بيروت-«القدس العربي»: تحلّ بعد أيام ما بين 3 و 5 آب/اغسطس الذكرى السنوية الـ 21 للمصالحة التاريخية في الجبل بين البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط التي طوت صفحة أليمة بين أبناء الجبل وساعدت في ترسيخ العودة وتكريس العيش المشترك والأمان في منطقتي الشوف وعاليه. وقد تمّت ترجمة هذه المصالحة سياسياً بين الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية في أكثر من محطة أبرزها في الانتخابات النيابية منذ عام 2005 لغاية آخر استحقاق في أيار/مايو 2022 حيث حصدت لائحة “الشراكة والإرادة” أغلبية المقاعد في الشوف وعاليه امتداداً إلى بعبدا، ولم يكن التحالف بين القوات والاشتراكي مجرد تحالف انتخابي بل كان تحالفاً سياسياً نظراً لتقارب الرؤية بين الحزبين في أكثرية الملفات.
ولكن اللافت هذه السنة أن ذكرى المصالحة تمر في ظروف تشهد تبايناً بين البطريركية المارونية ودار المختارة على كيفية مقاربة قضية توقيف راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج، واتسع هذا التباين ليطال حزب القوات اللبنانية الذي اصطف إلى جانب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وضمّ صوته إليه في المطالبة بإحالة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالانابة القاضي فادي عقيقي إلى التفتيش القضائي وتنحيته.
أما أسباب هذا التباين الذي لم يكن مدار ارتياح في صفوف أبناء الجبل مسيحيين ودروزاً الضنين بالمصالحة على حد سواء، فهو شعورهم بأن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يفكّر مجدداً في التموضع في خط الوسط ما بين حزب الله وحلفائه من جهة وما بين القوى السيادية من جهة أخرى التي يُعتبر جزءاً لا يتجزأ منها منذ ثورة 14 آذار/مارس.
وينطلق البعض في قراءتهم للتموضع الجنبلاطي الجديد من المواقف المتمايزة التي يتخذها من موضوع البطريركية المارونية على خلفية قضية توقيف المطران الحاج ودفاعه المفاجئ عن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي ورفضه “الاستغلال الإسرائيلي لمقام رجال الدين لمآرب سياسية” الأمر الذي ترك عدم ارتياح في الصرح البطريركي لم يتم التعبير عنه بوضوح حرصاً على العلاقات التي ميّزت المختارة وبكركي منذ مصالحة الجبل والتي تكرّست أيضاً مع البطريرك الراعي.
وتأخذ أوساط قريبة من البطريركية على البعض التقليل من أهمية ما حصل مع المطران في توقيت مريب وتحويل القضية إلى قانونية بحت وقضية تعامل مع إسرائيل بهدف إحراج الصرح البطريركي الذي حدّد مواصفات لرئيس الجمهورية لا تنطبق على مرشحي 8 آذار، فقاموا بتدبير الكمين ضد النائب البطريركي بهدف منع الراعي من أن تكون له وللشريحة المسيحية الكلمة الفصل في اختيار الرئيس المقبل على قاعدة رئيس مختلف عن الرئيس الحالي ميشال عون يأتي لينقض لا ليكمل.
وإذا كان شيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ سامي أبي المنى حرص على نشر تغريدة تؤكد “على عمق العلاقة التي تجمعه والبطريرك الراعي وعلى دور بكركي الوطني والأساسي” بعد تبلغه بطريقة غير مباشرة أن أحد مواقفه حول رفض قبول أموال مرسلة من فلسطين المحتلة أياً كانت مبرراته الإنسانية وتصنيف هذا العمل تعاملاً مع دولة عدوّة يمسّ بكركي ويتهم المطران بالتعامل مع إسرائيل، فإن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط حافظ على وتيرة مواقفه من هذه القضية المتمايزة عن البطريرك خلافاً لما كان عليه الحال عند توقيف شيخة درزية مسنّة آتية من فلسطين المحتلة بعد وفاة زوجها حيث تمّ توقيفها في المستشفى العسكري، واشتعل الشارع الدرزي بكل تلاوينه غضباً على هذا التوقيف وتضامن معه سياسيون مسيحيون إلى أن تمّ إخلاء سبيل الشيخة ومغادرتها إلى حاصبيا.
وما عزّز القراءة حول تموضع جنبلاط الجديد هو مهادنته حزب الله بدءاً من تبريره من عين التينة تحليق المسيّرات فوق “كاريش” ورفضه تطبيق القرار 1559 خلافاً لما كان عليه الوضع قبل الانتخابات النيابية حيث جرى الحديث عن حصار وتطويق للمختارة. فيما بدت لهجة جنبلاط هادئة في تعليقه على إطلالة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله التي لوّح فيها بالحرب. وما هي أيام حتى كُشِف النقاب عن تواصل بين جنبلاط ومسؤول لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا وتحضير لعقد لقاء يتناول الملفات السياسية والرئاسية المرتقبة.
وبدا أن النائبة ستريدا جعجع علمت بهذا التواصل بين جنبلاط وحزب الله، وهو الأمر الذي دفعها إلى إصدار بيان وُصِف بأن لهجته “غير مسبوقة” تجاه زعيم المختارة، حيث تمنت عليه “التقيّد بالشراكة المسيحية-الدرزية ومصالحة الجبل لإبقاء الجبل بعيداً عن التجاذبات، كما واحترام شعور وخيارات أكثرية المسيحيين التي عبّروا عنها في الاستحقاق الانتخابي الأخير”. وإذ أصرّت ستريدا على وصف القاضي عقيقي بأنه “خائن ونص” خلافاً لرفض جنبلاط هذا التوصيف بعدما سبق للحزب الاشتراكي بعد حادثة قبرشمون أن اتهم المحكمة العسكرية بفبركة رواية مختلفة عن الحقيقة، لفتت في الشأن الرئاسي إلى أنه “وبالرغم من أن انتخابات الرئاسة هي استحقاق وطني يعني جميع اللبنانيين من دون استثناء إلا أنه في الوقت عينه يمثل، شئنا أم أبينا، المنصب المسيحي الأول في الدولة وبالتالي من اللائق هنا احترام الإرادة الشعبية وبكركي والمرجعيات المسيحية”.
وشكّل بيان ستريدا التي تربطها علاقة جيدة بسيّد المختارة مفاجأة لقيادة الحزب الاشتراكي التي تلقّت تعليمات من رئيس الحزب وليد جنبلاط بعدم الرد على النائبة القواتية لعدم تكبير الخلاف. وعلم أن اتصالات انطلقت منذ مساء الاربعاء الفائت لاحتواء التباين في وجهات النظر ووقف أي تراشق إعلامي قد يقود إلى تباعد أكبر. وفي سياق احتواء التوتر، دعا أعضاء في “اللقاء الديمقراطي” إلى “عدم تحويل التباين الاشتراكي القواتي إلى أزمة وطنية” مذكّرين أنهم “أوائل ضحايا المحكمة العسكرية وفبركة الملفات من قبل العهد” وأنه “من الضروري التوافق على انتخابات الرئاسة انطلاقاً من مواصفات البطريرك الماروني كي يأتي رئيس لكل لبنان”.
وفي هذا الإطار، تردّد أن جنبلاط يعمل على تسويق مرشح وسطي من خارج صفوف 8 و14 آذار وأن هذا الأمر سيكون الطبق الرئيسي في أي لقاء بينه وبين حزب الله، ساعياً إلى استبعاد رئيس حزب القوات سمير جعجع نظراً لرفض محور الممانعة له وإلى استبعاد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل نظراً لرفضه من الفريق السيادي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، فيما يرى صعوبة في وصول رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة حالياً.
هل تنجح الاتصالات في احتواء التباين الظرفي بين المختارة وكل من البطريركية ومعراب أم يواصل جنبلاط انعطافته “تجنباً لمخاطر الفراغ أو الحرب التي تقود إلى مزيد من الهجرة” كما تقول مصادر “اللقاء الديمقراطي”. وكيف سترد القوى المسيحية الرئيسية ومن بينها التيار العوني والقوات والمستقلون على أي اصطفاف إسلامي في الرئاسة لاستبعاد رئيس لا يتمتع بصفة وصحة التمثيل؟