في أواخر تسعينيات القرن الماضي تساءلتُ أمام المؤتمر القومي العربي: هل يتغيّر العرب؟ بعد نحو ربع قرن وجدتني أتساءل مجدداً أمام المؤتمر القومي العربي المنعقد منتصفَ الأسبوع الماضي في بيروت: هل يتغيّر العرب؟ لماذا السؤال نفسه؟ لأننا، نحن العرب، ما زلنا في محنة.
الخروج من المحنة يتطلّب مراجعة تجربتنا الحضارية بكل أبعادها.. المراجعة تتطلب نقداً، والنقد يتطلب تشخيصاً لما نحن فيه واستشرافاً لما يجب أن نكون عليه. التغيّر يبدأ بالحرية، الحرية هي المبتدأ والخبر، هي الانعتاق من الارتهان لثالوث التقليد الجامد والسلطان الجائر والعدو الطامع.
تسبّب أولياء التقليد والسلطان (بمعنى السلطة) والعدو الخارجي في استلاب العرب والمسلمين حريتهم وأرضهم ومواردهم الطبيعية على مرّ التاريخ. كوابح التقليد عزَّزت جور السلطان، وجور السلطان أعطى العدو الخارجي ذريعة للتفريق، ومدخلاً للتسلّل والسيطرة. جمود التقليد حمى جور السلاطين، وهادن مطامع العداء الخارجيين، وعطّل التجديد. التقليد هو «بطل» الأمة الوحيد الذي لم يعرف الهزيمة منذ اكثر من قرون خمسة. في ظل التقليد وانتفاء التجديد، وجور السلاطين ومطامع الأعداء، غابت الحرية أو غُيبت.. هل من تراث للحرية في تجربتنا الحضارية؟
كلا. ثمة بديل للحرية في تراثنا هو الطاعة، السلطان يقرِّر والرعية تطيع، إذا أصاب السلطان قيل إن مردّه الى مقدرة فيه وموهبة، وإذا أخفق، قيل إنها إرادة الله أو ضربة القدر، الطاعة في ماضينا وحاضرنا هي القاعدة، الحرية هي الاستثناء. وفق هذا المفهوم المتخلّف للسلطة والسلطان، أصبح للأصالة معنى وحيد هو الإيغال في ممارسة الطاعة، الطاعة للسلطان والطاعة للنص الذي جرى تأويله لمصلحة السلطان. في المقابل، أصبح للحرية مدلول رامز: التمرد على التأويل السلطاني للنص، بمعنى التمرّد على جمود التقليد وجور السلطان، والانطلاق إلى اكتناه الحداثة، غير ان العرب والمسلمين أخفقوا في اكتناه الحداثة مثلما أخفقوا في طلب الحرية، السبب؟ تلازم مزمن في ثقافتهم بين الحداثة والعدو الخارجي، فقد شقّ عليهم أن يطلبوا الدواء ممن اعتبروه مصدراً للداء! هكذا خسر العرب والمسلمون الحرية والحداثة معاً، خسروا الحرية بسبب التقليد الكابح الذي فرض عليهم ثقافة الطاعة، وخسروا الحداثة بسبب من التقليد الجامد والسلطان الجائر. يتحصّل من هذه التجربة البائسة درس ساطع: أنْ لا سبيل إلى التغيّر إلاّ بنقد التقليد وإزالة كوابحه وتجاوز جوانبه الشائخة، وأن لا سبيل الى النقد إلاّ بفك الارتهان للتقليد الجامد والسلطان الجائر وممارسة الحق في الحرية بوتيرة تعادل الحق في الحياة. إن اختيار الحرية يفضي الى حرية الاختيار، ذلك أن الاختيار يتيح بطبيعته فرصاً للإبداع، بينما الطاعة تغصّ بطبيعتها بضوابط الاستتباع. الحرية خلق وابتكار.. الطاعة تسليم وامتثال. منذ أجيال وقرون يراوح العرب في مستنقع الركود، فالتقليد يعادي التجديد، والسلطان يحاذر الحداثة لئلا «يتسلل» عبرها العدو إلى عقر الدار. التقليد الخائف من التجديد لا ينتج إلاّ ألواناً من الطاعة، والسلطان الخائف من العدو الخارجي يخشى الحرية ولا يرتاح إلى الحداثة، وثقافة الطاعة عطّلت نصف الأمة بحرمان المرأة من حقوقها وحريتها، فتكون النتيجة بالضرورة مزيداً من الركود والتخلّف، ومزيداً من الطاعة والاستتباع، أي المزيد من الضعف الشامل الذي شكّل للأعداء الطامعين دافعاً قوياً وإغراء لا يقاوم للحرب والاحتلال والسيطرة والهيمنة.
هل يتغيّر العرب؟
بعد عصور من الركود والاستبداد والاستعمار، آن أوان التغيّر بحرية وإرادة.. آن أوان التغيّر بالشعب وللشعب.. التغيّر بالحرية وللحرية، فهي المبتدأ والخبر
التغيّر استحقاق تاريخي تأخّر أجيالاً وقروناً، ومع ذلك ما زال مطلباً مصيرياً وحاجة استراتيجية لها طعم الحياة والموت: نتغيّر فنحيا، لا نتغير فنموت. كيف نتغيّر اذن؟
التغيّر إرادة وآلية «مكانيزم» في آن، هو للفرد المستنير فعلُ ذاتٍ مترعة بثقافة النقد ونقد الثقافة والممارسة. هو للجماعة الواعية نهج وآلية لتجاوز التقليد الجامد والسلطان الجائر واغتنام لحظة تاريخية لمواجهة عدو طامع، واكتناه حداثة مجزية، وإسهام في الإبداع الحضاري. في مسار التغيّر، على مستوى الفرد والجماعة، ليس ثمة خروج من التراث، بل خروج على جوانبه الشائخة، ليس ثمة تقبّل لكل مضامين الحداثة بل اكتناه لأفضل وجوهها النافعة. عندما يحدث خروج كامل من التراث، أو يحدث تقبّل كامل للحداثة خارج شروط الزمان والمكان واحتياجات الناس، يكون ثمة خلل يستوجب تصحيحاً وتصويباً. لعلّ تجربة تركيا الكمالية هي مثال على خلل في الخروج الكامل من التراث، ومثال على خلل في الاستقبال الكامل للحداثة. في المقابل، تبدو ماليزيا مثالا مغايرا على خروج محسوب على جمود التراث، واستقبال موزون لمضامين الحداثة. غير أن للتغيّر شرطاً أساساً في تجربة الفرد المستنير والجماعة الواعية هو الحرية، الحرية بما هي انعتاق من الارتهان لأي تقليد جامد وسلطان جائر وعدو طامع. الحرية بما هي القدرة على الاختيار وعلى اتخاذ القرار. الحرية قيمة وحاجة. إنها قيمة بذاتها نابعة من طبيعة هذا الكون المبني على التنوع والتعدد، ففي التنوع بدائل وخيارات تقابلها قدرات واختيارات. آفة العرب والمسلمين ارتهانهم المزمن للتقليد الجامد والسلطان الجائر، والعدو الطامع سحابة عصور وقرون، ما أفقدهم حريتهم وعطّل وجودهم الحضاري وشلّ اجتماعهم السياسي. السبيل إلى التغيّر الحضاري المتكامل والمثمر هو في تقبّل الحرية كقيمة وحاجة معاً على مستوى الفرد والجماعة، وفي مؤسسسات المجتمع.
من أين نبدأ؟
نبدأ في أي زمان ومن أي مكان، القرار في هذا المجال قرار فردي، كما هو قرار جماعي، يتخذه الأحياء والأحرار في نفوسهم، أفراداً وجماعات. لا شكل معين لقرار التغيّر، إنه إرادة فعل، يباشرها الفرد كما الجماعة في لحظة، أو على مراحل، وتتراكم مفاعيلها ونتائجها في مسار مديد وتؤتي ثمارها عاجلاً او آجلاً، غير أن شرط الفعالية والإنتاجية يكمن في التنظيم والانفتاح على الناس ومخاطبتهم بلغتهم، والانفتاح على العصر والتكلم بلغته، والتحاور مع مرجعياته في شتى الميادين، ومواجهة تحدياته ومشاكله، واقتباس إنجازاته وإتقان صنعها ذاتياً. بمقدار ما يكون التغيّر نتيجةَ تنظيم، أو حركة ناهضة بموجباته، تمور في داخلها حريةً كاملة وديمقراطية تعبيرية وتقريرية، بمقدار ما تتأمن وفرة في الفعالية والإنتاجية وسرعة في التثمير والحصاد. للمشاركة صيغ وأشكال متعددة، غير ان أفضلها وأفعلها ما يضمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته في آن. من هنا تستبين فعالية صيغة التمثيل النسبي في انتخابات ديمقراطية على جميع المستويات، تكفل أوسع مشاركة بانورامية لشتى فئات مجتمعاتنا التعددية وقواها الحية. بمثل هذه المشاركة الحرة والواسعة يمكن مباشرة عملية إعادة التأسيس على مستوى مؤسسات المجتمع والدولة. لكن، ماذا لو قاوم أولياء التقليد الجامد والسلطان الجائر والعدو الطامح، مسارَ الحرية والعملية الديمقراطية؟ في هذه الحال، لا مناص للقوى الحية من أنصار التجديد والديمقراطية من أن يمارسوا في مواجهة الخصوم نهج الممانعة والمقاطعة والمقاومة. الممانعة تعني المعارضة بكل أشكالها. المقاطعة تعني العصيان المدني والرفض الهادف المبرمج لمنتوجات العدو. المقاومة تعني الكفاح المسلح شريطة أن يُعتمد في سياق الدفاع عن النفس، ولا بأس في أن يدفع طلاب الحرية والديمقراطية ثمناً لمطلبيهما الغاليين، إنهما تستحقان أغلى التضحيات من أجل خروج الأمة، أفراداً وجماعات، من مستنقع الركود إلى فضاء النهوض. بعد عصور وقرون من الركود والاستبداد والاستعمار، آن أوان التغيّر بحرية إرادة وعزيمة جادة.. آن أوان التغيّر بالشعب وللشعب. التغيّر بالحرية وللحرية. فالحرية هي المبتدأ والخبر.
التقليد الجامد من خلفنا، والسلطان الجائر من أمامنا، والاستعمار الطامع بين ظهرانينا، فلنحرق مراكبنا المثقوبة ولنقرّر مصيرنا بحرية إرادتنا، ولنسلك طريق الحرية بلا هوادة حتى النصر أو الشهادة.
كاتب لبناني
تحليل فى منتهى الدقة…صعب على الفرد العربى أن يطالب بالحرية …ولكن عليه تمنيها…. والجماعة هم من يخطون الخطوة الأولى الجريئة نحو الحرية..هذا ما بدأ يتمحور مع اندلاع ربيع العرب..هل انتهى الربيع ؟ أنه لم يبدأ بعد
عندما دخلت تركيا والأرجنتين ودول أخرى بمجموعة العشرين كانت ذات اقتصادات صاعدة ولكن الآن تردى وضعها الاقتصادي ولم تعد تستحق العضوية، وبالمقابل نهض اقتصاد 4 دول 3 منها عربية تستحق العضوية فحققت النرويج والإمارات والكويت نهضة تراكمية ونمت استثمارات صناديقها السيادية فلكيا وأطلقت مصر نهضة كبرى يدعمها كشف حقول غاز تريليونية واستمرت السعودية باستحقاق عضويتها بنجاح وتنفذ مشروع نهضة تريليوني متعدد أبعاد ينهي هيمنة الغرب ويقيم علاقات مع الشرق ويتيح إقامة أوروبا جديدة بالشرق الأوسط بديل لأوروبا العجوز.
. ماداما العرب يعتمدون على شيء غربي،مثال على ذالك نسخ الأنماط الحزبية،الاديولوجيا الغربية التي في الغالب كل الدول تخلت عنها ونحن مازلنا نجترها، مثلا القومية،الماركسية،إلى آخر ذالك. ولا ننسى قوة الدول ليس المل الوفير بل كم تسطيع ان تؤثر في الدول الأخرى بصناعتك،بتعليمك،بصحتك،بزارعتك،…
وللأسف لا توجد دولة عربية واحدة لها هذه العنصر. لكي تأكد من ذالك، ان اندثرة الدول العربية من صطح المعمورة هل سيتوقف العالم …