حين اعتبرت «الراوي» صوتا ثقافيا كنت أنطلق في ذلك من خصوصية هذا الصوت التاريخية، من جهة، ومن جهة أخرى كنت أرمي إلى البحث في جينيالوجيا هذا المصطلح، بقصد رصد تطوره ودلالات استرجاعه مع تطور الدراسات السردية العربية الحديثة. أبدأ بالنقطة الأخيرة لأؤكد أننا استعملنا هذا المصطلح مترجما من اللغات الأجنبية. وهو يعني بوجه عام من يضطلع بسرد القصة. وفي ترجماتنا وجدنا أنفسنا أمام مصطلحات مثل: الحاكي، القاص، السارد. وقع اختياري على مفهوم الراوي لأني أرى أنه أكثر اتصالا بالثقافة العربية في مختلف مجالاتها، اليومية والدينية والأدبية.
لقد برز هذا الراوي، عربيا، في المرحلة الشفاهية، وكثر تداوله في المرحلة الكتابية العربية. كان في المرحلة الأولى متصلا بشخص معين يمكن أن ننسب إليه ما نقله من أقوال (الأصمعي مثلا) لكنه في المرحلة الكتابية، ولاسيما في الثقافة الشعبية، صار صوتا سرديا غير محدد الهوية، حتى إن نسب إليه اسم أو لقب. وحين نقول صوتا سرديا نقصد بذلك، أن وجوده يتحدد في اضطلاعه بسرد قصة من خلال الصيغة المشهورة «قال الراوي». لكن صورة هذا الراوي في المرحلة الكتابية تظل ناقصة لدينا لأننا لم نشتغل بالمخطوطات التي تقدم لنا نصوصا سردية. وقد أتاحت لي فرصة بداية اشتغالي بتحقيق «سيرة سيف التيجان» في بداية التسعينيات أن بدأت تتبلور لديّ إمكانية إدراج مفهوم «الناسخ» في صلته بالراوي. وبذلك نجد أنفسنا أمام ثلاثة أصوات سردية هي على النحو التالي: الراوي، الناسخ، السارد. ويفرض هذا علينا العمل على تحقيب هذه الأصوات السردية لتأصيل المصطلح، والاستفادة منه في تحليل نصوصنا السردية القديمة والحديثة.
تطورت ممارسة السرد العربي، من خلال هذه الأصوات، من خلال ثلاث حقب كبرى. أسمينا الأولى «السرد المجلسي» الذي كان متصلا بالأسمار، التي يمكن أن يمسي فيها كل فرد راويا. فلكل إنسان قصة، وقعت له، أو حكاية سمعها، وقد أدى التناوب على السرد إلى بروز ما سميته «التحاكي» الذي يبين لنا أن السرد ملك مشاع، ولكل إنسان مادة قابلة لأن تحكى. أما المرحلة الثانية فهي وسطى بين الشفاهة والكتابة، وهي ما عرفت بعصر التدوين، حيث سيصبح هذا الصوت السردي مميزا، ومختلفا عن كل من تتاح له إمكانية سرد قصة.
لقد ظل الراوي ذاك الصوت الثقافي الذي سيستمد منه الناسخ والسارد معا أهم المميزات التي ستعطي للسرد العربي تاريخيته وخصوصيته.
يتميز هذا الصوت، من ناحية أولى، بأن له «ذخيرة سردية» هي جماع محفوظاته وسماعاته ومشاهداته مما كان يروى من أخبار، وحكايات وقصص، أو ما يقع أمامه ويحوله إلى مادة سردية. ومن ناحية ثانية، يتميز بالحفظ الذي يجعله يحافظ على ما يسرده بكل أمانة، ومن هنا جاء مصطلح «الحافظ» الذي وظف أساسا لراوي الحديث النبوي الشريف. ولما كان الحفظ معرضا للنسيان، وكان ما يروى يمكن ان يمتزج فيه الصدق بالكذب، كان من اللازم إعطاء هذا الصوت السردي خصوصيته الكامنة في «حجيته» من ناحية ثالثة. إن الراوي الحجة ثقة، ويؤخذ ما يرويه على الصحة والأمانة، ولا عبرة في كونه صدقا أو كذبا، ولاسيما في ما نسميه اليوم بالأدب. يبدو لنا كل ذلك في التشكيك في «القاص» الذي كان يروي قصص الأولين في المسجد، وفي «رواة الشعر» الذين كانوا ينتحلون. أما من يروي في الساحة العمومية فكان التعامل معه على أنه «الراوي» المتميز ببلاغته وأسلوبه السردي وقصصه الممتعة، بغض النظر عن واقعيتها أو خياليتها. وتقدم لنا المقامات نماذج دالة على هذا النوع من هؤلاء الرواة. والتحقق الأكمل والأمثل والأنضج لهذا الراوي هو ما نجده في السيرة الشعبية العربية.
اتخذت أعمال الراوي في المرحلة الوسطى (التدوين) صيغة جمع الأخبار، والحكايات والقصص، وتقديمها من خلال الكتابة على شكل نصوص تبرز من خلال شذرات سردية ذات بداية ونهاية، عملنا على تصنيفها من خلال الأنواع السردية التالية: الخبر والحكاية والقصة، باعتبارها بنيات تامة، ومنتهية: أخبار الأصمعي والجاحظ مثلا، وما تقدمه لنا المصنفات الجامعة الخاصة والعامة من خلال أعمال التنوخي والتوحيدي والثعالبي، وسواهم.
أما المرحلة الثالثة فهي استغلال وتطوير لما تحقق في المرحلتين السابقتين، حيث بدأ الإبداع السردي مستفيدا من الترجمات، ومما تراكم من مواد سردية في الحياة اليومية، وفي كتب الإخباريين وكتاب الدواوين، ومجالس الخلفاء والأمراء والولاة والشعراء، وغيرهم من «أبطال» الحياة اليومية من شخصيات مثيرة، وذات جوانب مختلفة عما هو أليف ومعتاد (البخلاء، المكدون، الظرفاء، الزهاد..).
لقد استمر في هذه المرحلة دور الراوي الذي يقدم إلينا من خلال المصنفات التي تكتفي بسرد ما يمكن تسميته بـ»الأنواع البسيطة» إلى جانب التأليف الذي بدأ يبرز مع جمع مواد حكائية مختلفة، و»تنظيمها» و»نظمها» وتقديمها من خلال «الأنواع المركبة» وتعتبر السيرة الشعبية العربية خير تمثيل لهذا النوع من الرواة. وتأتي في الدرجة الثانية القصص الطويلة التي تعرض علينا الليالي العربية نماذج دالة منها.
لقد ظل الراوي ذاك الصوت الثقافي الذي سيستمد منه الناسخ والسارد معا أهم المميزات التي ستعطي للسرد العربي تاريخيته وخصوصيته.
كاتب مغربي
الراوي في الثقافة العربية قد يكون منتج الحكاية او ناقلها بمعنى ان الراوي هنا انسان حي؛ بينما السارد شخصية ورقية وهمية تنوب عن الكاتب في تقديم الحكاية اذا استثنينا السيرة. لذلك وجب على الدارس للسرديات العربية الوقوف عند المصطلح مراعيا مثل هذه الخصوصيات
من ينتج السرد هو ما أسميه السارد سواء في السرد القديم أو الحديث. أما الراوي فهو من ينقل ما ينتج. كان الراوي في الشفاهة حيا يرزق. أما في الكتابة فهو صوت خطابي، يضطلع بتقديم المادة الحكائية إلى مروي له. أما السارد فيبدو لنا من خلال النص في كليته، وهو يتوجه إلى القارئ. شكرا على التعليق.
السيد سعيد يقطين لو تعتمد على التأليف الذاتي أفضل من الاعتماد على الترجمة مع التقدير.
تحياتي. انا لا أترجم. أين تظهر لك آثار الترجمة؟ شكرا.
أعجبتني عقبرية أستاذنا حينما جمع بين الخبر والحكي والسرد، وفي الحقيقة ذل مصطلح يحمل معه حقل أدبي ومعرفي من الشجرة الأصيلة نظرية الأدب