الخرطوم ـ «القدس العربي»: تواصلت، الثلاثاء، المظاهرات الاحتجاجية في مدن مختلفة في السودان تنديدا بأحداث العنف القبلي في البلاد. وفيما أعلنت قوى «الحرية والتغيير» تكوين «أوسع جبهة لمناهضة خطاب الكراهية»، أكد أحد قيادييها لـ«القدس العربي» أن «قادة الانقلاب يحاولون مقايضة السودانيين بالاستقرار مقابل التنازل عن التحول الديمقراطي، عبر تحريك النزاعات القبلية».
وأضاف شهاب الدين الطيب أن «الصراع القبلي واحد من الأوراق التي برع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في استخدامها، وأن العسكر يحاولون استخدام الأوراق نفسها «.
ولفت إلى «التداعيات الخطيرة التي يمكن أن يقود إليها الاستقطاب والتحشيد القبلي»، مشيرا إلى أن «منسوبي نظام الرئيس المخلوع عمر البشير نشطوا خلال الفترة الماضية في تأجيج خطاب الكراهية والنعرات القبلية».
وبين أن «إقليم النيل الأزرق ظل نموذجا للتعايش السلمي، إلى أن أودى تصعيد الخطاب العنصري هناك خلال الأيام الماضية إلى مقتل عشرات الضحايا وإصابة المئات ونزوح وتشريد الآلاف»، مشددا على أن «آثار أصابع وصبغة العسكر والنظام السابق واضحة في أحداث النيل الأزرق وغيرها من أحداث العنف القبلي التي تندلع تباعا في البلاد».
«ارتداد عن طبيعة الدولة»
وأبدى تخوفه من حدوث ما هو أسوأ من ذلك «في ظل محاولة توسيع رقعة النزاع القبلي في مجتمعات تجاوزت الطابع القبلي للصراعات منذ وقت طويل»، معتبرا ما يحدث من تمدد للعنف القبلي «ارتداد عن طبيعة الدولة السودانية باستخدام العسكر سلطة القبيلة وتعبيراتها كخطاب سياسي للدولة.»
وحذر من «قيام قادة الانقلاب ومناصريهم بالتحشيد القبلي، كل على حدة، وجمع كل طرف من أطراف الانقلاب لحاشية من القبائل، مما يوسع احتمالات انفجار حرب أهلية في البلاد ونذر انقسام وتفتيت البلاد، في حال حدوث خلافات بين مكونات الانقلاب، حيث يقوم كل منهم بحشد القبائل المؤيدة له ضد الآخر».
وشدد على أن «القوى السياسية المناهضة للانقلاب لا تملك خيارا الآن سوى التوافق على آلية لإسقاط الانقلاب والوصول لإجماع ورؤية مشتركة حول هياكل السلطة والدولة».
وفي الموازاة، أعلنت قوى «الحرية والتغيير» في السودان عن تكوين «أوسع جبهة لمناهضة خطاب الكراهية» في البلاد، على خلفية العنف القبلي الذي أسفر عن مقتل وإصابة العشرات.
وقال القيادي فيها، أيمن نمر، في مؤتمر صحافي في العاصمة الخرطوم: «قررنا تكوين أوسع جبهة لوقف خطاب الكراهية في البلاد».
وكشف عن تسيير مواكب باسم «السودان الوطن الواحد» في الخرطوم وعدة مدن سودانية في 24 يوليو/ تموز الجاري، احتجاجا على العنف القبلي في البلاد، وتضامنا مع ذوي الضحايا.
وأضاف: «قررنا إرسال وفد قيادي سياسي إنساني للوقوف على أحداث الاقتتال القبلي، وتقديم العون الإنساني للمتضررين».
وتابع: «لا استقرار في البلاد إلا بتشكيل سلطة مدنية ديمقراطية تقوم على التنوع وتديره في إطار الدولة المدنية الواحدة».
أما القيادي في التحالف صديق المهدي، فقال «فقدنا 79 شهيدا وجرح 200 آخرون، بالإضافة إلى النزوح المستمر في ولاية النيل الأزرق».
وأضاف: «ما يحدث مأساة وانتكاسة كبيرة ومعاناة حقيقية، ولا بد من الوقوف بصلابة لوقف نزيف الدم السوداني».
وفي سياق متصل، تواصلت المظاهرات الاحتجاجية في مدن مختلفة بالسودان تنديدا بأحداث العنف القبلي في البلاد.
وشارك محتجون من قبيلة الهوسا في مظاهرات في الخرطوم ومدن الأبيض (غرب) وبورتسودان والشُّوَك (شرق) تنديدا بمقتل أفراد القبيلة جنوب شرقي البلاد.
وتلبية لدعوة ناشطين من «الهوسا» إلى تنظيم تظاهرات، تجمع منذ الصباح الباكر عدة مئات من أنصارهم في جنوب العاصمة السودانية حاملين لافتات كتب عليها «لا لقتل الهوسا» و«القصاص لشهداء النيل الأزرق».
وذكر شهود أن قوات الأمن أطلقت الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين لدى وصولهم إلى شارع المطار في العاصمة، ما أدى إلى حالات اختناق وسط المواطنين، وتدافع وتكدس السيارات التي اضطرت إلى تغيير مسارها.
وفي الشواك في ولاية القضارف، على بعد 600 كيلومتر شرق الخرطوم، وحيث يقيم عدد كبير من أبناء قبيلة الهوسا «أغلق قرابة 500 منهم الطريق الرابط بين الخرطوم وكسلا».
كذلك أعلنت السلطات المحلية الثلاثاء، إرسال تعزيزات أمنية من قوات الاحتياطي التابعة للشرطة السودانية إلى مناطق التوتر القبلي.
وذكرت وكالة الأنباء السودانية الرسمية، أن القوات المرسلة «باشرت مهامها لتعزيز الأمن وسط المواطنين وفرض هيبة الدولة».
نتاج الانقلاب
وحسب ما قال المحلل السياسي وليد النور لـ«القدس العربي» فإن «أحداث النيل الأزرق وتداعياتها بشكل أساسي هي نتاج انقلاب 25 أكتوبر / تشرين الأول الماضي»، مشيرا إلى أنه «منذ صبيحة الانقلاب سعى قادته والموالون لهم، إلى شيطنة القوى السياسية والمدنية، في وقت مضوا في تحشيد القبائل لتصبح حاضنة للانقلاب بدلا من القوى السياسية التي زجت بها السلطات وقتها في السجون».
ولفت إلى أن «تداعيات التحشيد القبلي وتأجيج النعرات العشائرية للحصول على مكاسب سياسية، نتائجها ماثلة أمام الجميع، بعد سقوط عشرات القتلى في النيل الأزرق وتمدد الصراع في نطاق أوسع»، محذرا من أن «مآلات ما يحدث من صراع قبلي ستكون حربا قبلية طاحنة».
قيادي معارض لـ«القدس العربي»: قادة الانقلاب يقايضون بالاستقرار مقابل التنازل عن الديمقراطية
ولفت إلى فداحة ما أسماه «استبدال الحزب السياسي بالقبيلة»، و«استبدال البرامج السياسية بالنعرات القبلية»، مشيرا إلى أن «الحزب السياسي بطبيعة الحال يضم في عضويته جميع قبائل السودان ومكونات من جميع المناطق».
وتابع: «مع زج القبيلة في السياسة ستتصاعد الصراعات القبلية، حتى في المناطق التي ظلت نموذجا للتعايش السلمي مثل إقليم النيل الأزرق، والذي على الرغم من تأثره بالحرب لسنوات طويلة إلا أن المجتمعات المحلية هناك ظلت متعايشة ومتقبلة للتنوع القبلي الواسع في الإقليم».
واشار إلى أن «هناك اتهامات داخل النيل الأزرق للقوى التابعة لحاكم الإقليم، بمحاولة الدفع بمكون قبلي معين إلى رئاسة نظارة القبائل، وذلك لتعزيز نفوذ مجموعة الحاكم التابعة للحركة الشعبية شمال جناح مالك عقار، في وقت تتأجج الخلافات بين جناحي الحركة الشعبية، جناح عقار وجناح الحلو في المنطقة».
وأضاف أن «منصب الناظر، وفق العرف الأهلي لا يمنح إلا في حال كان صاحبه يملك مساحة معينة من الأرض وتضم نظارته قادة قبليين ذوي ثقل»، مشيرا إلى أن «دفع حكومة الولاية لمكون قبلي لا ترى مكونات أخرى أنه صاحب حق في الإدارة الأهلية، كان من الأسباب الرئيسية لتأجيج الصراع القبلي في النيل الأزرق، وبعدها ارتفع صوت القبيلة وخطاب الكراهية وأعمال القتل والعنف».
الخلافات السياسية
في حين أرجع الخبير الأمني، أمين مجذوب، الأحداث الدامية في النيل الأزرق بين القبائل إلى الخلافات السياسية، التي أخذت طابعا قبليا والتي اججت الخلافات حول شكل السلطة الأهلية.
وأشار لـ«القدس العربي» إلى «مطالبة بعض القبائل التي لا تحظى بنفوذ واسع في الإدارة الأهلية في الإقليم بتمثيل أوسع، وأن تكون لهم (إمارة) الأمر الذي رفضته المكونات القبلية الأخرى والتي تعتقد أنها صاحبة الأحقية في الإدارة الأهلية والأرض».
ولفت إلى أن «ما يحدث بين القبائل داخل السودان، لا علاقة له بامتدادات تلك القبائل خارج البلاد، سواء في دولة إثيوبيا الواقعة شرقي السودان أو غيرها من دول الجوار، والتي قام معظمها بتنظيم الشؤون الإدارية بشكل مختلف، عن الإدارات الأهلية في السودان».
وتتمحور الصراعات القبلية في السودان، حسب مجذوب «حول الموارد والأراضي بشكل أساسي، فضلا عن الأزمات الناتجة عن إقحام الإدارة الأهلية في السياسة»، مشيرا إلى «التداعيات التي حدثت في دارفور بالخصوص، وما يحدث هناك من صراع حول الموارد تحت غطاء سياسي، خاصة فيما يتعلق بالصراع حول المعادن والأراضي والسلطة والتي أدت في نهاية المطاف إلى المزيد من الصراع في المجتمعات المحلية».
ولفت إلى أن «بعض المجموعات التي كانت تشارك في الحرب الليبية وغير المرغوب فيها هناك، ومجموعات قبلية أخرى تحاول الاستيطان والاستقرار في السودان، خاصة في دارفور، الأمر الذي يزيد من حدة الصراع والنعرات القبلية».
وأشار إلى أن «محاصرة النزاع القبلي في جميع أنحاء البلاد تحتاج لتحركات واسعة محليا ودوليا»، مؤكدا أن السودان «يجب أن يمضي في تفاهمات مع الدول الأصلية لتلك المجموعات القبلية والحركات المسلحة وصولا إلى إعادتها إلى هناك.»
وتابع: «فيما يخص الصراع القبلي في دارفور يجب حل مشكلة الأراضي (الحواكير)».
أما «الصراع في شرق السودان، ذي الطابع الإثني فناتج عن محاولة بعض القبائل الهيمنة على الجوانب السياسية والاقتصادية»، وفق مجذوب، الذي أشار إلى «الآثار السلبية لاستخدام القبيلة في الصراعات السياسية هناك، الأمر الذي أدى إلى إغلاق ميناء بورتسودان، الميناء البحري الرئيسي للسودان، عدة مرات وتداعيات ذلك، حيث قامت شركات ودول باستبادله في نهاية الأمر بموانئ دول الجوار».
صراع مصالح ومطامع
وتابع: «الصراع في شرق السودان يمضي وفق مصالح سياسية واقتصادية، تديرها هناك بعض الدوائر السياسية داخل البلاد، فضلا عن التقاطعات الاقليمية وأثرها المباشر في الصراع هناك»، مشيرا إلى أن «شرق السودان محل صراع مصالح ومطامع وتنافس على الموانئ الخاصة في السودان».
وأكمل أن «شرق السودان يواجه اختراقات واسعة من أجهزة مخابرات إقليمية ودولية»، مشيرا إلى أن «التباطؤ في حلحلة الأزمات هناك فاقم الأزمة هناك، وأجج الخطاب القبلي».
وبخصوص الصراع في النيل الأزرق، رأى مجذوب أنه «ذو طابع سياسي»، مشيرا إلى «محاولة إدخال قبائل مؤيدة لطرف معين، ومواقف تصعيدية من أطراف أخرى.»
ولفت كذلك إلى «الصراع في الحركة الشعبية شمال، حيث يحاول كل طرف تقوية نفسه عبر القبائل وخلق صراع حول الحواكير، وأن الصراع بدأ يأخذ طابعا عنيفا جدا، وأنه صراع في باطنه سياسي أمني، وفي ظاهره خلاف حول الأراضي والموارد».
ونبه إلى «ضرورة التدخل السريع من السلطات المركزية، التي لم يتحرك أي مسؤول منها لزيارة المناطق المتأثرة بالصراع في إقليم النيل الأزرق»، مشددا على أن «تمدد الصراع القبلي، في حال لم يتم حسمه، سيقوم البلاد إلى حرب أهلية، لجهة انتشار السلاح ووحدة الاستقطاب الذي يبدو أنه نجح في نقل الصراع إلى مناطق أخرى».
وحذر من «قيام جهات بتأجيج النعرات القبلية، وزيادة حدة الاصطفاف العشائري في مناطق وسط وشمال السودان والتي لم تكن جزءا من أزمات الصراع القبلي من قبل»، مؤكدا أن «توسع رقعة النزاع القبلي سيقود في نهاية الأمر إلى تقسيم البلاد إلى دويلات».
ولفت إلى أن ما «يحدث في السودان هو جزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يستهدف تقسيم السودان إلى دويلات عرقية إثنية، وعلى نسق أيديولوجي»، معتبرا ذلك «مكمن الخطورة، لأن الطابع القبلي سيجعلها بعد انقسامها لا تعيش أي حالة من السلام والاستقرار وإنما تغرق في حرب مستمرة، الأمر سيسهل السيطرة على موارد البلاد وشواطئ البحر الأحمر محل التنافس الإقليمي».
وتابع: «إذا لم يجد السودانيون صيغة للخروج من الوضع الراهن في البلاد، سينتهي الأمر إلى انهيار كامل للدولة السودانية».