«البكاء بين يدي عزرائيل»… رواية الشخصية الوحيدة

بعد أعماله القصصية: «رأس كليب» و«وليمة الجاحظ» و«ذبابة على أنف هولاكو» و«جنازة المومياء». ورواياته: «الملائكة لا تمشي على الأرض» و«طريد الرحم» و«التميمة السوداء» وديوانه «القمر في الدورق» ومقالاته الساخرة، الصعاليك الجدد، تصدر للأديب حسام الرشيد رواية جديدة بعنوان طريف، ومثير للاشتباه، وهو البكاء بين يدي عزرائيل (الأهلية ـ 2022).

غموض

هذه الرواية تبدو من النظرة الأولى سيرة ذاتية للسارد، وهو البطل، الذي لا نعرف اسمه، ويظل أمره غامضا مع أننا نعرف أباه، صاحب مكتب الاستدعاءات (عرض حال) ونعرف بعض أصدقائه، ومنهم: العم منسي وجاسر ورياض والعراقي مناحي مدرب الكاراتيه، إلا أننا لا نقف على اسم له مثل الآخرين. ونعرف شخوصا آخرين باسمائهم كسائر الخلق. منهم نادية، ورهف، وماجد، وتوفيق زهران- مدير تحرير أخبار الوطن، ومجاهد يوسف الذي يعتزم خوض الانتخابات النيابية ليصبح عضوا في البرلمان. وأسامة الذي يقود طاقم المدققين في الجريدة. وحمدة المتعلقة تعلقا شديدا بنشرات الأخبار منذ غادرت فلسطين عام 1948 فتنصِتُ لها من مذياع ترانزستور صغير تخفيه تحت المخدة، عندما تنتهي من سماع آخر نشرة. والمحامي كميل الذي توقع السارد أن يجد لديه حلا لمعضلته فيتدرب على المحاماة، ويغدو عضوا في نقابة المحامين، وهي الخطوة الأولى نحو مستقبل يتمكن فيه من المرافعة أمام المحاكم في القضايا الجزائية. لكن تبين بعد وقت قصير أن قرارا صدَرَ ضد كميل هذا يقضي بمنعه من ممارسة المحاماة.

شخوص

والشخوص في هذه الرواية في الغالب، والأعمّ، شخصياتٌ ثابتة، بمعنى أنها تولد مُكتملة، ولا يطرأ عليها أيُّ تغيير يفصح عن اختلاف في الدور الذي تقوم بأدائه، من حيث هي شخصية روائية. فالمنسي يمارس أعمالا عدة، فهو حارس آثار تارة، وتارة حارس متنزه، ويكثر من تصفّح الجرائد، القديمة منها والجديدة. وهو الذي يحاول من حين لآخر مساعدة السارد الذي درس الحقوق، وبحوزته شهادة بكالوريوس، في العثور على عمل، لكن افتقاره للخبرة يحول بينه وبين الوظيفة. ويتطلع لأي عمل حتى لو كان هذا العمل مدققا للبروفات المطبعية في جريدة أخبار الوطن، مع أنه لا هو صحافي، ولا ما يحزنون. ومعرفته بالعربية نحوا وصرفا لا تتجاوز معرفة أيّ خريج من خريجي كلية الحقوق. وليس ثمة تغييرٌ في موقف الأب. والكلمة التي تتكرّر على لسانه دائما بعد أن يخفق السارد في العثور على وظيفة: مع ذلك فلنحاول. وهذا التكرار في المواقف نجده لدى نادية، وعند صفوان في بناية جوهرة القدس في العبدلي، وعند الشيخ صُهيب، كذلك يتكرَّر الشيء نفسه من حمدة، التي تعبر عن دورها في الحوادث عبارة «رجعت حليمة لعادتها القديمة». وثمة فتاة باسم (قتيبة) وهي شقيقة نادية، أمينة المكتبة. كان والدها قد سماها بهذا تخليدا لذكرى عمّها قتيبة الذي استشهد في معارك باب الواد، بين يافا والقدس، ودفن في حُرْش عمواس. ووالدها بعثي، من جماعة صلاح جديد، معجب بالقومية من حيث هي مبدأٌ، وفكــرٌ، ساد في ستينيات القرن الماضي. وأما جاسرٌ، ورياض، وغيرهما من الأسماء، فهي أسماءٌ تعبُر أفق هذه الحكاية عبورا لا يترك إلا القليل النَزْر من الأثر.

والشخوص في هذه الرواية في الغالب، والأعمّ، شخصياتٌ ثابتة، بمعنى أنها تولد مُكتملة، ولا يطرأ عليها أيُّ تغيير يفصح عن اختلاف في الدور الذي تقوم بأدائه، من حيث هي شخصية روائية. فالمنسي يمارس أعمالا عدة، فهو حارس آثار تارة، وتارة حارس متنزه، ويكثر من تصفّح الجرائد، القديمة منها والجديدة.

الشخصية الواحدة

ولهذا لا نستطيع أنْ نعدَّ هذه الشخصيات شخصياتٍ روائية كتلك التي نعرفها في الرواية. باستثناء السارد الذي يروي الوقائع مستخدما ضمير المتكلم. فالقارئ – مثلا- بعد قراءته لرواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ لا يمكن أن ينسى شخصية سعيد مهران، أو رؤوف علوان، أو نبوية، وعليش، أو الجنيدي شيخ الزاوية. ومن يقرأ رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف يصعُب عليه أن ينسى شخصية رجب، أو أنيسة. أما إذا قرأ من الروايات العالمية «مدام بوفاريه» لفلوبير، أو «أنا كارنينا» لتولستوي، فلن يكون بمقدوره نسيان بطلتيهما لاتساع الدور الذي قامتا به، ولاتساع إطار التحليل النفسي لكل منهما عن طريق الحوادث تارة، وعن طريق القيام بالأفعال تارة أخرى. ولهذا نستطيع القول بثقة تامة: إن رواية حسام الرشيد هذه هي رواية الشخصية الواحدة. وهي – ها هنا – شخصية السارد الذي لا نعرف له اسما، ولم تحدَّد له هوية، فكأنها سيرة رجل مجهول قضيته المؤرقة هي البحث عن عمل بلا فائدة. وقد توالت المحكيّات عن هذه المشكلة، فهو في الطريق إلى العقبة تارة، وفي عمان في الشميساني تارة، وفي العبدلي تارة أخرى، وبين الآثار الرومانية في جرش تاراتٍ أخر. وهذا كله من أجل أن يصف لنا معاناة البطل الذي ينسحب عليه قول الشاعر «لكن سماءك ياولدي ممطرة.ٌ. وطريقكَ مسدودٌ. مسدودْ» لكنه، مع ذلك، لم يفكر بالانتحار، ولا بالذهاب للعقبة كي ينتحر هناك فيكون ماءُ البحر قبره بدلا من الأرض.

أجواء جديدة

هذا التكرار للمحاولات يُتوقَّعُ منهُ أن يُسفر عن إيقاع بطيء في السرد، وعن مرويات تشعر القارئ بالسأم، والرتابة، وتضطرهُ لتخطي صفحاتٍ غير مقروءة تلهفا لمعرفة النتيجة التي يتوقّعها صاحب الشأن، ويتوق القارئ لمعرفتها، ومعرفة ما إذا كانت توقُّعاته مطابقة لتوقعات السارد أم لا. بيد أنّ حسام الرشيد تجنب بحنكةٍ، ودراية فنيةٍ، هذا التكرار المضجر، الممل، بإضفائه على المحاولات أجواءً جديدةً، مغايرةً، فيها ما يجتذبُ القارئ، ويراعي تطلعه لتغييرٍ ما يطرأ على النسق. علاوةً على هذا، تنبّه المؤلف لما يضيفه اختلاف الأمكنة من تشويق، فهو في جرش تارة، وتارة في العقبة، وطورا في الشميساني، وطورا في العبدلي، مع تغيير المواقع. فهو في مكتبة عامة حينا، وحينا آخر في مديرية الموانئ، وفي أحايين في مبنى «أخبار الوطن» أو مؤسَّسة أخرى كمكتب المحامي إلخ، وهذه الأمكنة بما يصاحبها من وصفٍ موجز أو مُفصَّل يُضفي على محاولاته الطابع شبه المتكرر ذاته، ضربا من التنوع الذي يجنب القارئ الشعور القاتلَ بالتكرار والملَلَ من الانتظار.

الحوار ومستوياته

وقد أفاد المؤلف – بلا ريب – من خبراته السابقة في الكتابة القصصية، والروائية، المتراكمة، واستقر في ذهنه أن الحوار شيءٌ لا بد منه في الكتابة السردية؛ حوار بين الشخوص، وحوار يجري بين السارد ونفسه في ما يشبه المناجاة، أو تيار الشعور، أو المونولوج. وهو حوارٌ يمنح المرويات السردية الطابع الدرامي، الذي يتنقل بالقارئ من مشهد لآخر، ومن موقف مشحونٍ لآخر غير مشحون. ومن حوار بالعامية، إلى آخر بالفصحى. ومن لغة يستخدمها السياسيون، والصحافيون، ومديرو الحملات الانتخابية، والمحامون، وموظفو المكتبات العامة، ودوائر السياحة والآثار، إلى لغةٍ يستعملُها عامّة الناس كمنسي، ومناحي، وحمْدة. فإلى لغةٍ أخرى يستخدمها الكتابُ، والشعراء، والروائيون.. وهذا كله لم يخلُ في بعض المواقف من سخرية لاذعةٍ تسْهمُ في إقصاء الملل عن القارئ، وتُضفي على المحكيات السردية بعض الفكاهة، والدعابة، وخفة الروح.

كلمة أخيرة
وفي الختام لا بد من التنويه لقيامه من حين لآخر بتلخيص ما تقدم من وقائع، وهذا مثال يُذكــّر القارئ بالمجريات «نسيتُ كل شيء. الشيخ صهيب وعصاه. قتيبة الفاتنة التي جرعتني الشهد حنظلا. مسرحية العقبة محكمة الفصول. وحراسة الخرائب بين لصوص الدفائن». فهذا الملخص، الذي يرد في منتصف الرواية تقريبا، يسهم في مساعدة القارئ على استذكار الحوادث، واستعادتها، في تغذية راجعة، مع إثارة الشعور بالترقب لمعرفة الآتي الذي يعقُب ما ُذكر على سبيل التلخيص، ولطالما أثنى نقاد الرواية على الكاتب الذي لا يفوته مثل هذا الملخَّص.
*ناقد من الأردن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية