عالم «داعش» بين الإرهاب الطيب والديمقراطية الشريرة

حجم الخط
2

■ يشهد العالم دوما الكثير من المنتجات التي تتجاوز المعنى المادي للمنتج إلى المعنى المعنوي بصوره المختلفة، خاصة ما يتعلق بالمفاهيم والمصطلحات. وفي عالم يتوسع فيه دور الإعلام وتزداد فيه مصادر الأخبار التي تنتجها الدول والأفراد، كما تنتجها الشركات والتنظيمات والتجمعات من غير الدول، بما فيها الجماعات الإرهابية، تكتسب الكلمة واستخدامها أهمية متزايدة. 
وفي هذا العالم تختلط الكلمات وتختلف في معناها المباشر عن نتائجها وأهدافها الحقيقة، لتؤكد ما قاله عبد الرحمن الشرقاوي من ان «الكلمة نور وبعض الكلمات قبور». تتجاوز الكلمة المعنى المباشر والمفترض لها لتكتسب معاني جديدة وفقا لمجال استخدامها وتوظيفها وطريقة وتوقيت طرحها وسياقها. تتجاوز الكلمة ما يفترض أن تكون عليه من أنها «دليل تتبعه الأمة» إلى واقع، كونها وسيلة لتحريك الجماهير أحيانا وإثارة غضبهم أحيانا أخرى، والحصول على تأييدهم أو تفويضهم عبر إثارة الحماسة أو الغضب في معظم الأحيان.
تتداخل الكلمة مع المشهد القائم في اللحظة، الذي يستخدمه كل طرف بطريقته من أجل أجندته الخاصة، فتغيب القيمة وتثار التساؤلات، لأن الأجوبة الرسمية التي تقدم من النظم لا تتجاوز كونها جزءا من خطاب استخدام الكلمة بشكل معلب وفقا لضرورات التسويق في اللحظة المعنية. وفي مشهد يسيطر فيه «داعش» تتقاطع الصورة والكلمة ما بين التنظيم والدول المحيطة وغيرها من الأطراف، من أجل أجندات تتفق في أجزاء وتختلف في أخرى، وتتشابه في استخدام خطاب متغير وفقا للحظة من أجل التأثير على الجمهور المستهدف.
«داعش» الذي يطلق على نفسه مسميات كثيرة ترتبط بتعريفه لنفسه بأنه «الدولة الإسلامية»، في استخدام يتجاوز حقيقة أن «بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري..»، وأن «الكلمة حصن الحرية»، تجيد توظيف الكلمة من أجل بناء قبور وقلاع من الخوف وهدم الحرية. ينافس «داعش» بصور السجناء بملابسهم ولونها البرتقالي، صور معسكر غوانتانامو والسجناء بملابسهم ذات اللون نفسه وكأن «داعش» أو «تنظيم الدولة» – كما يسمى- ينافس الولايات المتحدة، ولكن بدلا من أن ينافسها في مجال الانجازات البشرية والتقدم العلمي وتحسين مستوى الحياة، أو بناء دولة بالمعنى الحقيقي، لم يجد إلا ان ينافسها بإخراج مشهد يقترب من صورة معتقل أثار الكثير من الجدل في الولايات المتحدة نفسها، كما في غيرها. فضّل «داعش» التنافس في التدمير، وأكد أنه تنظيم لا يعرف قيمة الحياة ويتنافس في إنتاج أبشع مشاهد الموت، التي لا يمكن للكلمة التي تستخدمها مهما كان بريقها أن تغير من معناها السلبي متى وضعت في سياق إنساني سليم.
لا يتوقف تقاطع «داعش» مع عالم الكلمة والصورة عند حدود غوانتانامو والتنافس في القتل، ولكنه يتنافس مع فكرة الربيع العربي نفسها، وما حملته من قيم وأحلام بعيدة كل البعد عن صورة «داعش» وعالمه. الربيع العربي، أيا كانت التطورات التي شهدها والتحليلات المتغيرة التي ارتبطت بتلك التطورات، يظل جزءا من الحلم شبه الجماعي الذي حلق على العالم العربي وتلامس مع أجزاء من أرضه، وأثبت أن هناك قيمة للكلمة تتجاوز خطابات السلطة التي لا تقيم معنى للبشر. ارتبط الربيع العربي، كما حمل اسمه، بالكثير من الأحلام الوردية، وإن كان هناك لون أحمر في المشهد فلم يتجاوز في التصور الساعي للتغيير أن تكون دماء الشهداء من أجل الحرية وألوان الورود التي يمكن أن تنتج من عالم الحلم والتضحية لتثمر في الواقع ألوان حياة. التطورات التي شهدتها المنطقة، وصراع السلطة من أجل الكراسي غير المشهد الحالم وزاد من تكلفة الدم وغير من معنى الربيع نفسه، قبل أن يأتي «داعش» وينافس الجميع في حجم العنف والدم وإهدار الحياة.
يتشابه «داعش» في جزء من إطاره العام مع كل نظام يهدر قيمة الحياة ويرى العنف وسيلة أولى، قد تتحول لغاية أحيانا، من أجل تحقيق أهدافه التي تتنوع أسماؤها وتتفق في جوهرها، وهو البقاء في السلطة.  الفكرة نفسها التي يصل لها «داعش» في خطابه، حيث الوصول إلى»الدولة» المسماة إسلامية في هذا السياق هو الهدف والوسيلة المزيد من الدم، فهو من البداية جماعة أو دولة لا يرى قيمة في حياة الفرد، ولا يحترم حقه في الاختيار، ولا فكرة أنه كائن مفكر فيعمل على تنميط الجميع وفقا لتصوراته الخاصة للحياة والدين والمجتمع والعدو والصديق.. يملك «داعش» مقومات دولة سلطوية مع الكثير من الملامح الإرهابية التي تتجاوز لون ملابس غوانتانامو، ويشترك مع الكثير من الجهود في توجيه الطعنات تلو الأخرى لحلم التغيير العربي. في الوقت نفسه الذي تتشابه فيه النظم السلطوية، حسب أدواتها وممارساتها، مع «داعش» في فكرة تنميط المجتمع وإعلاء رؤية النظام وإهدار قيمة الحياة.
ومع تقاطع الكلمة والصورة يتحول «داعش» إلى خنجر مباشر في جسد الربيع العربي المثخن بجراح سنوات من المقاومة للبقاء على قيد الحياة، كما يتحول إلى وسيلة مفيدة في يد السلطات القائمة لتأكيد الحاجة إلى المستبد أيا كان نوعه، والحاجة للاستبداد أيا كانت تفاصيله من أجل البقاء. لا يختلف إضافة كلمة «عادل» إلى الخطاب الرسمي ومن يدعمه عن إضافة «داعش» لكلمة «إسلامية» في تعريفه لدولته المبتغاة، لأن خطاب التسويق القائم لا يرتبط بالمعنى الحقيقي لها في الممارسة.
وبهذا، يتحول «داعش» وكل ما يمارسه من عنف إلى أرصدة مجانية في حسابات السلطات الرسمية، من أجل المزيد من الحرية في قمع الحرية.
يسهم «داعش» والعنف الممارس في زيادة حرية السلطة مقابل تقييد حرية المواطن، وزيادة الانفاق على «الأمن» مقابل المزيد من الاستقطاع من المواطن، وزيادة الحديث عن «الأمان» مقابل الشعور بالمزيد من الانكشاف المادي والمعنوي من قبل المواطن. يضيف «داعش» وصور العنف المختلفة التي تحيط بالمنطقة المزيد لجهود قمع حلم التغيير، كما نرى في الكثير من الكتابات التي تعمد إلى الربط بشكل مباشر وغير مباشر بين «داعش» والعنف ومحاولة التغيير، لتؤكد على ضرورة أن يكون التغيير تدريجيا لأن الديمقراطية شر. خطاب يتناسى كل عقود الانتظار من أجل التغيير، ويتناسى واقع الإرهاب الذي صاحب تلك العقود أيضا، ويتناسى أن اتباع الطريق نفسه بالعقلية نفسها لا يحل المشكلات التي أنتجتها تلك العقلية من البداية، وأن قمع الحرية وتوسيع دور السلطات لم يساعد في بناء مجتمعات أفضل، ولا في تجفيف تربة الإرهاب المحتملة ولا أسبابه. يتناسى عند الحديث عن جمال الاستبداد حقيقة أننا لم نجرب غيره لعقود طويلة بالفعل، وأن محاولة القطيعة التي صاحبت حلم الربيع العربي أجهضت بطعنات السلطات من أجل الحفاظ على الوجود وأن الإصلاح لم يتحقق على الأرض ولم يختبر من الأساس.
أما الإرهاب الذي ظلت الدول العربية تؤكد على وجود تعريف خاص له لا يشمل فصائل المقاومة ضد الاحتلال، فنكتشف أنه مثل كل المفاهيم والكلمات خاضع للتغيير حسب اللحظة. ولأن مصلحة نظام ما في لحظة أن يتم دعم مطالبه وتدويل خصمه يصبح من الضروري تصدير خطاب ضرورة الوصول لتعريف عالمي متفق عليه للإرهاب، وأن يتم التعامل مع الإرهاب بالطريقة نفسها بدون الحديث عن إرهاب طيب وإرهاب شرير، كما قال وزير الخارجية المصرب سامح شكرب في الكلمة التي ألقاها في جلسة العمل الأولى بقمة واشنطن لمكافحة الإرهاب.
يسيطر «داعش» على المشهد لدرجة كبيرة، سواء وهو يغتال الحياة بشكل مباشر، أو وهو يساعد على اغتيال الحياة والبقاء في ما يشبه الحياة. كما يمثل فرصة لتأكيد أن الديمقراطية شر في عالمنا، ولكنها خير في غيره، عندما ندرك الفارق بين خطاب موجه للمواطن يطالبه بالتأييد الصامت مقابل الرسائل التي تحملها الوفود وقنوات الإعلام للرأي العام في الدول الأخرى، وهي تؤكد على ضرورة أن تمارس تلك الدول دورها كنظم ديمقراطية في المساعدة من أجل مكافحة الإرهاب، وكأن لسان حالنا يقول إننا نقدر الديمقراطية «الغربية» ونحتاج إليها من أجل أن تساعدنا في محاربة الإرهاب عبر فرض الاستبداد في عالمنا.
ربما يستمر «داعش» في التمدد لفترة، كما هو شأن العنف بأشكاله، وربما تستمر السلطات في استغلال العنف والمعاناة لزيادة دورها وتقليص حرية المواطن، ولكن يظل أن البذرة الأكثر أهمية التي وضعها الربيع العربي في عملية التحليق السريعة، هي أنه أصبح نقطة يقاس عليها ما قبل وما بعد، حيث المقارنة المستمرة بين عالمنا وغيره، كما أن الكلمة لم تعد مجرد حروف تطلق في فضاء إعلامي يتناساها سريعا ولكنها منتج يخضع للحفظ والتقييم والمراجعة والسخرية والتقدير أحيانا.
كاتبة مصرية

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غازي المﻻح -- ايطاليا:

    يالله ما اجمل عقلك وﻻ ادري هل يجوز اقرار جمال العقل ام تاكيد كماله…لقد تفننت الحكومات وما زالت في قهر اﻻنسان العربي حتى اوصلته ان يخرج من انسانيته ولقد وظفت الكلمة دائما انها جاءت ﻻجله ولخدمته.فﻻ عجبا ﻻستخدامها من قبل النقيض الطارئ المدوي والهادم فلكل فعل شر ردة فعل اشر والرعية ضحية .

  2. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان وفحوى يمثل ابداع ذو عبير وياسين منفرد يا عبير ياسين، وأضيف من خلال ما قاله سامح شكري وزير الخارجية في الأمم المتحدة لا يوجد إرهاب طيب وإرهاب شرّير، ومن هذه الزاوية نفهم موقف القضاء المصري أصدر حكمه القانوني على كتائب عز الدين القسام والإعلام المصري في شيطنة حماس.

    لقد أثار انتباهي أنَّ نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن يُعلن أنّه يفتخر أن يكون مواطن للصهيونيّة في أكثر من مكان ومناسبة؟!
    بينما بيل غيتس في حواره على قناة الجزيرة تكلّم عن مواطن العولمة؟!
    وهذا الموضوع من وجهة نظري هو لمناقشة ما الفرق بينهما، وأيّهم أصلح وأكثر فائدة لأي دولة من الدول الأعضاء في نظام الأمم المتحدة، ولماذا؟

    اللّغة أي لغة كانت، لا يمكن أن تكون لغة للحوار، إن لم يتفق الطرفان على معنى المعاني فيها، فلذلك لا يمكن اعتبار أي لغة بدون وجود قواميس وهيكل للغة مكتوب في كتب معتمدة من أهل كل لغة من اللغات، ولا يمكن أن تكون هناك أي ترجمة صحيحة بين اللغات بدون اعتماد معنى المعاني لكل لغة بلغتها من خلال كتب قواميس تلك اللغة، فلا يمكن استخدام معنى لغة ما في ترجمة لغة أخرى، فهذا هو التدليس اللغوي الذي هو اساس أي سوء فهم.

    أظن أول من اعتمد اسلوب التدليس اللغوي وفق مستمسكات حقيقية كان من قبل قوات الاحتلال الإنجليزي لإستراليا، عندما تم استخدام عقدين بلغتين أحدها اللغة الإنجليزية والأخرى اللغة المحلية لأهل استراليا، وقام بوضع شرط واضح في نص اللغة المحلية أن يتم اعتماد نص العقد الذي باللغة الإنجليزية عند التحاكم والتقاضي في أي محكمة.

    العقد باللغة المحلية يتكلم عن شيء، بينما العقد باللغة الإنجليزية يتكلم عن تنازل أهل استراليا عن استراليا لقوات الإحتلال، هذا التدليس اللغوي كان اساس الجرائم، كما هو حال ما حصل في 3/7/2013 من قبل عبدالفتاح السيسي، بوجود شهداء الزور قيادات الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية ورئيس الأزهر ورئيس الكنيسة القبطية.

    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية