راقصات أيامنا

ليست هناك مناسبة لكتابة هذا المقال، فليس للرقص الشرقي في ما أعرف يوم للاحتفاء به. ربما كان هذا من حسن حظ الرقص والراقصات، فأكثر الأيام لم تصل إلى هدفها السامي. يوم المرأة العالمي وما زالت النساء في الأفران. يوم السلام والحروب قائمة بالمجان، وغيرها كثير صارت لافتات يمر عليها البشر بلا اهتمام. فقط وجدت صدفة على الإنترنت صفحة للراقصة المصرية يونانية الأصل بنت الإسكندرية كيتي، أو كيتي فوتساكي، فحملتني إلى أفلام كانت رقصاتها فيها بهجة الدنيا، مع بسمتها العذبة وقدراتها الأوكروباتية التي انفردت بها عن جميع الراقصات. كنا نجري وراء أفلامها ورقصها يسبقنا في الفضاء وبسمتها.
حين اختفت من مصر في منتصف الستينيات ذاعت إشاعات أنها تورطت في شبكة جاسوسية، لكن لم يهتم أحد، فكيتي تعني فقط الرقص الشرقي الممتزج بالأداء الغربي والحركة التي هي أقرب لحركات الباليه. كانت كيتي تفعل ذلك كما لو أنها تلوك اللبان في فمها، أعادتتني صفحة كيتي التي لا تزال تعيش في اليونان، ولا صحة لكل ما أشيع عنها، إلى نعيمة عاكف الأقرب شبها بها. الوجه الآخر لكيتي في بسمتها وحركاتها وخفة دمها الفارقة. نعيمة عاكف بنت عائلة عاكف رواد السيرك في مصر والتي كنا نجري أيضا وراء أفلامها نستمتع ونضحك مع رقصها وحديثها. كان رقصها أيضا مزيجا من الرقص الشرقي والباليه وعرفتها المهرجانات العالمية. لا أنسى رقصتها في فيلم «بحر الغرام» التي لخصت على صخور الشاطئ القدرة المذهلة على إيقاع حركة الجسد، والمدهش أن هذا الفليم ليس له شهرة أفلام أخرى لها مثل «لهاليبو» أو «تمر حنة» أو «أربع بنات وضابط « مثلا. شاع عنها أنها ذات مرة وهي في سيارتها خلف السائق كان صلاح سالم أحد رجل ثورة يوليو يقود سيارته مسرعا، فكادت تصطم بسيارتها. شتمه السائق فتابعه صلاح سالم حتى إذا توقف عند أحد المحلات نزل صلاح سالم وراءهما يعاتبها فشتمته، ففقد أعصابه وصفعها على وجهها، وهو لا يعرف من هي، وهي لا تعرف من هو، بل هجمت عليه تحاول ضربه. يقول اللواء جمال القاضي أحد رجال البوليس الحربي أنه بعد اتصال من صلاح سالم به تم القبض عليها، ووجد طريقة لإرضاء صلاح سالم أن تكتب له اعتذارا، ففوجئ بها لا تجيد الكتابة والقراءة. أمسك بيدها وكتب اعتذارا رومانسيا، وذهب به إلى اجتماع لمجلس قيادة الثورة وعفا عنها عبد الناصر. شاعت قصة أخرى عن المسألة أنها في نادي الجزيرة ركنت سيارتها في مكان مخصص لصلاح سالم، فقُبض عليها ووضعت في السجن الحربي، وأن مصطفى أمين أخبر عبد الناصر، فطلب منه أن تكتب اعتذارا فكتبه لها وبصمت عليه هي التي لا تعرف القراءة. المهم في القصة أنها لم تكن تعرف القراءة، رغم أنها تتحدث الفرنسية والإنكليزية وطبعا العربية. ماتت نعيمة عاكف صغيرة في السابعة والثلاثين من عمرها عام 1966، وهي من مواليد 1929 بسب السرطان. رقصها لم يكن رقصا شرقيا عاديا كما هو شائع عن الرقص الشرقي من هز أعطاف أو أرداف فقط، لكن أقرب إلى فن الباليه كما قلت، وساعدها أنها لاعبة سيرك من عائلة لها دورها الكبير في إرساء هذا الفن. لم يكن في رقصها أي ايحاءات جنسية كما يتوقع مشاهدي الرقص الشرقي، بل كان تعبيرا سينمائيا حقيقيا عن الشخصية وحالتها.

أنتقل إلى تحية كاريوكا. الحديث عن حياتها طويل، لكن المهم أنها عرفت الطريق إلى بديعة مصابني أيضا، عرفت باسم تحية كاريوكا بعد أن رقصت رقصة الكاريوكا العالمية عام 1940. تزوجت أكثر من خمس عشرة مرة، ودون أسماء للأزواج لا أنسى أني رأيتها مرة في حديث تلفزيوني، وقد سألها المذيع عن ذلك فقالت «كلهم زفت ماعدا رشدي أباظة».

لقد كان حظي في بداية الثمانينيات أن كنت أعمل في الثقافة الجماهيرية، وكانت تقيم سرادقا للفنون في حديقة الدراسة. كنت أقوم بتقديم نجوم الحفل، وكان عدد من شباب عائلة عاكف يقدمون شيئا من فنون السيرك، فكنت أقدمهم سعيدا كأني أقدم نعيمة عاكف نفسها. كنت أفرح بقدومهم كما لو كانت نعيمة عاكف حية بيننا. أنتقل إلى سامية جمال التي حفرت لها مكانا لا يُبارَى في الرقص الشرقي، بدأت حياتها مع فرقة بديعة مصابني وشكلت مع فريد الأطرش ثنائيا جميلا هو بالغناء وهي بالرقص، وأقول غير خجلان أنها هي التي كانت تعينني على تحمل غناء فريد الأطرش. فريد الأطرش كان يشكل لي مشكلة، فأغانيه الحزينة كانت تؤلمني، ورغم أن أغانيه غير الحزينة كثيرة، إلا أن صوته كان لا يبتعد في لحنه عن صوته الحزين. هي طبعا مسألة نسبية في التلقي من شخص لآخر، لكن هكذا كنت وما زلت للأسف مع فريد الأطرش. كانت أفلامه مع سامية جمال تأخذنا فيها برقصها بعيدا عن إيقاع صوته حتى في أغانيه المفرحة. أفلام مثل «تعإلى سلم» و»عفريتة هانم» و»آخر كدبة» و»ماتقولش لحد».
على الهامش كان حوار تلك الأفلام وغيرها مما لا يُنسى في جماله وكلماته وتعبيراته، وكان مؤلفون مثل أبو السعود الإبياري يمسكون بالذهب في حوار الشخصيات. كان رقص سامية جمال أيضا معبرا بالجسد عن حالة الشخصية، أو ما أمامنا من مواقف مبهجة أو مؤلمة أو توقع وإنذار بما سيأتي. بالطبع كان هناك أثر للملابس والموسيقى والراقصات أحيانا، اللاتي يشكلن تابلوهات خلف سامية جمال أو كيتي أو نعيمة عاكف، لكن الثلاثة كن يمزجن بين الرقص الشرقي وحركة الجسد الأقرب إلى الرقص الغربي أو الباليه، ومن هنا كان يحملنا الرقص بعيدا عن الجسد. وفي غير أفلامها مع فريد الأطرش الذي لم تشاركه إلا ستة أفلام، كانت رقصاتها معبرة عن الحالة التي أمامنا. تعبيراتها بالرقص تجلت في أفلام كثيرة منها مثلا فيلم «القطار» مع عماد حمدي ورقصتها العظيمة وهو يدخل إلى ملهي ليلي ينتظره فيه أعداؤه، وكيف عبرت بجسدها وذراعيها في إشارات ملهمة له أن يتراجع ويبتعد. كذلك كان رقصها في فيلم «أمير الانتقام» مع أنور وجدي وكل أفلامها.
أنتقل إلى تحية كاريوكا. الحديث عن حياتها طويل، لكن المهم أنها عرفت الطريق إلى بديعة مصابني أيضا، عرفت باسم تحية كاريوكا بعد أن رقصت رقصة الكاريوكا العالمية عام 1940. تزوجت أكثر من خمس عشرة مرة، ودون أسماء للأزواج لا أنسى أني رأيتها مرة في حديث تلفزيوني، وقد سألها المذيع عن ذلك فقالت «كلهم زفت ماعدا رشدي أباظة». كان رقصها هادئا ليس فيه سرعة سامية جمال أو كيتي أو نعيمة عاكف، لكن كان حضورها الفني في التمثيل يجعلنا نجري وراءها. كانت ذات كاريزما فائقة. ذاعت عنها أخبار كثيرة صحيحة وغير صحيحة، مثل ضربها بالشبشب للفنانة اليزابيث تايلور حين سخرت من مصر في مهرجان كان عام 1956 حيث عرض فيلم «شباب امرأة» لكن ذلك لم يكن صحيحا رغم أنه يتسق مع شخصيتها القوية. كان لها دور في المقاومة الشعبية للإنكليز قبل ثورة يوليو/تموز فكان رجال المقاومة يخبئون عندها السلاح، واختبأ السادات في مزرعتهم في الإسماعيلية حين كان هاربا، لذلك كانت لا تخشى رجال الثورة. حين حدثت ثورة يوليو قالت «شيلنا الملك وجبنا 14 ملك» تقصد مجلس قيادة الثورة، لأنها رأت أن البلد يدخل في طريق الديكتاتورية، وأنا أصدق هذه المقولة فهي تتسق معها. تم القبض عليها عام 1959 مع مئات الكتّاب والفنانين بتهمة الشيوعية، اتهمت بالانتماء لتنظيم «حدتو» الشيوعي ثم أفرج عنها. لها مع مبارك مواقف شجاعة في اعتصام الفنانين عام 1988 احتجاجا على قانون متعسف في شروط انتخاب رئيس النقابة. أضربت عن الطعام فاتصل بها مبارك يقول لها، هل يرضيكِ أن يقال إن تحية كانت تأكل في عهد ناصر والسادات ولا تأكل في عهد مبارك؟ حكايات كثيرة تروى عنها لكن المهم أنها كانت من ساحرات أيامنا. رحم الله الجميع مصدر بهجتنا اللاتي كانت تتسع بهن الحياة رغم أيّ آلام.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكرًا أخي عبد المجيد إبراهيم. كل المحبة لهذا المقال الذي أخذنا إلى الفرح والفن وفن الرقص الشرقي خاصًة والذي هو من ثقافتنا وهويتنا وليس كما ينظر إليه بعين “السوء”. تفاجئت بأنني اتفق معك تماما بخصوص أغاني فريد الأطرش!. لقد عرفت بعض هذه الأفلام والراقصات متأخرًا بعد أن اتشر التلفاز في سبيعينات القرن الماضي قي القرى خاصًة. كم هي جميلة هذه الأفلام وهذا الفن الذي بدأ يصطدم للأسق فيما بعد وإلى يومنا هذا ببعض التفكير الذي عفى عليه الزمن. لاأرى خلاصًا من واقعنا المآساوي إلا بالحريات والتحرر كما تتطلبه الحياة المعاصرة. بالتوازي طبعًا مع نظام سياسي معاصر يضمن ويحافظ على هذه الحريات وعلى حرية وكرامة المواطن ويعمل لخدمنه ورفاهية المجتمع.

إشترك في قائمتنا البريدية