هواجس أوّلية قبل معركة ساخنة

حجم الخط
1

يتأهب المجتمع العربي داخل إسرائيل لخوض معركة الانتخابات العامة المقبلة، وهو يعيش حالة من الفوضى السياسية المحبطة، ويعاني من عدة مشاكل اجتماعية مستفحلة، في طليعتها، طبعا، استشراس مظاهر العنف والقتل في معظم قرانا ومدننا العربية؛ وليس أقل منها خطورةً تلك التصدعات البارزة في الهوية الجمعية، وتناثر مشاعر انتماء المواطنين العرب بين مرجعيات متنافرة وولاءات متعددة ومختلفة.
لا أعتقد أن التصويت على حل الكنيست فاجأ المنخرطين في اللعبة السياسية البرلمانية، أو مَن توقعوا، منذ اليوم الأول لإقامة حكومة الرأسين، نفتالي بينيت ويائير لبيد، حتمية فشلها، واستحالة صمودها في الواقع الإسرائيلي المتأزّم.
ورغم ما بدا جليّاً منذ أكثر من عام، لم تسْعَ الأحزاب والحركات والمؤسسات الناشطة داخل المجتمعات العربية، إلى استشراف ما يتوجب فعله مباشرة بعد سقوط الحكومة، وكيف سيواجهون المرحلة المقبلة.
قد يبرر البعض أسباب هذا الشلل الفكري والتنظيمي، بعدم حصول أي متغيّرات على الحالة الإسرائيلية العامة، فما سيكون هو ما كان؛ وليس مطلوب منا ، نحن العرب، إلا أن نعيد «هندمة» صفوفنا التي كانت، ثم نمضي بها نحو مستقبلنا المجهول. فعلى أقطاب «القائمة المشتركة» أن يجدوا، مرّة أخرى، معادلة أرخميدس الساحرة، التي ستسعفهم في تخطي مأزق المحاصصة المزمن، ويزفّوا ، بعد ذلك، بشراهم لأبناء الشعب، ويهيبون بهم، باسم الوحدة والمثابرة، للخروج إلى صناديق الاقتراع والتصويت لقائمتهم. أمّا مجلس شورى الحركة الإسلامية فسيلتئم، مرات ومرات، وسيعصف أعضاؤه بأفكارهم، حتى ينجحوا بتذليل جميع العقبات الفقهية ويفكّكوا معظم التساؤلات الشرعية، ويشهروا فتواهم القاضية بضرورة خوض المعركة المقبلة والدخول، من أجل مصلحة الأمة، إلى الكنيست ومنها إلى حكومة إسرائيل، داعين السماء ألا يكون الحاخام دروكمان من عرّابي الحكومة المقبلة، فهو فيما قرأنا، لا يثق بالعرب، سواء كانوا من « أيمن» أو من «عبّاس»، حتى لو أغرقه العباس بالعسل ووعده «بالقصب». من المستحيل طبعاً أن يوافق عاقل على مثل هذا التشخيص والتسويغ؛ فحالة الشلل الفكري والتكلس التنظيمي مستأصلة منذ سنوات، داخل هياكل الأحزاب والحركات والمؤسسات السياسية الفاعلة بيننا في إسرائيل؛ بينما هي حالة من الجمود العقائدي الملازم لبعض الحركات الإسلامية السياسية الناشطة في شرقنا. فشق الحركة الإسلامية الشمالية سيتمسك أكثر وأكثر بموقفه الداعي لمقاطعة الانتخابات، وسيعزز هذه المرة، حججه التاريخية المعروفة، بما يصفونه انحرافاً خطيراً مارسته، باسم الانتماء الإسلامي، الحركة الإسلامية الجنوبية حين كانت ترتمي في حضن أعداء الأمة؛ وبالمقابل ستواجه الحركة الإسلامية الجنوبية هذه الانتقادات والهجوم بسيولة فكرية إسلاموية معهودة، شاهدنا مثلها في تاريخ الصراعات الحديثة والقديمة، وسيتسلّح قادة هذا الشق، في سبيل تسويق مفاهيمهم الذرائعية، وتحليل ححجهم النفعية، بإسنادات فقهية من إنتاج شيوخ هذه الحركة، كما فعلوا في السنة المنصرمة. ما زال من المبكر تناول خريطة الأحزاب العربية واليهودية التي ستخوض الجولة الانتخابية المقبلة؛ لكنني رغم ذلك، أستطيع أن أتوقع صعودا في قوة تيّارين يكملان بعضهما بعضاً، من حيث التأثير على نسبة التصويت للأحزاب العربية:

سنواجه معركة انتخابات قد تمحق نتائجها كثيرا من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، تحدّيات لم نشهدها من قبل

الأول هو تيار الداعين إلى مقاطعة الانتخابات. لقد قلنا في الماضي عن هذا التيار، ونكرر اليوم إنه لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات؛ لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر والتفرس في التجارب السابقة، أن نفترض أن الفئة الأولى والأكبر هي تلك التي تلتزم بموقف عقائدي، شخصي أو حركي، على اختلاف مظلاته، مثل أتباع «الحركة الإسلامية الشمالية»، أو أتباع حركات قومية لا تؤمن بشرعية نضال المواطنين العرب في البرلمان الصهيوني – وقد برز من بينهم تاريخياً أتباع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها – أو الناشطون في «الحراكات الشعبية» التي بدأنا مؤخراً نلمس تأثيرها المحدود في بعض المواقع بين أوساط شبابية، ثم إلى جانبهم سنجد مجموعات من المقاطعين الآخذة أعدادهم بالتنامي، بعد أن أصابهم السأم من الحالة السياسية العربية، فقرروا العزوف والابتعاد عن «ساحة البلد»، خاصة أنّ تكرار جولات الانتخابات لم يفض لأي مخرج حاسم في المشهد السياسي العام، ولا لأي تغيير جوهري في البنى السياسية والمؤسساتية العربية. وقد لا يضير إن أضفنا إلى جميع هؤلاء مجموعات صغيرة، لكن مؤثرة، من الحزبيين «الزعلانين» والمحتجين على تنظيماتهم، أو غيرهم من المدمنين على الرفض العبثيين والمزايدين.
أما التيار الثاني الذي تتنامى قواه ومكانته في قرانا ومدننا العربية، فهو ذلك الذي نجحت «قياداته» المحلية وأوصياؤهم في إشاعة أجواء العدمية القومية، وتتفيه الحاجة لحرص المجتمعات على صيانة هويتهم الجمعية، ونجحوا كذلك بالتحريض على شرعية القيادات والمؤسسات التاريخية، وعلى دورها في رسم معادلة التوازن السليم بين المواطنة والوطنية وتصويب بوصلة المواجهة الرئيسية ضد سياسات الاضطهاد والقمع التي مارستها، وما زالت تمارسها الحكومات الإسرائيلية؛ وقد يكون في طليعة هذا التيار، رؤساء بعض البلديات والمجالس المحلية، وبعض كبار رؤوس الأموال، وبعض الشرائح الاجتماعية المنتعشة بفضل سياسة حكومة إسرائيل المقصودة، وغيرهم كثيرون.
لن تكفي هذه العجالة كي نعالج دوري هذين التيارين وما قد يحرزانه في المستقبل القريب، وكيف تتفاعل المؤسسة الإسرائيلية إزاءهما؛ لكن من الغباء ألا نرى كيف يتغذيان ويستقويان داخل مجتمعاتنا، بسبب ضعف حالة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية، التي، كما قلنا، لم تجر هيئاتها أي مراجعة جدية ومسؤولة، ولم تتخذ أي خلاصات أو عبر، على الرغم من وضوح الانزلاق داخل مجتمعاتنا، ورغم سقوط القلاع وخسارة معظم الكوابح السياسية والهوياتية والقيمية. ليست الأحزاب والأطر السياسية وحدها المسؤولة عما وصلنا إليه من حضيض؛ فمؤسسات المجتمع المدني وجمعياته والنخب التي تسيّدت على فضاءاته، كان لها دور مركزي في «تعويم» الحالة النضالية وزجها في «غرف انعاش» وهمية وفي «عوالم افتراضية» لم يستفد من معظمها مجتمعنا، بل بقيت عوائدها عليه محدودة، في حين استفادت منها كوادر تلك المؤسسات. سنواجه معركة انتخابات شرسة قد تمحق نتائجها كثيراٍ من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، إن تحققت، تحدّيات لم نشهدها من قبل. لا أعرف كيف سنخرج من هذا المرجل سالمين، خاصة إذا بقينا عالقين بين فكوك ثلاث معضلات رئيسية ذات علاقات متبادلة، تؤثر جميعها في مستقبلنا وفي ظروف حياتنا؛ فالعنف والإجرام المنظم المستشريان داخل مجتمعاتنا، والخوف الذي يسببانه بين المواطنين من جهة، وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية وغياب دورها في تأطير وحماية المجتمع من جهة ثانية، وأهمية المشاركة في العملية الانتخابية بكونها ممارسة لحقنا الأساسي في المواطنة المتساوية، خاصة بعدم وجود بديل كفاحي أكثر شمولية وواقعية لها، هي قضايا مرتبطة عضوياً ببعضها بعضا، وعلى من يهمه مصير وسلامة مجتمعاتنا أن يواجهها بمسؤولية وحزم، ومن دون رياء ولا وجل.
سأتطرق إلى هذه الموضوعات في مقالات مقبلة؛ لكنني أود، من باب الحرص، أن أؤكد، أن للمواطن حقاً في مقاطعة الانتخابات، مع أنني أرى أن واجب الفرد المواطني الأساسي ووظيفته الاجتماعية والسياسية الاحتجاجية يلزمانه بالمشاركة في الانتخابات؛ أقول ذلك وأعرف أن إسرائيل ما زالت، منذ يومها الأول ولغاية الآن، تحاول إقصاءنا مرّة، وابتلاعنا حيناً، وتفتيتنا أحياناً، وأعرف أيضا أننا لن ننتصر على هذه السياسة والممارسات «بنضالنا» في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني، رغم ذلك، أجزم بأن أوضاعنا ستسوء أضعافًا مضاعفة إذا ما حملنا بأنفسنا «صحيفة المتلمس» – وفيها حتفنا – ونزحنا عن هذه الساحة، التي هي ساحتنا.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Rafeek Kame:

    تحليل قوى وصحيح…النقد الذاتى ضرورة ملحة …ولكن الكاتب لم يقترح حلول أو حتى مفاهيم للحلول ..وأدرك أن الكاتب المبدع سيتحفنا قريبا بمقترحات لزحزحة المجتمع العربى داخل إسرائيل من حالة الشيخوخة والانهاك الذى يمر بهما …

إشترك في قائمتنا البريدية