بيروت ـ «القدس العربي»: يلاحق التأهب مُشاهد فيلم “بيروت هولدم”. أحداثه تكبر وتتوالى وتتفجر كذلك. فيلم صوب الكاميرا على طبقة وسطى نصف مسحوقة في لبنان. حي شعبي تشغله الحركة، ويسلب عقول مجمل سكانه مبدأ المراهنة والمقامرة الرهيب. عن هؤلاء الناس تحدّث الفيلم الذي أنجزه المخرج ميشال كمون وبدأ العمل في الصالات المحلية قبل أيام.
“بيروت هولدم” فيلم ذو إيقاع متصاعد لجهة الصورة والحوار. أبطاله يختصرون بكلامهم، والثرثرة ليست هوايتهم. يعرفون مبتغاهم سواء في نهاية يوم عمل، وحتى في الويك أند. الوجهة هي المراهنة. غريب أن قلة قليلة من شخصيات الفيلم نجت من حبل المراهنات. بين المراهنين واللاعبين على الطاولة الخضراء شخصيات غاية في الطرافة، رغم أمراضهم وتقدمهم في العمر. طرافة اختلطت بألسنة “زِفْرَة”. ربما هو المقام يفرض هذا المقال، أو شيء آخر. إنما الواضح أن الحوارات بين أصدقاء العمر في هذا الحي تغلب عليها اللغة الذكورية.
في أعماقه يجنح “بيروت هولدم” من دون ضجيج اقتصادي إلى قراءة في أعماق مسار الشباب والعائلات في لبنان. والخلاصة الأفق مسدود، والمستقبل مبهم. هو تحليل ضمني تسرب في مفاصل الفيلم، لكنه الآن بات حقيقة، ونحن أصبحنا في قاع القاع.
مع المخرج ميشال كمون هذا الحوار:
■ من أين لملمت كل هذه التفاصيل التي تضمنها فيلم “بيروت هولدم”؟
■ من أين يأتي الوحي؟ إنها المسألة المبهمة. تعبير “لملمت” يتميز بالدقة. فعلاً هي طبقات من الأفكار “تُشقع” بعضها فوق الآخر لتُكَوّن في النهاية الأحداث التي يدور ضمنها الفيلم. أظنه الأسلوب الذي يعمل من خلاله إحساسي. كتابتي للسيناريو تدور في فلك يفيض بالإحساس والشغف، الأمر الذي يصعب فيه ترك هذه الكتابة، لأن الأفكار تتزاحم وتتلاحق. ودائماً أسأل نفسي لماذا أخذني هذا السيناريو مع العلم أن الأفكار مستمرة ومتعددة؟ هناك مرحلتان مؤثرتان في صناعة السينما. أولهما وجود الشغف الكافي كي يتمكن الهاجس من أن يسحرني، ويسكنني بحيث أطوّره لاحقاً إلى سيناريو. والمرحلة الثانية أيضاً أساسها الشغف، فمن دونه يصعب تحقيق فيلم. صناعة الفيلم تشبه حرباً على جبهات عدة تستمر لسنوات كي نحقق شغفنا.
■ حين تسكنك الأفكار هل تدوّن بعضها أم تخزّنها في الذاكرة فقط؟
■ نعم تسكنني الأفكار، أدون بعضها وأخزّن الآخر في الذاكرة. عندما تتراكم الأفكار من المؤكد أن بعضها سيتوه، وهذا ما أخشاه لهذا أدوّن. من المؤكد أن البدايات مصدرها الدماغ، وما من أحد يعرف من أين يأتي الوحي. يتجمع الوحي بعضه مع الآخر لخلق هذا العالم الذي سيكّوِن لاحقاً الفيلم. على سبيل المثال في “بيروت هولدم” كانت شخصية “زيكو” بدايات الوحي.
■ وهل كان لشخصية “زيكو” حضوره الواقعي في حياتك؟
■ إن كنت تقصدين أني استوحيت الشخصية من أحدهم في الحياة، فهذا لم يحدث. في الحقيقة شخصية “زيكو” تشكّل مزيجاً استوحيته من أشخاص متعددين. والباقي من نسج الخيال.
■ وكيف اخترعت كافة تفاصيل الحياة في هذه البيئة الشعبية؟
■ أنا من هذه البيئة. ونشأت في منطقة الدورة، ولست ابن منطقة أنظر من أعلى إلى أسفل.
■ عناصر الفيلم غنية فكيف جسّدتها على الورق؟
■ كنت حيال فئة تُصنّف في أدنى سلّم الطبقة الوسطى. صُدفة كانت بيئة مسيحية، لكنها تتشابه بالتأكيد مع غيرها من الفئات الدينية الموجودة في لبنان. نعم هي بيئات متشابهة، وقد تختلف فيما بينها بنكهة وتفاصيل صغيرة، كأن يقصد أحدهم الجامع بدل الكنيسة. نحن حيال طبقة شعبية محددة وهواجسها هي نفسها لأي دين انتمت.
■ كنت بصدد المونتاج حين بدأت انتفاضة 17 تشرين الأول. شاهدنا الفيلم بعد ثلاث سنوات وجدناه يقرأ في مستقبلنا وأفق الشباب المسدود؟
■ سؤال يتكرر طرحه ولا أجد له جواباً. ما تضمنه الفيلم من استشعار للمستقبل كان بالنسبة لي إحساس فقط. كنت أشعر بأن “البلد بدو يبجّ فينا”. ألم تجدي كمشاهدة للفيلم أنه وللأسف يتحدث عن سنوات 2022 و2023؟ من يشاهد الفيلم يقرأ وقعه وواقعه 10 على 10.
■ لماذا وقع اختيارك على الممثل صالح بكري؟
■ بحثت عن “زيكو” لفترة طويلة، وكذلك عن غيره من الممثلين. بعض الأدوار وجدت ممثليها سريعاً، وأخرى تطلبت مزيداً من الكاستينغ. ولا شك بأن بعض الأدوار كنت أعرف ممثليها مسبقاً. بعد عدة كاستينغ لدور “زيكو” تجسّد في بالي صالح بكري وكنت بالتأكيد قد شاهدت له عدة أفلام. في الحقيقة تشغل مخيلة كاتب السيناريو مَشاهِد يراها ولا يراها في آن. حتى انه يرى الشخصية التي ستمثل هذا الدور ولا يراها. وبالمعنى المجازي كذلك يشمُّ رائحة الشخصية. يمر أمام المخرج كثير من الممثلين لدور ما، لكنه سيشعر في لحظة أن هذا سيؤدي الشخصية وليس سواه.
■ عندما يأخذك إحساس إلى ممثل ما وبأنه لهذا الدور هل يكون الشكل هو الحاسم؟
■ بل ثمة إضافة، حيث لكل صانع أفلام أدواته في الإختيار. مزايا الإنسان متعددة، تماماً كما نتائج فحص الـ”دي إن آي” التي تُلخّصنا كبشر. لهذا لجأت إلى تعبير الرائحة، أي أني أشم رائحة الإنسان الذي سيؤدي هذا الدور أو ذاك. تتكون الشخصية من مئة عامل وعامل والرائحة تعبير مجازي.
■ كافة الممثلين في الفيلم خضعوا للكاستينغ؟
■ ليس جميعهم. قد يمتد الكاستينغ لأشهر وأسابيع، ومنهم من نعرف أنه سيمثّل هذه الشخصية عن سابق تصور وتصميم. ثمة أدوار يستغرق البحث طويلاً عن من سيجسدها. وهناك عامل حاسم في إسناد الدور لهذا الممثل دون سواه، إنه عامل المراهنة على الموهبة. عندما يقع الإختيار على ممثلة أو ممثل فلن يتأثر قراري بدور أو أدوار لعبها كل منهما. بل لإيماني بقدرة هذه الممثلة أو ذاك الممثل على تجسيد هذا الدور. كما أني أعمل لإختبار اتجاه جديد في التمثيل لهذه الممثلة أو ذاك الممثل، مما يشكل له فرصة جديدة.
■ لفتني أنك جمعت إلى جانب صالح بكري أسماء مشهود لها من الممثلين اللبنانيين. وبعضهم كررت التعامل معهم لماذا؟
■ أولا شكراً لهذه الملاحظة الإيجابية. يمكنني القول بأني في فيلمي الروائي الأول “فلافل” وفي أفلامي القصيرة محظوظ جداً بالكاستينغ. تكرار التعامل مع بعض الممثلين تحتمه قدرتهم على تجسيد هذه الشخصية أو تلك، بحيث يمكن وصف حضورهم في هذا الدور وكأنه “حفر وتنزيل”.
■ وماذا عن إعادة نبيلة زيتوني إلى التمثيل بعد أن عرفناها صبية في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” مع زياد الرحباني نهاية عقد السبعينيات؟
■ عندما حضرت مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” بنسخة معدّة للسينما أحببتها في دور “ثريا” وكنت قد سمعتها كثيراً عبر K7. من هنا بدأت القصة وترشيحها للعب دور والدة “زيكو”.
■ الصورة التي نتابعها في الفيلم هل هي عين المخرج وحده أم بالتكافل والتضامن مع مدير التصوير؟
■ ليس تواضعاً أني لا استأثر بأي نجاح في عمل سينمائي ما. مواهب متعددة اشتركت في هذا الفيلم حتى خرج إلى الصالات. جميعنا تعاضد كي تنجح هذه المغامرة التي دخلناها معاً. أعرف ما أريد. وأعرف الصورة التي أرغب بمشاهدتها، لكن المطلوب وجود من يخوض معي هذه المغامرة، ويحمل معي الحلُم نفسه للوصول إلى النتيجة المرجوة. نعم كانت حصيلة عمل مديرة التصوير الفرنسية سيلين بوزون جميلة.
■ في الفيلم فائض من الكلام البذيء. هل سيشاهده من هم تحت الـ18؟
■ سؤال قد يساهم بـ”تهشيل” المشاهدين، فلماذا؟ بالعربي الواضح أقول، بأننا حين ننقل واقعنا إلى السينما ويتلفّظ الممثل بكلمة نسمعها عشرات المرّات يومياً، تقوم القيامة “هالله هالله”. “كلهم مسبتين ونص في الفيلم”.
■ فقط؟
■ لنقل انها “3 مسبات وربع” لكن تمّ تحويلها إلى غابة من المسبات. لا يستلزم الأمر كلّ هذا التعب “إنها شوية مسبات” تماماً كما لغة التخاطب بين الناس. اللهم إلا إذا كان الشعب اللبناني قد انتقل للعيش في دير دون أن أعلم بالأمر؟
■ مشهد عصام بوخالد وزوجته في الفيلم الممثلة أنجو ريحان وطفلهما طريف؟
■ نعم هما معاً يستنكران أن يتلفظ طفلهما بكلام خارج من سياق ما هو متاح لطفل. لكنهما معاً يعبّران أمامه بلغة وكلمات شديدة الدلالة أنهما ليسا في وارد “الشغل ع لْسان الصبي”.
■ كنت تعيش وتعمل في فرنسا..
■ لكني تركت وعدت إلى لبنان.
■ وما الذي أتى بك؟
■ لست أدري.. أعيش هنا.. صامدون هنا.. “ويضحك.” ويتابع أنا كما الملايين الذين يعيشون في هذا الوطن.
■ من هو جود الذي أهديته الفيلم؟
■ ابني. في الفيلم جيل جديد. ينفجر البركان، ومن يبقى منا يستيقظ ليتابع في اليوم التالي. هؤلاء هم الجيل الجديد. إنها الحياة تتابع دورتها.
■ وماذا عن الموسيقى التصويرية كانت ظاهرة رغم إيقاع الفيلم السريع؟
■ الموسيقى من تأليف سينتيا زافين، برأي قدّمت عملاً رائعاً.
■ هل كان التمويل متيسراً؟
■ يضحك ملياً ويقول: أصعب مراحل الفيلم هو التمويل. لنترك الأبواب مقفلة على تلك المواجع. فيلم “فلافل” خرج إلى الصالات في 2006 وها هو الفيلم الثاني يخرج إلى الصالات في 2022. والسبب رحلة البحث عن التمويل. لن أدخل في دوّامة النق، هذا هو واقعنا. شكّل “بيروت هولدم” تحدياً كبيراً، رغم ضخامته تمكنّا من إنجازه بالحد المتاح من الإنتاج. استغرق التصوير ستة أسابيع.
■ وماذا عن عرض الفيلم في الدول العربية والعالم ومشاركته في المهرجانات؟
■ بدأ سفر الفيلم إلى المهرجانات، وكانت البداية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي. ثمّ عُرض في مهرجان حمامات السينمائي في تونس، ونال جائزة لجنة التحكيم. العروض في الدول العربية قيد البحث. وهو بات مطلوباً للعرض في العديد من الدول.
■ هل تهمّك جوائز المهرجانات؟
■ المهم هو عرض الفيلم، أما الجوائز فهي “بونوس”.
■ إلى جانب صناعة الأفلام ما هو العمل الذي تقوم به في لبنان؟
■ أدرّس مادة السينما في عدد من الجامعات في لبنان. وأتولّى مهمة مدير تطوير المشاريع في معمل البحر الأحمر للسينما. وأدرّس سنوياً في “بينالي كولدج” الذي يقام بالتوازي مع مهرجان البندقية السينمائي الدولي. التزاماتي المهنية ـ التعليمية تدور جميعها في فلك السينما والكتابة والإخراج.