الجولاني والثورة والسلطة

حجم الخط
1

يحار المرء في أقوال وأفعال زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، بالنظر إلى الوضع القلق لمحافظة إدلب وجوارها المسماة في أدبيات آستانا «منطقة خفض التصعيد الرابعة». فهذه المنطقة المكتظة بسكانها وبالنازحين من مختلف المناطق الأخرى، تخضع لهدوء نسبي تحت مظلة توافق مؤقت تركي ـ روسي يمكن أن ينهار في أي لحظة، فضلاً عن خرق النظام للهدنة الهشة بشكل متواتر بقصف جوي أو مدفعي لا يترك فرصةً لأي حياة اجتماعية أو اقتصادية مستقرة، ناهيكم عن تأسيس أوضاع جديدة و«مؤسسات» ومصانع على ما يبشرنا به أبو محمد الجولاني الذي لا يكف عن الظهور على وسائل الإعلام في هيئة «رجل دولة» مسؤول!
ففي عيد الأضحى التقى الزعيم الجهادي مع وجهاء المنطقة التي يحكمها، ووزراء «حكومة الإنقاذ» التي يمون عليها، يرافقه بعض أركان «الهيئة» العسكريين، ليتحدث عن «مشروعه» المتمثل في بناء «كيان سني» ينقذ السنّة من خطر الإبادة. ويدافع الجولاني عن الانتقال من الحالة الثورية والعسكرية إلى «حالة البناء» والاستقرار بعدما استتبت السلطة له في مناطق واسعة.
هل يعني ذلك أن الجولاني و«الهيئة» قد اكتفيا من ثورتهما بمنطقة إدلب، ويعملان على توطيد أسس حكمهما في هذه الدويلة الصغيرة؟ لقد طرح عليه البعض ممن التقاهم هذا السؤال، وأجاب إجابة من ذلك النوع الذي ألفناه في أدبيات الأنظمة الدكتاتورية الممانعة بشأن «تحرير فلسطين وكافة الأراضي المحتلة.».. فقال: «الخطة الاستراتيجية موجودة وواضحة، الواجب الأول هو تحرير كل سوريا»! لكن هذا يتطلب «خطوات، وشيئا من الإعداد، وفرص سانحة» يشرح أبو محمد لمستمعيه حيثيات الاكتفاء حالياً بالكيان السني في هذا الإطار الجغرافي الضيق.
ولا يبخل الرجل في امتداح تفوّق الدويلة التي يحكمها على الدويلات المجاورة كمناطق حكم «قسد» أو «الجيش الوطني» أو مناطق النظام الأسدي، فإدلب في رأيه أصبحت «منارة للعلم والمعرفة» وتمتلك بنية تحتية للتنمية الاقتصادية والبشرية. وسبب ذلك، في رأيه، هو «استقلال الشخصية الثورية في إدلب» مقابل تبعية كل من النظام و«قسد» و«الجيش الوطني» لقوى خارجية. فكل الدعم الذي تحصل عليه القوى المذكورة من الجهات التابعة لها لم تجعل مناطق سيطرتها في حال أفضل من مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» المستقلة في قرارها والمحرومة بالتالي من أي دعم خارجي. إنه خطاب سلطوي نمطي يتحدث عن «إنجازات» وعن «استقلالية القرار» وعن «أهداف استراتيجية» ويقارن الوضع تحت حكمه بالوضع في الدويلات الأخرى فيتفوق عليها في كل الميادين، متجاهلاً تماماً أي تطرق لشرعية سلطته الاجتماعية، ونواظم العلاقة بينها وبين المجتمع، وعلاقة الهيئة بـ«حكومة الإنقاذ».

هذه المنطقة المكتظة بسكانها وبالنازحين من مختلف المناطق الأخرى، تخضع لهدوء نسبي تحت مظلة توافق مؤقت تركي ـ روسي يمكن أن ينهار في أي لحظة، فضلاً عن خرق النظام للهدنة الهشة بشكل متواتر بقصف جوي أو مدفعي لا يترك فرصةً لأي حياة اجتماعية أو اقتصادية مستقرة

ولعل في التشبث اللفظي بـ«الهدف الاستراتيجي» تمسكاً بـ«شرعية ثورية» مفقودة منذ سنوات، يعتبرها الجولاني معطىً بديهياً لا حاجة لذكره. في حين أن كل خطاب الجولاني هو خطاب دولة وليس خطاب ثورة، ومن يملك سلطة الدولة في مرحلة ما بعد الثورة يحتاج إلى شرعية اجتماعية، أو عقد اجتماعي.
هذا بصرف النظر عما قد يعنيه الجولاني وغيره من الإسلاميين بكلمة «الثورة» التي يختلف مفهومها عندهم اختلافاً تاماً عن ثورة الحرية والكرامة التي أطلقها السوريون في منتصف آذار 2011، في سياق معلوم من ثورات «الربيع العربي» التي استهدفت أنظمة دكتاتورية عائلية أو سلالية فاسدة ودموية. فثورة الجولاني إسلامية، وهو يسعى إلى بناء كيان سني، أي دولة سنية، سواء في منطقة إدلب وجوارها فقط، على غرار «الاشتراكية في بلد واحد» على طريقة ستالين في روسيا، أو في كامل الأراضي السورية على غرار «الثورة الدائمة» على طريقة تروتسكي في كل العالم، مع التحفظ على الفارق الكبير بين أحجام الطموحات بين الأمس واليوم، كما بين رحابة الأيديولوجيا الإشتراكية وضيق الانكفاء السني والمحلي.
يمكن القول إن الجولاني نجح في أمر واحد هو القطيعة الكبيرة التي أحدثها، خلال السنوات السابقة، مع منظمة القاعدة تنظيماً وفكراً، فتحولت «الهيئة» إلى فصيل مسلح لا يختلف كثيراً عن الفصائل الأخرى، بل يتميز عنها في قوته وانضباط عناصره وتماسك قيادته الداخلي. أما صفة الإرهاب التي ورثتها الهيئة عن «القاعدة» فلم تعد تنطبق عليها بالمعنى الدقيق للكلمة، على رغم أنها ما زالت رسمياً على قوائم المنظمات الإرهابية للأمم المتحدة ولكثير من الدول. هذا على أي حال موضوع جدلي يخضع دائماً لاعتبارات سياسية، سواء تعلق الأمر بالهيئة أو «قسد» أو «الجيش الوطني» أو نظام الأسد، فكل جهة تتهم خصومها بالإرهاب، للاستقواء بالمناخ السائد في الغرب بشأن ظاهرة الإرهاب.
يبقى أن هذا الارتياح الذي نقرأه في كلام الجولاني الذي نقلته بعض التقارير الإعلامية، ربما يعود إلى تمديد مجلس الأمن لقرار استمرار تدفق المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى، بعد مقاومة روسية. وأفضى العناد الروسي إلى «حل وسط» تمثل في تقليص مدة سريان القرار من سنة إلى ستة أشهر. وهذا ما يعيدنا إلى تلك الثقة العالية التي تكلم بها الجولاني عن استقرار الوضع في مناطق سيطرته، عن تشجيع الزراعة والصناعة والتعليم والتجارة وغيرها من الأنشطة الحيوية. دولة الجولاني ليست محدودة فقط في المكان، بل في الزمان أيضاً الذي تحدد الآن بستة أشهر، ما لم ينته الوفاق الروسي ـ التركي إلى اندلاع حرب النظام مجدداً على المنطقة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هذا بصرف النظر عما قد يعنيه الجولاني وغيره من الإسلاميين بكلمة «الثورة» التي يختلف مفهومها عندهم اختلافاً تاماً عن ثورة الحرية والكرامة التي أطلقها السوريون في منتصف آذار 2011، في سياق معلوم من ثورات «الربيع العربي» التي استهدفت أنظمة دكتاتورية عائلية أو سلالية فاسدة ودموية. ” إهـ
    لقد تم سحق ثورة الحرية والكرامة من النظام العلوي , ولهذا تحولت لثورة إسلامية !
    النظام إستغل الطائفية عند جميع الأطراف ومنهم داعش !! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية