الموتى يستحقون النقد أكثر ممّا يستحقّه الأحياء. ونقدهم، بنظري، أهمّ من نقد الآخرين لأنهم أخطر على الوجود منهم بسبب «الماضي» أو بسبب تسلّط هذا الماضي، على عقلنا، خاصة، عندما يُحيِّد غيابهم الفيزيائي «حاسة النقد» عندنا عن طريق الارتباط العاطفي المحض بهم، غالباً، وليس العقلاني، دائماً. وفي الثقافة العربية تسود، اليوم، نظرة تبجيلية لهؤلاء «الأعزّاء» الذين فقدناهم. وتبجيل الموتى، هو نسيانهم. هو إبعادنا عن نقدهم، ونقد إنجازاتهم التي قد تكون مهمة في أغلب الأحيان. فالتبجيل، في الحقيقة، نوع من الإقصاء. والإقصاء ليس معرفة، ولا هو وسيلة لإنتاجها.
نحن لا نتكلم عن أحد، وإنما عن ظاهرة ثقافية تحدّ من حرية الفكر العربي الحديث، وبالخصوص، عندما يتمتّع هؤلاء الموتى، أو بعضهم على الأقل، بكوكبة من «الأصدقاء» الذين يستبسلون في الدفاع عن قدسية ما هو غير مقدس، جاعلين منهم إيقونات غير قابلة للمسّ. ويزداد الأمر سوءاً حينما يتحوّل هؤلاء إلى مريدين، يصنعون لأنفسهم، تاريخاً ملفّقاً يتماهى مع تاريخ « مُثُلهم» الذي «يَبَّسوه» كما تُيَبّس أمي الإقط في الحماد لتستعمله وقت الحاجة. يَبَّسوه، ليكون على قَدْر رؤيتهم، بدلاً من أن يَدَعوه حرّاً قابلاً للنقد والتجاوز، ومقاوماً للمَحْو والنسيان. لكن التاريخ الذي يصنعه «هؤلاء» لمن فارقوا عالمنا، ليس هو بالضرورة تاريخ الراحلين، ولا هو «تاريخنا» نحن، أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك، علينا أن نكون حذرين، وأن نعيد النظر بمَنْ عرفنا، وبما عرفناه، باستمرار. لأننا صرنا نؤمن بحرية النقد المطلقة، وبأن كل أحد، وكل شيء، قابل للنقد طالما كان قابلاً للحياة. النقد لا يضر أحداً، لا الناقد ولا المنقود، وإنما يحررهما من علاقة ملتبسة وغير سليمة.. يُزيل الغبار التاريخي المتراكم على العقول.. يُجَوْهر الأشياء، ويعطيها دفعة جديدة في الحياة، فالناقد الحصيف مثل رَبّاب النحاس في الجزيرة يجعل الأصفر المسْوَدّ لامعاً وأبيض مثل ثلج الربيع. النقد الذي يعنينا، إذن، ليس مسبّة، ولا تتفيهاً للمنقود وإنما هو بحث منطقي وعقلاني عن سُبل جديدة لتجاوزه نحو ما هو أفضل منه.
نحن نتكلّم عن نقد معرفي وجذريّ ومتحرر، يعرف ما يريد، وكيف يصل إليه. أما ما يمكن ادراجه في خانة «نقد كتب الجوائز» فلا يعنينا في شيء، وبالخصوص، عندما يكتبه، ويروّج له، «أكاديميّو ما بين قوسين» أو بعض هواة الكتابة العاجلة التي مكانها، في الحقيقة، سلة مهملات التاريخ العملاقة. نحن نعي أنه لا يمكننا أن نتجاوز أحداً، أو مفهوماً، إذا لم نقم بنقدهما بجدية صارمة، وأنه لا يمكننا إن نصل إلى هذه النقطة المعرفية الحسّاسة، إلاّ إذا شحذْنا حاسة النقد العربية الخاملة، حتى لا نقول الميتة. نحن ندرك، تماماً، أن نقد مَنْ فقدناهم، هو، في الوقت نفسه، نقد للتراث، ولنا، أيضاً. فالتراث هو نحن الآن: كيف نتصرّف، وكيف نفهم الأمور، أو لا نفهمها، وكيف نواجه حياتنا اليومية، وأشياء أخرى كثيرة، وليس هو، فقط، ما تحتويه «أمهات الكتب» العاقرة التي لا يلقِّحها أحد.
ولا ننسى أن التراث، أحياناً، أكثر حداثة منا اليوم، فمجتمع ألف ليلة وليلة، مثلاً، كان منتجاً للقيم والمعايير، وقام بتصديرها. ونحن اليوم مستهلكون فقط. وقراءتنا «الاستهلاكية» لفوكو، مثلاً، أو لغيره من مثقفي الغرب الكبار، لا تجعلنا حديثين أبداً، إنْ لم تزد التباسنا التباساً.
الحداثة ليست في قصيدة النثر، ولا في البحث عن شذرات النفري، وابن عربي، و… إنها نظام الإنتاج والاستهلاك الذي نبدعه، أو نمارسه، أو نخضع له، أو نتبعه، ونحن لا نظام إنتاج عندنا، لا اقتصادياَ، ولا ثقافياً. نحن «تابعون» بعمق، وفي كل شيء.
أنقدوا موتاكم، إذن.. اكشفواعيوبهم.. لا تخشوا الكشف عن العيوب فهي، في نظري، أهم من المزايا المزعومة غالباً. ونقدها قد يفتح طريقنا الثقافي المسدود. عيوب الكائن هي أثمن ما خلّفه في حياته، لأنها أقسى مراتب الوجود. إنها الدليل الحاسم على تطوّر الكائن الذي تجاوزها، فأسوأ الكائنات هو الكائن الذي بلا عيوب.
لا تكريس لحيّ، إذن. ولا تقديس لميت.
سامحوني.
كاتب سوري