كتب وجدي الأهدل على صفحته تويتر: «ناقد مبتدئ خاض معي نقاشا حول واحدة من رواياتي، فكان يخلط بيني وبين بطل الرواية! لا شكّ في أنّه لا يصلح ناقداً محترماً، لأنّه محروم من نعمة الخيال، فهو وأمثاله لا يتصورون أن في إمكان الروائي خلق شخصية كاملة الأهلية، تتمتّع بالاستقلال الذاتي عن ذات المؤلّف».
هذا مختصر مصيبة الروائيين العرب منذ بدأت الرواية تزدهر وتنتشر في العالم العربي، إذ لا يتوقف الإسقاط النّقدي على اعتبار أي نتاج روائي له علاقة بالكاتب وبشخصيته، ولعلّ الأمر كان سيكون مقبولا لولا التُّهم التي تلاحق البعض بسبب شخصياتٍ أدبية لا علاقة لها بالواقع بتاتا. بعض الروائيين يلجأ إلى توضيح مسبق، مشيرا إلى أن أي تطابق مع الواقع فهو محض مصادفة، خوفا من أن تزجَّ به التهم في نفق مظلم لا مخرج منه.
وجدي الأهدل نفسه لديه قصّة يعرفها القاصي والدّاني حول إمكانية قلب حياة كاتب بسبب قراءة إعلامية خاطئة لأي نص أدبي، ووضع حياته على فوّهة الخطر. أمّا عن النّقد فأعتقد أنه تراجع كثيرا حتى أصبح سطحيا بمستوى القراءات الانطباعية، التي لا تتوقف عند عتبات النصوص دون فهم مغزاها، ومن العيب هنا أن نجرّ الكاتب إلى حلبة محاكمة، كما لو أنه مجرم ونحقق معه بشأن شخصياته، بل ننزل به أشد العقاب، لأنّها لم تحسن التّصرُّف، مع إغفال مقصود ومتعَمّد لكل ما يحدث في الواقع من سلوكات يندى لها الجبين. صحيح أنّ الحقيقي والخيالي يشكِّلان كُلاًّ لا ينفصل، لكن علينا أن نعرف أن هذا الخيالي مجرّد انعكاس للحقيقي، في الغالب كسر المرآة لا يغيّر من حقيقتنا، لقد وجدت المرآة لنحسّن صورتنا الحقيقية، فهل يمكن تقريب هذه الصورة للقارئ، الذي يعتقد أن شخصيات أي قصة مكتوبة لا تمثل سوى الكاتب وبعض معارفه؟
هذا الموضوع يسميه بول ريكور «الابتكار الدلالي» وقد وضع هذا المفهوم لتعريف تأثير الاستعارة في الخطاب الشعري، كونه «يحدّد الفعل الذي يجلب الصورة إلى المعنى» هذه الاستعارة تثير صدمة للقارئ الذي ينتقل من الحدث إلى عالم اللغة. وإن كان ريكور يقودنا على درب سهلة لاستيعاب تداخل المخيلة بالواقع، من خلال استعارة المفردات، فإنّه أيضا يعلّمنا أن «بحر الكلمات» مثلا لا وجود له سوى في المخيلة، ويعني غزارة الكلمات بشكل يشبه بحرا، إذا ما استطعنا هنا أن نرى الصورة كاملة لمفترق طرق الدلالات اللغوية، يمكننا فهم البناء الروائي في السرديات وتشكيل البناء المستقل عن الواقع.
لكن لماذا هذا الخلط بين شخصيات الرواية والكاتب؟
لا أعتقد أن هذا الموضوع كان مطروحا على أيام الرواية الكلاسيكية، التي كانت تُروَى فيها الأحداث بضمير «هو» هذا السجال فتح بعدما ظهر عند الكتّاب المعاصرين شكل تعبيري جديد، يستعمل صيغة «الأنا» في السرد. الملل من الشكل التقليدي للنصوص الروائية والسِّير الذاتية دفع بهم إلى سلك نهج تجريبي جديد وجاء غالبا بطرق فردية، بحيث أدّى إلى بروز نماذج «هجينة» تمزج بين الواقع والخيال، خارج حالة الأدب الذّاتي، وربّما لمشكلة الهوية والشعور بالتشتت وسط التغيرات الكبرى التي عاشتها أوطاننا، أصبحت الكتابة طريقة للبحث عن هوية، وفهم الذات، ومعالجة شروخ ذاتية من خلال تقمص شخصيات عديدة منشأها الأسئلة الذاتية، لكنها بعيدة عن الكاتب وتاريخه الحقيقي. يبحث الكاتب هنا بالتأكيد عن أجوبة، لكن ضحالة ثقافتنا جعلت فعل القراءة يتعثّر ويتحوّل لفعل محاكمة، فاقدا قيمته تماما.
حرص الكاتب على جعل القارئ يشعر بأن الأدب حقيقي، ووضع فعل القراءة في مركز الانعكاس، مقترحا خلفية لكل نص، هي أقرب للواقع منها للخيال، مع ترك فضاء شاسع له ليمرح فيه ويسرح بمخيلته، هذا الفضاء حرُّ ويحتمل الفرضيات كلها، وإمكانات تلوينه بالألوان المتاحة لكل قارئ.
أي نعم، «الروايات تصوغ بإحكام واقعا ترثه من روايات أخرى، فتقوم بالإفصاح عنه وبسكناه من جديد، تبعا لوضع مبدعها ومواهبه وميوله وأفضلياته» وفق ما قاله إدوارد سعيد، لكن هذا لا يعني أن ما يكتبه هذا المبدع ينطبق على شخصه بحذافيره. في لعبة الإبداع، تتداخل صور الذاكرة، مع روابط متخيّلة لإنتاج حبكة متماسكة، ففي الغالب تفقد الصور التي تسترجعها الذاكرة دقة الواقع، والدليل أن واقعة واحدة إن رواها خمسة أشخاص اختلفت خمس مرات في طريقة سردها، وترتيب أحداثها، ودقة تفاصيلها. وهذا بالضبط ما يحدث في المحاكم الحقيقية، حين يدلي الشهود بشهاداتهم فيقوم القضاة بترتيب المشترك بين شهادتهم للتأكد ممّا حدث بالضبط.
لكن الكاتب السوداني أمير تاج السّر يذهب إلى طرح آخر تماما، حين قال: «لن يكون ثمة كاتب موجود في نص كتبه مؤلّف حي، ولا تأتي سيرة المؤلّف. ولعلّي أبدأ بنفسي حين أقول صراحة إن الذي كتب «صائد اليرقات» داخل النص، مثلا، في تلك الرواية التي كتبتها منذ سنوات، كان الكاتب الحقيقي نفسه، وكثير من الأحداث داخلها /…/ كانت حقائق صادفتها أثناء حياتي، وكان من الممكن كتابتها داخل سيرة ذاتية، لكن ذلك لم يحدث». كما يؤكِّد أن الشخصية المتخيلة تحمي كاتبها إذ تتحوّل إلى ما يشبه النّاطق الرّسمي له، فتنقل كل أفكاره دون خوف، وتمارس حريتها في التعبير والنّقد دون أي قيود وموانع. ندخل هنا مرة أخرى في دوّامة من الشكوك، التي تعيدنا إلى صرامة «الجهاز الرقابي» الذي بالتأكيد يجد مبرّراً قوياً لاعتبار المتخيل في أي نتاج إبداعي «بصمة المجرم» الذي تجب إدانته. فلا نعرف كيف نشرح فكرة المسافة الفاصلة بين الخيال والحياة الحقيقية، بالتأكيد هناك مسافة متناهية في الصغر تربط شخصيات الكاتب به، وهي تعيش وتتصرّف ليس كما يريد هو تماما، بل وفق ما يفرضه الواقع، وتفرضه رؤيته الخاصة لهذا الواقع، وكلما كبرت الفجوة بين المتخيل والواقع، قلّت ثقة القارئ في النص، بالتأكيد وجود القارئ في مخيلة الكاتب يبقى محرّضا رئيسيا لابتكار ما يقنعه. فها نحن نعيش اصطداما آخر مع قارئ كثيرا ما اعتبر الكلاسيكيات أدبا لا يعنيه. فهو في نظره يعني دائما «الآخرين» الذين لا يشبهونه ولا يشبههم في قضاياه وانشغالاته واهتماماته.
حرص الكاتب على جعل القارئ يشعر بأن الأدب حقيقي، ووضع فعل القراءة في مركز الانعكاس، مقترحا خلفية لكل نص، هي أقرب للواقع منها للخيال، مع ترك فضاء شاسع له ليمرح فيه ويسرح بمخيلته، هذا الفضاء حرُّ ويحتمل الفرضيات كلها، وإمكانات تلوينه بالألوان المتاحة لكل قارئ. خلق هذا الفضاء من المعطى الواقعي هو الذي يعمل على توليد الأفكار من خلال إثارة الأسئلة، وفتح نقاش لا بشأن الكاتب وحياته الخاصّة، ومدى تطابق وقائع قصصه مع محطّات حياته في الواقع، بل لرؤية حقيقة الواقع العام جيدا، فالأدب في النهاية ليس نسخة مشوّهة عن حياة الكاتب، بل نسخة مكبّرة عدّة مرات لعينات من المجتمع. إنها مسألة في غاية البساطة لفهم اختلاف النمط الأدبي للقراءة عن نمط التواصل اليومي بالواقع، ورؤية الصورة كاملة لنشاط الكاتب الذي ينتج نصّه، والنصًّ الذي يعيد القارئ بناءه بأدواته الإدراكية، وطريقته في دمج الأبعاد الحسية من خلال النّص، أي بالتجربة المعاشة والخبرات التي يتم حشدها عندما يمنحنا الأدب إمكانية أن نرى ونسمع بشكل أوضح، ويفتح كوننا الشخصي على أكوان داخلية وخارجية مستعصية علينا بعيدا عن الكتب.
في النهاية لنتفق على أن الكاتب وأي ناقد مهما كانت مستوياتهما ليسا عدوّين تجمعهما حلبة قتال، لأن النص المتخيل هو الفضاء الوحيد الذي يجمعهما، وهذا لا يستلزم أبدا إجهاز أحدهما على الآخر لقتله، فحلبة الخيال واسعة وجميلة، ويمكن للناقد أن يبدع بتقنياته ويعيد بناء النص بجماليات مختلفة، بتفكيك المعنى المكاني والزماني، وهيكل الحكاية الذي يربط اللغة بما هو خارجي عنها، والسياق التاريخي والظرفي، إلخ.
نعم ثمة كُتّاب يعترفون بأنهم يكتبون أنفسهم، لكن هذا لا يعني أن نمسك مسدسا ونطلق عليهم النّار، فأول من لجأ لكتابة نفسه اكتشف أداة حقيقية للتحرّر والتماسك والتواصل، كما اكتشف كنزه الدّاخلي في نعمة التخيّل، وهي النّعمة التي يحرم البعض أنفسهم منها لأنّهم يعتقدون أن فوائد المخيّلة منعدمة!
شاعرة وإعلامية من البحرين
أحسنت سيدتي