يوتوبيا

كنت أتناقش وطلبتي حول كتاب توماس مور العظيم «يوتوبيا»، الذي يستعرض الكاتب من خلاله رؤيته للمجتمع المثالي الفاضل، وفي الوقت نفسه يسخر عبره مِن وينتقد سياسات إنكلترا القرن السادس عشر. خلبت الفكرة لب الطلبة وهم يتفكرون في إمكانية تحقيق مثل هذا المجتمع ومعنى وتبعات العيش فيه. دار الحوار حول العديد من الأفكار، مدى إمكانية خلق مجتمع فاضل دون ديكتاتورية، مدى إمكانية خلق فضيلة كاملة في مجتمع بشري أًصلاً، مدى حقيقية هذه الفضيلة بين المجبرين عليها، إلا أن السؤال الذي دار واستقر عميقاً وأتصور اضطرابياً في نفوسنا جميعاً هو: هل نريد أن نعيش في  مجتمع مثالي تام كهذا؟

سألتهم إن كانوا يودون أن يحيوا في مجتمع يساوي بين الجميع، لا ميزة تميز أحد عن أحد. خَفَت الحماسة بعض الشيء وهم يتفكرون كثيراً في معنى غياب التميز وهو ما يفرق إنسان القرن الواحد والعشرين عن سابقيه من البشر. الفردية، لا الجماعية، هي عنوان المرحلة مما يصعب على هؤلاء الشابات والشباب كثيراً بلع فكرة التشابه والتناسخ، هذه الكربونية التي تحرمهم أدنى تفرد أو اختلاف. فكرت سراً ضاحكة: ستكون صوركم كلها متشابهة تماماً على الإنستغرام، هذا لو بقي الإنستغرام مسموحاً به أصلاً في المجتمع اليوتوبي. أخبرتهم أن فكرة اليوتوبيا تعد بغياب الطبقية والرغبة الجشعة في الاستهلاك وفكرة الملكية وما يصحبها من سعي حثيث وكثيراً ما يكون مميتاً نحو المال. فكرة اليوتوبيا أصلاً، أكدتُ لهم، تعد بغياب المال كأداة مقايضة، حيث لن يحتاجها أحد في هذا المجتمع الذي ستكون فيه كل الأساسيات متوفرة، إلا أن ذلك سيعني، أنذرتهم، غياب المتع غير الأساسية، وسيدفع إلى تشابه الحيوات البشرية وتطابقها إلى حد كبير. سألت وانتظرت: هل العدالة تستدعي غياب التفرد والتميز؟ هل المساواة تقتل الطموح؟ هل هو هذا العجز البشري تجاه تحقيق العدالة والمساواة وتقبلهما التام، والذي أفشل فكرة الماركسية تطبيقاً رغم مثاليتها الرائعة على الورق، هو ذاته الذي يمنع خلق المجتمع اليوتوبي؟

بقي الحوار مشتعلاً وتباينت الآراء بين رغبة في العدالة وشهوة للتميز والتفرد. إلا أن الحوار أخذ منحى مختلفاً حين سألتهم إن كانوا يرغبون في أن يحيوا في مجتمع تام السعادة، لا آلام فيه ولا معاناة ولا رغبات معلقة ولا ذكريات موجعة. في البداية، تحمس الجميع للفكرة، «من يريد أن يحيا بآلام وأوجاع؟» كان تساؤل إحداهن، إلا أنني أخبرتها أن معنى ذلك أنها لن تشعر برغبة في شيء بعد ذلك، لن تستطيع أن تستشعر الشجن على سبيل المثال، لن تتفاعل بهذا الحزن الرطب لو استمعت إلى أغنية أو شاهدت مشهداً تمثيلياً. رغم ذلك، بقيت فكرة التخلص من الأوجاع شديدة الإغراء. ترى، ماذا رأى هؤلاء اليافعون من أوجاع الدنيا ليتمنوا غيابها إلى هذا الحد؟ حاولت أن أتذكر نفسي حين كنت في عمرهم، هل بدت لي أوجاعي حينها على هذه الدرجة من الضخامة والجدية؟
إحداهن اعترضت، «ستكون الحياة مملة»، أخبرتني هي بتردد. ردت أخرى، «لكننا سنكون سعداء». سألتهم بدوري أن كيف ستعرفون أنكم سعداء إذا لم تكن هناك أحزان تتباين والسعادة؟ كيف ستعرِّفون السعادة في غياب الحزن؟ بدا الفصل الدراسي صاخباً ورائعاً وحياً جداً والطلبة يتصارعون مع الفكرة، يفلسفونها، يرغبون فيها ويخافون منها في الوقت ذاته. إلا أن المعظم ذهب مع الخيار الذي بدا أكثر أماناً: نريد السعادة التامة. سألت: ثم ماذا؟ لم سنعيش وكيف سنعيش إذا لم يكن هناك هدف نرغب به ونسعى لتحقيقه، إذا لم تكن هناك مشاعر نستشعرها تعطي للحياة أبعاداً وأعماقاً مختلفة؟ كيف ستكون الحياة بهذا البعد السعيد الواحد؟ بل هل يمكن أن تكون هناك حياة ببعد واحد؟ يقول العلم إن حياتنا ثلاثية الأبعاد، لا يمكن أبداً أن نحيا حياة ثنائية فيزيائياً، ذلك أن الطول والعرض سينطبقان أحدهما على الآخر، وستختفي الحياة. لكي نحيا ونرى ونتفاعل، لا بد للحياة أن تكون دائماً ثلاثية الأبعاد. هل يا ترى يحكم هذا القانون مشاعرنا أيضاً؟
حين تغيرت الآراء وبدأ البعض يفتقد «الحياة الطبيعية» في تلك الدقائق التي بدا لهم أنني حرمتهم بمقترحي منها، امتلأ الفصل بالهمهمة، وبدا أنهم جميعاً متوترون بقرار مصيري عليهم أن يتخذوه. بدت لهم الحياة الشاقة أكثر جاذبية، لربما أكثر أماناً، وبدا أن البعض منهم أخذ يستشعر الخوف من غياب المشاعر، من غياب الإرادة، من التحول إلى ما يشبه الآلة، من الغياب التام على القدرة على الشعور بشيء آخر غير السعادة. الإرادة أصبحت هي المفهوم الفصل عند هذه النقطة من الحوار: «لا نريد أن نفقد إرادتنا ولو أتعستنا… بل لنفقدها مقابل السعادة التامة… وكيف سنعرف أنها سعادة إذا ما شعرنا بشيء آخر؟» فجأة، قفزت إحداهن: «انتهى، لا أريد يوتوبيا، أريد أن أحيا حياة طبيعية تامة، أريد المشاعر والإرادة، أريد أن أختار حتى لو اخترت أن أكون حزينة». نظرت في عينيها وقلت لها «فكري بعض الشيء فيما تقولين، فكري في معنى هذا الاختيار». نظرت إليّ وقد اتسعت عيناها وانفرج فمها نصف انفراجة وسقط ساعداها المتحمسان إلى جنبيها. غرق قلبي بعاصفة من الشجن الأمومي، مسكينة هذه الصغيرة، مسكينة جداً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” دار الحوار حول العديد من الأفكار، مدى إمكانية خلق مجتمع فاضل دون ديكتاتورية، مدى إمكانية خلق فضيلة كاملة في مجتمع بشري أًصلاً، ” إهـ
    هل الشذوذ من الفضيلة ؟
    هل التعري والزنا من الفضيلة ؟
    و هل عقوق الوالدين من الفضيلة ؟
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    السعادة التامة هي سعادة الروح يا دكتورة حفظكم الله !
    حين تكون روح الإنسان معلقة برضا الله , تظهر القناعة بما قسمه الله سبحانه وتعالى !!
    حتي الجمال تتفوق عليه الروح , ويقال جمال الروح , يجب أن ترتقي أرواحنا عن المظاهر الخادعة !!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    قال الشاعر :
    جـمال الـروح ذاك هو الجمالُ تـطيب بـه الـشمال والخِلالُ
    ولا تُـغني إذا حـسنت وجـوه وفـي الأجـساد أرواح ثـقال
    ولا الأخـلاق لـيس لها جذور مـن الإيمان تـوّجها الكمال
    زهـور الـشمع فـاتنة ولـكن زهـور الروض ليس لها مثال
    حـبال الـود بالإخلاص تقوى فـإن يـذهب فلن تقوى الحبال
    حـذارِ مـن الجدال فكم صديق يـعـاديه إذا احتدم الـجدال
    بأرض الخِصب إما شئت فازرع ولا تـجدي إذا زرعـت رمال
    جـمال الـروح ذاك هو الجمال تـطيب بـه الـشمائل والخلال.
    – منقول –

  4. يقول قارئ متجول:

    رمز الكمال الإنساني و المثال المطلق المجرد من الأخطاء أهلها يعيشون في سلام دائم تملأه السعادة و الرخاء ، تناول هذا الموضوع توماس مور في “يوتوبيا” و أفلاطون في “جمهورية أفلاطون” و الفارابي في “المدينة الفاضلة” و “تحصيل السعادة” ، و المعري في “رسالة الغفران” و هوميروس في “الأوديسة”، و غيرها من عشرات الأعمال قديماً و حديثاً . التواتر الزمني الدّال على تحليل فكرة اليوتوبيا هو في حدذاته يؤكد قِدم هذه الفكرة و صحتها و وجودها حقيقياً ، و بالعودة إلى غابر الزمن يمكن القول أن أبونا آدم عليه السلام و أمنا حواء رضي الله عنها هما مصدر فكرة هذه المدينة الفاضلة التي عاشا فيها مدةً من الزمن . قال تعالى : “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ” سورة الغاشية .
    …./….

  5. يقول قارئ متجول:

    هناك وسائل عقلية متعددة لإثبات هذه الحقيقة منها : الأعداد الحقيقية و الأعداد التخيلية ، إذا جاز لنا تمثيل الواقع المعاش في الكرة الأرضية بالأعداد الحقيقية و اليوتوبيا بالأعداد التخيلية ، فالأعداد الحقيقية يعرفها الخاص و العام هي كل الأعداد R سواء كانت سالبة أو موجبة.و العدد التخيلي هو الجذر التربيعي لسالب (-1) ، بمعنى i²=-1 و هذا غير ممكن من حيث المنطق الرياضي أي لا وجود له في أرض الواقع هو عبارة عن “يوتوبيا ” لأن قيمة i² تكون دائماً موجبة مهما كان العدد i سالباً أو موجباً . إن العدد التخيلي في الأعداد المركبة لها أهمية بالغة في عالمنا المعاصر فهي تدخل في حساب المساحة بواسطة التفاضل و التكامل و تدخل في علم الكهرباء و في علم الفيزياء . و النتائج المتحصل عليها تكون صحيحة و واقعية رغم أن علاقة i²=-1 لا يقبلها المنطق الإنساني .

  6. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    في المجتمعات التي تحاول الاقتراب من هذه الصورة المثالية لمجتمعاتها تصطدم دائما بالتركيبة البيولوجية للإنسان. أصل الإنسان حيوان , تحليلات الجينوم البشري لم تترك مجالا للتشكيك في الموضوع. كي نقترب من شكل هذه الحياة المثالية – علينا أن نكون ” روبوتات ” صنعت من قالب واحد وبعقل واحد وتفكير واحد وهذا الأمر طبعا من صنع الخيال. الأوتوبيا – فكرة قد يهرب إليها ربما الشقي في الحياة للتخفيف من ألمه. من المستحيل إحداث مجتمع متساوٍ . الأمر لايتعلق بغياب الرغبة وسن القوانين , التركيبة البشرية المعقدة لن تسمح أبدا في تحقيق هذه الرغبة ” الخيالية ” برأيي.

  7. يقول الدكتور عبد الرزاق شاكر:

    {{كنت أتناقش وطلبتي حول كتاب توماس مور العظيم «يوتوبيا»، الذي يستعرض الكاتب من خلاله رؤيته للمجتمع المثالي الفاضل، وفي الوقت نفسه يسخر عبره مِن وينتقد سياسات إنكلترا القرن السادس عشر. }} انتهاء الاقتباس
    السيدة ابتهال الخطيب المحترمة ، بعلمنا ، كما نوّهتِ أنتِ من قبل ، بأنكِ خرّيجة دكتوراه لغة إنكليزية وأدبها (على ما نعتقد) ؛ فما علاقة كل هذا بناقشكِ وطلبتكِ حول كتاب توماس مور العظيم «يوتوبيا» هذا ؟؟ هل غيَّرتِ اختصاصكِ التعليمي مع مر الزمن أم أن لك نشاطات فكرية مع طلبتكِ خارج نطاق اللغة الإنكليزية بما يخوّل لأحدهم بالتشدّق بيوتوبيا مور ذاتها خالطا الحابل بالنابل عن أفلاطون وهوميروس والفارابي والمعري وحتى الأعداد الحقيقية والأعداد التخيلية إلخ – !!

  8. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    @الدكتور عبد الرزاق شاكر
    .
    السؤال هو .. كيف غاب عن شخصكم الكريم أن دكتوراه لغة إنكليزية وأدبها و كرسي جامعي يخول للكاتبة أن تناقش أي
    شيئ فكري اطلاقا .. خصوصا ما له ارتباط بانجلترا ككتاب توماس مور العظيم «يوتوبيا»، الذي يستعرض الكاتب من خلاله
    رؤيته للمجتمع المثالي الفاضل، وفي الوقت نفسه يسخر عبره مِن وينتقد سياسات إنكلترا القرن السادس عشر.
    .
    بالله عليك .. كيف .. هات نشوف ..
    .
    هل من قاعدة تحدد مواضيع نقاش أساتذة جامعيين مع طلبتهم؟ أفدنا ..

  9. يقول عبد الرحيم المغربي .:

    استمدادات توماس مور الفلسفية لم تخرج عن نطاق الروافد اليونانية والإسلامية…في سياق تكامل الفلسفة المثالية من افلاطون إلى الفارابي…مرورا بأفلوطين الاسكندري..والكندي.ووصولا الى الحدسية المحدثة…؛ والمفارقة هنا هو أن أي مشروع فكري تمثل ماينيغي أن يكون نظريا في حياة البشر المجتمعية..لم ينفصل عن مقتضيات التصور الديني للمعنى الروحي للكائن البشري في كينونته الفضلى…التي لاتقيم أدنى وزن لمرجعية التفسير المادية… التي كلست الفكر في توابع المادة فهما وتكريسا وسلوكا…مما أدى إلى شرعنة الغرائزية في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والتعاملية… وأدت على سبيل الاستتباع الى تغييب أغلب معاني الشعور المثالية التي تتجاوب مع المكون المعنوي للإنسان باعتباره معنى روحيا مركبا في إطار محسوس…وهذا الأخير وهو الجسد تحديدا لايختلف في حقيقته المجردة عن سجن للروح الإنسانية…بحكم محدودية حركيته ونسبية استمراره…وخضوعه لقوانين الطبيعة الضيقة التي تعوق التحليق المعرفي في آفاق اللامتناهي…والخروج من حواجز الممكن…بكل تجلياته المعرفية والنفسية واللاشعورية أيضا…وهنا مكمن التعاسة والسعادة…

إشترك في قائمتنا البريدية