ما أن نسمع اسم مدينة المناذرة حتى ينثال علينا عبق التاريخ وقصصه وحكايته. فالمناذرة اليوم إحدى مدن الفرات الاوسط، بمستوى قضاء تابع إداريا لمحافظة النجف، وتتبعها ناحيتان تحملان اسمين تاريخيين هما ناحية الحيرة وناحية القادسية. تقع مدينة المناذرة على بعد 160 كم جنوب العاصمة بغداد، وجنوب شرق مدينة النجف، ويحدها من الشمال قضاء الكوفة ومن الجنوب قضاء المشخاب ومن الشرق قضاء الشامية التابع لمحافظة الديوانية، ومن الغرب مدينة الحيرة التاريخية، جغرافيا تقع في إقليم صحراوي، حار جاف صيفا، معتدل البرودة قليل المطر شتاءً .
مدينة المناذرة التي كانت صغيرة تحمل اسما قديما هو «أبو صخير» حتى وقت غير بعيد، أصبحت اليوم مدينة عصرية، يعيش فيها أكثر من 250 ألف نسمة حسب الإحصاء التقريبي لعام 2010. النشاط الاقتصادي الرئيسي فيها هو الزراعة، إذ تتميز المدينة وأريافها المحيطة بها بتوفر المقومات الزراعية المتأتية من توفر الخصائص الجغرافية المتمثلة بخصوبة التربة وأنبساط الأرض، وتوفر الموارد المائية، وتوفر عدد كبير من القوى العاملة ما جعلها منطقة فاعلة ومهمة من مناطق الإنتاج الزراعي في العراق، ويعد قضاء المناذرة أحد أهم مناطق زراعة الرز في البلاد، بالإضافة إلى احتوائه على مساحات كبيرة مخصصة لزراعة الفواكه وبشكل خاص الأنواع المختلفة من الكروم، إذ تشتهر منطقة المحاجير الغربية في قضاء المناذرة بزراعة وتسويق محصول العنب بأنواعه.
تضم المدينة اليوم العديد من الأحياء العصرية، وقد حضيت باهتمام الدولة الرسمي في ثمانينات القرن الماضي حيث تم تطوير الواقع الصناعي فيها عبر تأسيس عدد من الصناعات الإنشائية مثل شركة المناذرة لصناعة الطابوق الجيري، وهي شركة قطاع عام تدير معمل الطابوق الجيري الذي أنشأ عام 1984 في منطقة حصوة الخورنق، كما تم في نفس العام إنشاء مصنع الثرمستون لصناعة مواد البناء العازلة في المدينة.
الاسم والتاريخ
اسم المناذرة يعد حديثا أطلق على المدينة القديمة التي كانت تعرف باسم أبو صخير، وقد كتب عدد من الباحثين والمؤرخين عدة روايات حول أصل اسم المدينة القديم أبو صخير، فقد ذكر مؤرخ المدينة عبد الزهرة تركي الفتلاوي في كتابه «أبو صخير في ذاكره الزمان» عددا من الروايات التي سردت سبب تسمية المدينة، منها رواية المؤرخ والنسابة حمد حمود الساعدي التي تقول إن «نهر الصافي كان أحد الروافد الحيوية لبحر النجف فقام السيد محمد زوين وكيل عشائر الخزاعل في منطقة الجعارة سنة 1857م بغلق نهر الصافي واستخدم في ذلك الصخور لذلك اكتسبت المنطقة تسمية أبو صخير» .
لكن المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني ذكر في ص 161 في كتابه «العراق قديما وحديثا» رأيه في تاريخ المدينة وروايات عن سبب التسمية فيقول «قيل لنا أنه لما حفر نهر البكرية وجدت في قعره صخرة كبيرة أتعبت الحفارين حتى أعجزتهم، فسموا الموضع الذي وجدت فيه تلك الصخرة وقامت عليه قرية أبو صخير، ولا تزال آثار هذه الصخرة تشاهد في قعر النهر المذكور كلما جف ماؤه» ويستكمل بعد ذلك «وقيل لنا إن أول بنية أقيمت في أبي صخير كانت للسيد محمد السيد حسن زوين، وإنها أقيمت في العقد الثامن من القرن الثالث عشر للهجرة، وأسرة زوين معروفة في هذه القصبة وفي أطرافها، فلما كانت أيام السلطان عبد الحميد، أنشأ السلطان فيها مخزنا لما يرد إليها من غلال أملاكه السنية، فتوسعت فيها العمارة بعض التوسع». وقد وصف الحسني في كتابه الصادر عام 1958 المدينة بقوله إنها ارتبطت بوجود القبائل فيها، وأشهرها آل فتلة، والغزالات، وآل شبل، وآل ابراهيم.
عاصمة مملكة العرب
الحيرة هي المدينة القديمة التي تقع في هامش المناذرة الحديثة، وهي اليوم ناحية تابعة إدرايا لقضاء المناذرة، وفيها آثار ما قبل الإسلام حيث كانت الحيرة عاصمة دولة المناذرة التي حكمها ملوك اللخميين في القرن الثاني للميلاد، ويذكر يوسف رزق الله غنيمة في كتابه «الحيرة؛ المدينة والمملكة العربية» وصفا لها بقوله «كانت مملكة الحيرة نظرا لوضعها السياسي حاجزا بين دولتين عظيمتين، دولة القياصرة في الغرب، ودولة الأكاسرة في الشرق، أو كما يطلق عليها الانكليز( Buffer State) وكان ملوك الحيرة من أقيال ملوك الفرس الأكاسرة وعمالهم، كما كان الغساسنة في الشام عمال الروم».
وفي أصل تسمية الحيرة يذكر ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» ج2 ص 328 مدينة الحيرة بالقول إنها «مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف زعموا أن بحر فارس كان يتصل به، وبالحيرة الخورنق بالقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل، والسدير في وسط البرية التي بينها وبين الشام، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من زمن نصر ثم من لخم النعمان وآبائه».
أما جرجي زيدان فيذكر في صفحة 223 من كتابه «العرب قبل الإسلام» شرحا مفصلا لذلك بقوله «كانت الحيرة على بعد ثلاثة أميال من مكان الكوفة، في موضع يقال له النجف على ضفة الفرات الغربية، في حدود البادية بينها وبين العراق، وتقع الآن في الجنوب الشرقي من مشهد علي. وقد أكثر العرب من تحليل اسمها وتعليله على عادتهم في إرجاع الأعلام إلى مشتقات عربية». ثم يشير في هامش الصفحة إلى أن «الحيرة مدينة قديمة على مقربة من الموضع الذي قامت فيه الكوفة العربية فيما بعد. ويرجع أقدم نص ورد فيه اسمها إلى سنة 132 ميلادية، والغالب أن العرب أخذوا اسمها من صيغته السريانية حيرتا أو حارتا بمعنى المخيم أو المعسكر، وقد ذكرت الحيرة في مؤلفات السريان بأنها مدينة العرب، أو حيرة النعمان. وتذكر مع الحيرة في بعض كتب السريان مدينة أخرى هي العاقولاء التي يذهب ابن العبري إلى انها الكوفة».
وينقل جواد علي في سفره «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» ج3 ص 155 القول: «وقد ذكر حمزة الأصفهاني انه بسبب حسن هواء الحيرة لم يمت فيها من الملوك أحد، إلا قابوس بن المنذر. أما بقية الملوك فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيدهم وتغربهم، وأنه بسبب ذلك قالت العرب: لبيته ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة» كما يشير جواد علي في مكان آخر من كتابه: «يرى بعض علماء التلمود أن مدينة حواطره أو حوطرا، التي وردت في التلمود أن بانيها هو برعدي بن عدي، هي الحيرة. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيرا عن نهر دعه، وأن مؤسسها هو برعدي، ويقصد به عمرو بن عدي».
الخورنق قصر ملوك الحيرة
ولا يمكننا الحديث عن الحيرة والمناذرة وملوك بني لخم دون التطرق لقصرهم الأبرز الخورنق، الذي بقيت منه بعض الأطلال. وقد ورد ذكر هذا القصر في السرديات التاريخية العربية إذ تحول في بعض قصصها إلى حكاية خيالية، وينقل جواد علي في الجزء الثالث من «المفصل» ص 199 عن تاريخ الطبري قائلا: «إلى النعمان ينسب أكثر الإخباريين بناء قصر الخورنق الشهير في الأدب العربي. قيل: أنه بناه لبهرام جور بن يزدجرد الأول (399م-420م) المعروف بالأثيم. وكان يزدجرد لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له، وأنزله إياه، وأمره باخراجه إلى بوادي العرب».
وفي أصل الاسم ينقل ياقوت الحموي قول الأصمعي: «إنما هو الخورنقاه، بضم الخاء وسكون الواو وفتح الراء وسكون النون والقاف، يعني موضع الأكل والشرب بالفارسية، فعربته العرب فقالت الخورنق وردته إلى وزن السفرجل». وقد حاول عدد من علماء الآثار في العصر الحديث اكتشاف موقع القصر والاستدلال على آثاره، فكانت أولى بعثات التنقيب من جامعة أوكسفورد البريطانية عام 1931. ثم لحقتها عام 1938 بعثة عراقية برئاسة العالم طه باقر، وقد عثرت على سور من اللبن تحيط به أبراج مدورة ومربعة ورجحت البعثة أن يكون حصناً، وساد الظن آنذاك أن الحصن يعود إلى أحد القصرين السدير أو الخورنق. تلتها بعثة عام 1956 وبعثات أخرى خلال أعوام 1980- 1984 لكنها لم تعثر على شيء مهم. وفي عام 2001 نشرت الصحف العراقية خبرا مفاده أن البعثة الآثارية العراقية في موقع أبو صخير الأثري توصلت إلى نتائج مهمة في بحثها عن موقع قصر الخورنق، وعثرت على 467 قطعة أثرية كشفت عن أسرار غامضة تتعلق بمملكة المناذرة وعاصمتها الحيرة وقصر الخورنق وأمكن التأكد من مكان القصر من خلال وجود المقبرة التي تسمى مقبرة المنذر، وهي مقبرة العائلة المالكة، وتقع ضمن محرمات قصر الخورنق.
ويمكن أن نختتم قصة مدينتنا بذكر حكاية سنمار الشهيرة في التاريخ، إذ يروي ياقوت الحموي في الجزء الثالث من «معجم البلدان» ص 401 هذه الحكاية بقوله: «إن الخورنق قصر كان بظهر الحيرة، وقد اختلفوا في بانيه فقال الهيثم بن عدي إن الذي أمر ببناء الخورنق هو النعمان بن امرئ القيس، ملك ثمانين سنة، وبنى الخورنق في ستين سنة، بناه له رجل من الروم يقال له سنمار، فكان يبني السنتين والثلاث ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك وأقل، فيطلب فلا يوجد، ثم يأتي فيحتج فلم يزل يفعل هذا الفعل ستين سنة حتى فرغ من بنائه، فصعد النعمان على رأسه ونظر إلى البحر تجاهه والبر خلفه فرأى الحوت والضب والظبي والنخل، فقال: ما رأيت مثل هذا البناء قط! فقال له سنمار: أني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال سنمار: لا. فقال له النعمان لا جرم لأدعنها وما يعرفها أحد، ثم أمر بسنمار فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضربت العرب به المثل». وجرت قصة سنمار مسار القول المأثور بين الناس بقولهم «جزاء سنمار» يضرب لمن لا يجزي الإحسان بالإحسان.
انا من هذه المدينه العظيمه ويوجد آثار كثيره لهذه المملكه في مدينه الحيره….مقال رائع