خاض معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدور الثاني من الانتخابات الفرنسية على قاعدة استنفار الحساسية «الجمهورية» ضد اليمين المتطرّف، بل أبدى الرئيس تفهّمه وامتنانه لأن أخصامه في الدور الأول الذين دعوا إما للتصويت له جهاراً في الدور الثاني، وإما إلى حجب أي صوت عن غريمته اليمينية القصوية مارين لوبان، يفعلون ذلك بداعي حماية «الجمهورية» وليس بداعي الاقتناع بخياراته وسياساته هو.
لكن معسكر ماكرون عاد فتعسّف في الاستخدام الكيفي للحساسية «الجمهورية» عندما حلّت الانتخابات التشريعية. إذ جرى توظيفها بالدرجة الأولى ضد الائتلاف اليساري NUPES أي ضد «الاتحاد الشعبي الجديد الاجتماعي والبيئي» الذي يهيمن عليه حزب «فرنسا الأبية» بقيادة جان لوك ميلانشون، لكنه يضم أيضاً الحزبين الاشتراكي والشيوعي والبيئيين وتلاوين أخرى.
خاض الماكرونيون الانتخابات التشريعية على أساس أنهم يمثلون الاعتدال والعقلانية والتوازن في مقابل تطرفين غير مسؤولين، أحدهما على يسارهم والثاني على يمينهم. أي جرت المعادلة بين أناس سبق لهم قبل أسابيع قليلة أن صوتوا «اضطرارياً» لماكرون نفسه ضد لوبان، وبين الذين صوتوا للوبان أو لاريك زيمور على يمينها.
هذا في وقت يتعامل فيه اليمين المتطرف مع الماكرونيين على أنهم بالأحرى من اليسار على المستوى القيمي، ولو كانوا نيوليبراليين متطرفين على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، كيف لا وماكرون نفسه مرّ بالحزب الاشتراكي، وعمل مستشارا لرئيس الجمهورية الاشتراكي فرنسوا اولاند ثم وزير اقتصاد وصناعة وشؤون رقمية في حكومة الاشتراكي (وقتذاك) ايمانويل فالس.
لكن معركة الماكرونيين في الانتخابات التشريعية خيضت بشكل أساسي ضد اليسار هذه المرة، والدعوة إلى نبذ التطرفين اليميني واليساري كانت موظفة عملياً لصد اليسار، في حين حصل تبادل الاصوات بشكل أوسع بين «الجمهوريين» على يمين ماكرون وبين اليمين المتطرف (التجمع الوطني).
لأجل ذلك اتسمت بالكاريكاتورية هذه المعادلة بين الاتحاد الشعبي الجديد الذي شكّل ائتلاف يساريا واسعاً وبين اليمين المتطرف. فمن يقود الائتلاف، أي جان لوك ميلانشون، قادم من تجربة وزارية في حكومات الحزب الاشتراكي، «الاستلبشمنتي» بامتياز، ولو أنه ذهب بعد ذلك في الإتجاه الشعبوي النسبيّ. لكن المنسوب الشعبوي لا يذهب في حالة حزبه، «فرنسا الأبية» إلى حد التشكيك بلعبة المؤسسات بل يركز على العمل من خلالها بشكل تام. ولو أنه نادى في حال وصوله إلى رئاسة الجمهورية بالعمل على الانتقال من دستور الجمهورية الخامسة، 1958 إلى دستور جديد تضعه جمعية تأسيسية، وإلى استحداث حق عزل أي منتخب خلال ولايته بمبادرة من القاعدة الانتخابية لطلب إجراء استفتاء. لكن ميلانشون يحاجج ضد الجمهورية الخامسة باعتبارها نظاماً ملكياً موارباً، وينادي بنموذج يكون أكثر جمهورية، بل أكثر برلمانية، بحيث ينتخب البرلمان رأساً رئيس الحكومة، وليست هذه من سمات الطروح الشعبوية، التي تميل بالأحرى إلى المزيد من التفويض للممسك بالسلطة التنفيذية ان هو اعتُبر «تجسيداً» للارادة الشعبية.
ثم أن ميلانشون من المواظبين في اليسار الفرنسي على الدفاع عن تجربة أول رئيس يساري استطاع الوصول إلى السدّة في الجمهورية الخامسة، فرنسوا ميتران، بل يعتبر نفسه ميترانياً بامتياز، ولا يزال يرى ان لحظة 1981 أي فوز ميتران بالرئاسة، شكلت صفعة قوية لليمين على اليسار إعادة استيعابها وتمثلها لأجل تكرارها من جديد. لأجل ذلك، من العجيب رمي شخص ينادي بالميترانية كنموذج على أنه يمثل نظيراً يسارياً متطرفاً لليمين المتطرف. لكن الأمر يدل أيضاً على انزياح كامل المشهد باتجاه اليمين أكثر فأكثر. إلى الدرجة التي يمكنك ان تعتبر فيها أن مستلهمي الميترانية، وليس الماويين مثلا أو التروتسكيين أو الفوضويين، هم اليسار المتطرف.
ثم أن الحزب الاشتراكي نفسه كان جزءاً من هذا الائتلاف الذي يقوده ميلانشون، مثلما انخرط في الائتلاف نفسه الحزب الشيوعي الفرنسي. وهكذا جرى تصوير هذا الائتلاف الذي يحاكي تجربة كوربين في حزب العمال البريطاني، أو بوديموس في اسبانيا أو سيريزا في اليونان، على أنه «يسار متطرف» في حين درجت العادة في فرنسا سابقاً على ربط التصنيف باليسار المتطرف بكل من هو على يسار الحزب الشيوعي، بل ان معظم أقصى اليسار دعا عام 2002 إلى التصويت في الدور الثاني لجاك شيراك في مواجهة جان ماري لوبان، وتكرر المشهد عامي 2017 و2022 ضد مارين لوبان. انما لتكون النتيجة هذه المرة هي الترويج لخطاب المماثلة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.
وبالحصيلة، جاء توزيع مقاعد الجمعية الوطنية الجديدة محبطاً للماكرونيين بالدرجة الأولى، ومخيباً لمن صدّق دعايته الانتخابية التي كانت تمني النفس بفرض ميلانشون رئيساً للحكومة يساكن ماكرون في اليسار.
التأليف بين الديغولية والميترانية
خسر حزب الرئيس الأكثرية المطلقة من عدد النواب وباتت أكثريته نسبية، متأرجحة، تحت طائلة التعرض للحصار من على يسارها ويمينها «معاً». لقد روّج ماكرون عشية وصوله إلى الرئاسة أول مرة أنه قادر على التأليف بين الديغولية وبين الميترانية في شخصه وتوجهاته، واستطاع على هذا الأساس تشكيل الحالة المتحلقة حوله، متبنياً وجهة الدفاع عن دستور الجمهورية الخامسة، والرأي القائل بأن أي بحث عن تجاوزها هو العودة بالأمور إلى ما سبقها من تجارب غير مستقرة. كذلك تبنى ماكرون نهج الاستمرار بالبناء الأوروبي المشترك، في مواجهة نزعة محاكاة البريكسيت البريطاني في فرنسا.
كل هذا التركيب جعله متجاوزا إلى حد كبير لثنائية اليمين واليسار كما درجت عليها الحال قبل وصوله، بين حزبية يمينية متأرجحة بين الديغولية والنيوليبرالية وبين حزبية اشتراكية يزداد لونها الاجتماعي تحللا. مع هذا، عندما انطلقت حركة السترات الصفر الاجتماعية الاحتجاجية، وجد الماكرونيون أن الانسب لهم وصم الحركة ككل بأنها متواطئة مع اليمين المتطرف، مثلما وجدوا أن الأنسب لهم في الاستحقاقات الانتخابية تحريك الحساسية الجمهورية تارة ضد اليمين المتطرف وتارة ضد اليمين المتطرف وضد اليسار المؤتلف، على قاعدة المساواة بين هذا وذاك، وفي هذه المساواة انزلاق كبير باتجاه المزيد من اليمينية في الخطاب وفي المسلك.
رغم خسارتها الأكثرية المطلقة من عدد النواب، تسعى الحالة الماكرونية إلى تسويغ استمراريتها ومشروعيتها بكونها الاعتدال المسؤول في مواجهة مزايدين ومتطرفين من على يسارها ومن على يمينها، مطمئنة في الوقت نفسه إلى انها يمكن ان تخسر الاكثرية عندما يتقدم اليمين المتطرف من جهة واليسار المؤتلف من جهة ثانية، إلا انه ليس بالوسع محاصرتها من طرف الغلاة من الجانبين، طالما أنه يمكن لليسار الجذري واليمين المتطرف التلاقي بأي شكل، مع التذكير بأن الماكرونية غمزت في الوقت نفسه من قناة امكانية التلاقي بين هذا وذاك، كما في احتجاجية السترات الصفر، بالاضافة إلى عناصر الشبه بين موقفي لوبان وميلونشون من سوريا وأوكرانيا. لكن هذا الشبه هو من النوع الذي يجعل اليسار في حالة دفاعية، مهمومة بنفيه طول الوقت. بالتالي، هناك اطمئنان داخلي نسبي عند الماكرونيين بأن «حصار» قلعة الوسطية من جانبيها لا يمكنه ان يكتمل، وكل تطرف كفيل بتكبيل التطرف الآخر. لا خطر على الجمهورية الخامسة في هذه الحالة طالما لا خطر بأن يجتمع عليها اليمين واليسار القصويين. وطالما انه يمكن في الوقت نفسه للخيمة الكبيرة الماكرونية استخدام الدعاية المزدوجة ضد اليمين واليسار القصويين معاً، بذريعة الحفاظ على «الجمهورية»، أي الحفاظ على ما ينعته اليساريون بأنه ملكية أورليانية عادت فأطلت بطيفها مع ايمانويل ماكرون.
هل يمتنع والحال هذه أي تلاق بين من هم على يسار يسار المشهد وبين من هم على يمين يمينه؟ التطبيق الحرفي لتلاقي الأضداد ليس سهلاً. لكن في المقابل جرى الخوض في هذا الموضوع سابقاً في حقل مؤطر أكاديمياً متصل بالتأريخ للتيارات الفكرية – السياسية الفرنسية. فالموضوع يتصل بشكل أساسي بتكوين اليمين الفرنسي.
فقد ساد مطولا التصنيف الذي اعتمده مؤرخ الأفكار الفرنسي رينيه ريمون لليمين في فرنسا، أنه ينقسم إلى ثلاثة تقاليد رئيسية ملكي – تقليدي، وليبرالي، وبونابرتي. سمح هذا المنظار بالحديث عن استمرارية تاريخية تمتد من البونابرتية إلى الديغولية، وتتسم بالانقباض تجاه البرلمانية، والتوق للحكم التنفيذي القوي المسند بالتفويض الشعبي. كما سمح هذا المنظار بارجاع ظواهر اليمين المتطرف الفرنسية إلى خط الثورة المضادة، وبالتالي اعتبارها استمرارية للملكيين المهزومين، ما يعني عملياً إبعاد تهمة الفاشية عنها. كذلك سمح منظار رينيه ريمون بتصوير ان هناك تقليدا ليبراليا فرنسيا هو ابن التجربة الملكية الدستورية الأورليانية ويمكن تقصيه من ثورة يوليو 1830 وفرنسوا غيزو حتى فاليري جيسكار ديستان في السبعينيات. رغم عدم كفاية هذا المنظار الثلاثي، لكنه لا يمكن الاعراض عنه إذا ما ابتغينا ليس فقط فهم تيارات اليمين الفرنسي، بل كذلك الأمر إذا ما أردنا فهم تحدر الماكرونية، فهي، مع شيء قليل من المسحة اليسارية، تبقى أقرب إلى الخط اليميني الأورلياني الليبرالي في تقسيمات رينيه ريمون، انما مع شيء من التقوي بالروحية البونابرتية – الديغولية، أقله على مستوى المؤثرات المتعلقة بالرئاسة القوية، ورد الاعتبار للتنفيذي في مقابل التشريعي.
بيد انه في مقابل التقليد الذي أرساه المؤرخ الفرنسي رينيه ريمون حول تصانيف اليمين الفرنسي، فقد عمد المؤرخ الإسرائيلي زئيف شترنهل إلى تقديم تصور مختلف. لم يعجب شترنهل ان تصانيف ريمون تؤدي في النهاية إلى تبرئة الفرنسيين من أي ضلوع في إنشاء الفاشية. بالعكس، ذهب شترنهل إلى ان فرنسا شكلت المختبر الأولي للفاشية قبل ان يقتبس الإيطاليون الفكرة ويجري توطيدها كحركة وكنظام. بالنسبة إلى شترنهل، حصل انقسام في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا بين يمينين، أحدهما يمين محافظ والثاني هو «اليمين الثوري». هذا اليمين الثوري لم تعد فكرته العودة إلى النظام القديم، بل أخذ يلوم النظام الملكي القديم على كوزموبوليتيته واستنارته التي أتت عليه بالخراب. احتقر هذا اليمين الثوري البرلمانية كما العقلانية، واستلهم شيئا من فلسفة برغسون حول أهمية الحدس، لكن الأهم أنه بادر للتقرب من يسار اليسار، إلى الدرجة التي احتفى بها ادوارد برث الذي جسد هذه الخلطة بين التطرفين، بما اعتبره في كتابه «مساوئ المثقفين» التقاء الحركتين المتزامنتين، «القادمة واحدة من أقصى اليمين والثانية من أقصى اليسار، لمباشرة الهجوم على الديمقراطية البرلمانية لأجل تحقيق الخلاص».
لم نعد بالتأكيد عام 1911 حين تلاقت شخصيات من اليمين المتطرف واليسار المتطرف في «حلقة برودون» بفرنسا للعمل المشترك ضد الجمهورية البرلمانية. والأحرى القول ان تحريك فزاعة التلاقي بين أقصى اليمين وأقصى اليسار هو من حيل المركز الوسطي المهيمن، والمنزاح أكثر فأكثر باتجاه اليمين. في الوقت نفسه، لا يمكن الاستبعاد رأساً ومسبقاً ان لا يسهم انتشاء الراديكاليتين اليمينية واليسارية في إنتاج خليط هجين بينهما، قد يكون أقل مطواعية للقدرة على التحكم به.