مع بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، وتحوّل الأنظار قليلاً إلى استنفار منطقتنا بسبب تعثّر الاتفاق النووي حتى الآن؛ أو ربّما بسبب اقترابه؛ تحتدم الحركة السياسية في منطقتنا. تشكّل زيارة بايدن لإسرائيل والسعودية – بغضّ النظر عن زيارته للضفة الغربية – بؤرة للعديد من أسباب التوتّر ونتائجه، ومن ضمن هذا الواقع أيضاً ما تشكّله قمة جدة من تحوّل وانعطاف، رغم ذلك، وربّما أيضاً بدفعٍ منه، يتألّم السوريون بجرعة إضافية من أحاسيس الهجر والخذلان، ليس بسبب الموقف الروسيّ الفاضح من تمديد قرار دخول المساعدات الإنسانية إلى مناطق الشمال الغربي، وحسب.
نقل موقع برنامج الغذاء العالمي صورة لزوجين كفيفين مع طفلهما الرضيع، ينتظران عند نقطة توزيع أغذية في حلب. الزوج أعمى منذ ولادته، وليس لدى زوجته من قدرة البصر إلّا مقدار واحد في المئة (طفلهما بصير). عاش الزوجان في حلب طوال فترة الصراع وهما يتلقيان دعم برنامج الأغذية العالمي لاحتياجاتهما الأساسية. تقول الزوجة الصبية: أحب الطبيعة وأصوات الطيور. أستطيع أن أميز الألوان إلى حد قليل للغاية، ولذلك أحب المساحات الخضراء والواسعة، حيث أستطيع أن أشمّ رائحة العشب. عندما كانت قذائف الهاون تتساقط علينا، كانت الأصوات مرعبة. وكانت تلك الثواني من الصمت الذي يرين بعد ذلك محرّضة لأكثر المشاعر التي عرفتها عنفاً على الإطلاق. نبدأ بعدها في سماع صراخ المارة الذين ربما أصيبوا. الآن، أثناء المشي معا، غالباً ما نشمّ رائحة الغبار. نشعر بالحجارة تحت أقدامنا، وندرك أن هناك مبنى قريبا مدمرا. نشعر بالزجاج المكسّر على الأرض عندما نخطو فوقه، وهذا بدوره يكسّر قلوبنا».
يحدث مثل هذا في سوريا كلّها، لكنه يحدث خصوصاً في مناطق سيطرة نظام آل الأسد وطغمتهم. سوريا هذه، تنقسم الآن إلى مناطق ثلاث رئيسة، وبضع مناطق منقسمة جزئياً. يهدّد هذا احتمال إعادة توحيد البلاد بقوة، أو يؤجلّها بشكل مفتوح على السنين المقبلة.
وعلى الرغم من كون الموقف الروسي يهدد خصوصاً المنطقة الشمالية الغربية، حيث هنالك النازحون والسكان تحت سيطرة تركيا وهيئة تحرير الشام وقوى إسلامية تحت قيادة تركية بدورها، إلّا أن الإضاءة أكثر على ما يجري في مناطق النظام هي ما ينقصنا، وهي التي يساهم غيابها في تكريس تلك الفروق، ومنع التواصل بين السوريين في تلك المناطق الثلاث، ولدى الجوار الإقليمي، وفي أنحاء المعمورة الأخرى. يقول برنامج الغذاء العالمي؛ المنوط به الجزء الأكبر من تنفيذ إغاثة السوريين؛ إن 14 مليون سوري يحتاجون للغوث هذا العام 2022، وإنه يهدف إلى الوصول إلى 12 مليونا منهم بتمويل 4.2 مليار دولار. وكانت أكثر السنوات حاجة في السابق هي في 2016، بعد ارتفاع درجة العنف من قبل روسيا والنظام، إلى الحدّ الأقصى، حينها بلغ عدد المحتاجين 13.6 مليون تم استهدافهم جميعاً، رغم أن تقدير الحاجة المالية لم يزد عن 3.2 مليار. ويحدّد البرنامج الأهداف الاستراتيجية له في إنقاذ حياة السكان وحمايتهم، وتطوير التدخّل لمصلحة توفير أسباب الحياة والحاجات الرئيسة. هذه المساعدات – حين تصل أهدافها- تأتي على شكل سلال غذائية أو دفعة مالية تُصرف عن طريق بطاقات خاصة، لتغطية الحاجات الخاصة والنوعية.
هنالك دولة فشلت وغدت دولة مخدرات، وقوى مسلحة متنوعة تسود وتجول هنا وهناك، وأناس يتطلّعون إلى اللجوء للخارج، أو إلى التطرّف أو الضياع
رغم ذلك، قامت وزارة التجارة الداخلية و»حماية المستهلك» في القرار رقم 205 في يوليو السابق بتخفيض مخصصات الخبز من أربعة أرغفة للفرد الواحد، إلى ما متوسّطه رغيفان وثلث الرغيف؛ علماً أن الغذاء الرئيس لذلك الفرد هو الخبز ذاته، وكذلك كان وقود التدفئة المخصص للأسرة هو 200 لتر عام 2020، تمّ تخفيضه مؤخّراً إلى خمسين لتراً فقط سنوياً. كما يستغرق الحصول عملياً هذه الأيام على جرة غاز للطبخ حوالي الثلاثة أشهر، مع أن المقرّر هو جرة غاز للأسرة كلّ ثلاثة أسابيع، أصبحت لاحقاً جرّة واحدة كلّ خمسين يوما. أما التيار الكهربائي، فقد تناقص في العامين الأخيرين من ثلاث ساعات توصيل ثم ثلاث أخرى انقطاع، إلى أربع ساعات فاثنتين، إلى خمس فواحدة.. وليس معروفاً بعد تأثير العنفة التي دشّنها الأسد في حلب مؤخّراً بعد صيانتها، وهي باستطاعة 200 ميغاواط… ما يعادل حوالي اثنين في المئة من الطاقة المُتاحة!
تراجعت مواصفات رغيف الخبز «الرسمي» إلى مستوى غير محتمل في تلك المناطق، وتزاحم السكان في طوابير مهينة دائماً لنيل استحقاقاتهم المقصورة دائماً، وتمّ تسعير جرة الغاز «الرسمية أيضاً» بما يقارب نصف راتب الموظّف، «الرسمي بدوره». المواطن السوري يشتري ربطة الخبز بـ1200 ليرة وجرّة الغاز بحدود 30 ألف ليرة، وراتب الموظف لا يتجاوز متوسطه المئة ألف ليرة، وهو يكفي لتأمين حاجة أسرة متوسطة من الخبز والغاز وحدهما!
اختفى اللحم – أو كاد – من حياة البشر، وتقلّص وجود الخضار ذاتها كثيراً، فكيف بالفاكهة. اعتنى الأسد جيداً بتدمير ما يقارب نصف مساكن الناس، ومعظم بنيتهم التحتية، وقتل وعوّق وهجّر أكثر وعوّق أكثر من نصفهم. رغم ذلك، ليس هذا لبّ المصائب. ذلك يتعلّق بالتعليم وما يعنيه للأجيال القادمة قياساً للماضي وللمستقبل.
ليس الحديث عن حالة التعليم سهلاً في مخيّم الهول أو مخيم الركبان مثلاً، في حين يذكر تقرير أصدرته «وحدة التنسيق والدعم» منذ أكثر من عام حول حالة التعليم في مخيمات النازحين في الشمال الغربي والبالغ عددها قرابة 1489 مخيماً تؤوي 1.6 مليون نسمة، يعاني من بينهم أكثر من 680 ألف طفل من تفاقم في سوء أوضاع القطاع التعليمي. هنالك مدارس في 175 مخيماً فقط، في حين أن 1127 مخيماً أو موقعاً للنازحين ليست فيها مدارس. 30% من المدارس التي شملتها الدراسة تتألّف من خيمة أو أكثر، بينما 19% هي غرف مسبقة الصنع، أو كرفانات، في حين كان 14% من المدارس في المخيمات عبارة عن غرف إسمنتية بسقف إسمنتي و6% من غرف إسمنتية بسقف من التوتياء و4% من غرف إسمنتية مغطاة بعازل مطري؛ بينما هنالك 10% في بناء مدرسي نظامي و8% في صيوانات كبيرة…
في سوريا أكثر من 3.2 مليون طفل غير الملتحقين بالمدرسة، منهم 40% تقريبا من الفتيات. ملايين غيرهم (1.9) مهددون بالتسرب أيضاً. هذا العدد في عام 2019 قد ارتفع بشكل ملموس نتيجة تأثير جائحة «كوفيد- 19». أكثر من ثلث المدارس داخل سوريا ( ويقال أكثر من 40%) غير صالحة للاستخدام لأنها تعرضت للدمار أو للضرر، أو لأنها تُستخدم لأغراض عسكرية. أما الأطفال القادرون على الالتحاق بالمدارس، فإنهم يتعلمون في الغالب في صفوف دراسية مكتظة، وفي مبانٍ لا تحتوي على ما يكفي من المياه ومرافق الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة أو التهوية.. تؤكد الأمم المتحدة وقوع حوالي 700هجوم على منشآت التعليم وطواقم التعليم في سوريا، منذ بدء التحقق من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال. تم تأكيد 52 هجوما مثلا في عام 2019. هنالك ثلاثة أنواع من المناهج ومن طرق الامتحان في الشمال الشرقي والشمال الغربي ومناطق النظام: في الأولى تدخلت متطلبات التثقيف بأيديولوجيا الإدارة الذاتية على المناهج الرسمية، وفي الثانية متطلبات تعزيز الأسلمة والتمذهب والقبلية، وفي الثالثة استمرت مناهج عبادة الفرد والبعث وآليات الفساد حتى في امتحانات الشهادات المرحلية والدور على أفران الخبز. إذن هنالك كارثة متعددة الرؤوس من مجاعة تنذر في الأفق، وتعليم يتدهور نحو الحضيض، إضافة إلى انحلال القضاء وانعدام حكم القانون، مع تفريغ البلاد من نخبها التي يمكن أن تبني مستقبلاً صعب التصوّر، وبلد لامع يتفتّت ويمّحي. لا بدّ إذن من أن نقلع عن المكابرة ونبحث عن اختراق بعد اختراق، ونجترح الجديد ونوقف عنفواننا لجيلٍ أو جيلين.. قد يكون اقتراح قبول عبور المساعدات الإنسانية من مناطق النظام مفيداً من عدّة مناحٍ مثلاً، خصوصاً إذا تمّ اشتراط ألّا يكون للنظام دور في مرافقتها أو الهيمنة عليها والابتزاز بواسطتها أو تسريبها، وليكن ذلك تحت إشراف دولي. مجرّد مثال…
هنالك دولة فشلت وغدت دولة مخدّرات، وقوى مسلّحة متنوعة تسود وتجول هنا وهناك، وأناس يتطلّعون إلى اللجوء للخارج، أو إلى التطرّف أو الضياع… وتزداد التحفّظات السياسية سخفاً يوماً بعد يوم!
كاتب سوري
ومن السبب في ذلك الوضع ، أليس هو الإنجرار وراء قاطرة ما يسمى بالربيع العربي الذي لم يزهر.!!، بل بالعكس كانت نتائج الربيع شوكا بدل الزهور.
شكرًا أخي موفق نيربية. لاشك أن السياسة تزداد سخفًا يومًا بعد يوم في هذه الأيام. هناك كارثة واحدة فقط في سوريا هي بشار الأسد ونظامه وماتبقى فقط تفاصيل! لا أعتقد أنه بوجد حل عاجلًا أم أجلًا ببقاء هذا النظام.
أخي Arabic Uk الضحية دائمًا هي المسؤولة عن الجريمة، أليس كذلك! هكذا تعلمنا من الإحتلال الإسرائيلي منذ النكبة!