلك تماماً.. ومن ثم فمن الأسلم لهما اتهامي (أي اتهام المترجم) بما قام به هذا الرقيب»، فلست بوارد التعقيب عليه، وهو تحوير للموضوع ليس في صالح السيد عرودكي، أولاً للتسييس التسطيحي لموضوع ثقافي جاد، وثانياً لموقفي الواضح من النظام والمعبَّر عنه في مقالات عديدة.
كان للسيد عرودكي ما أراد وصار المقال المكتوب عن رأي كونديرا بإسرائيل وجهل كثير من العرب بذلك وبالتالي مسؤولية الترجمات العربية القاصرة ومنها ما ترجمه، صار مقالاً عن ترجمته حصراً، وصار له أن عقّبت على بعض ما كتبه في ردّه، هنيئاً. وليسمح لي تجاوزي لإساءاته اللفظية.
كان النقاش أفيدَ لو أنه خلا من ألفاظ ليس هذا مكانها، ولو أنه خلا من افتراضات وتخمينات خاطئة تُبنى عليها مقالة كاملة (ما قرأت وما لم أقرأ)، ولو أنه خلا من ربط مجحف بين كاتبيْن يتم توسّل أحدهما للهجوم على آخر، ولا يخفي الآخر (الذي هو أنا) مقته للأوّل، ليس هذا رداً بل تعقيباً يردّ عن مقالتي «ميلان كونديرا وإسرائيل» ما أُلقي عليها من براميل غير موجّهة، تُرمى كيفما اتّفق.
كاتب فلسطيني
سليم البيك