المشكلة التي تواجهها مجتمعات كل من العراق وسوريا ولبنان راهناً تتمثل في عدم احترام الآخر المختلف، ورفض الاعتراف بخصوصيته وحقوقه، وهيمنة منطق (نحن وهم)؛ وفقدان الثقة المتبادلة بين مختلف المكونات المجتمعية، ودفع الأمور نحو الاصطفافات والتخندقات العمودية، وذلك عوضاً عن التركيز على المشتركات الوطنية، والعمل على بناء التحالفات الوطنية السياسية الأفقية التي تجمع بين مختلف الانتماءات المجتمعية من دينية ومذهبية وقومية على أساس البرامج السياسية الوطنية بعيداً عن العصبيات بكافة أسمائها وألوانها.
ومن مظاهر هذه المشكلة وتجلياتها هيمنة الهواجس الناجمة عن خشية من تمكن طرف ما أو أطراف متحالفة من السيطرة على مقاليد الأمور في الدولة التي يمكن أن تصبح، وفق تلك الهواجس، أداة انتقامية لتهميش وإقصاء، وحتى تغييب، الآخر المختلف، أو الآخرين المختلفين.
وما يعزز هذه الهواجس هو أن التاريخ القريب لحكومات هذه الدول التي أحدثت بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918، يعج بالأمثلة التي تثير الحساسيات والمخاوف. ففي العراق وسوريا كانت الأيديولوجية القومية، والشعارات الشعبوية، منذ ستينات القرن المنصرم ، مجرد أداة تعبوية استخدمت في عمليات الانقضاض على الداخل الوطني، حتى تبين لاحقاً، وبالأدلة الملموسة، أن الشعارات التي كانت تطالب بالوحدة العربية الكبرى كانت مجرد وسيلة لترسيخ حكم القرية والعشيرة والمقربين من الطائفة وبطانة من المنتفعين.
أما في لبنان فقد سدّ النظام الطائفي الطريق أمام تبلور مشروع وطني عام كان من شأنه إنصاف الجميع. ومع اعتماد الوراثة أساساً لاختيار الزعامات الطائفية تحولت هذه الأخيرة مع الوقت إلى نسخ باهتة معدومة الفعالية، وذلك مقارنة مع الأصل الذي تمكن في وقت ما من فرض هيبته واحترامه بمؤهلاته وإنجازاته.
ولعل ما يجري راهناً من حديث حول تحالف الأقليات إذا جاز التعبير، وما نشاهده واقعاً على الأرض في لبنان وسوريا يعكس جانباً من جوانب هذه المشكلة، ويجسّد النزعات والعوامل التي تؤدي إليها.
أما جذورهذه المشكلة فهي تعود إلى بدايات تشكيل هذه الدول بعد الحرب العالمية الأولى كما أسلفنا؛ فقد اعتمدت كل من بريطانيا وفرنسا سياسة كسب الولاءات، ودعم مكونات بعينها من دون غيرها. الأمر الذي ولّد امتعاضاً لدى غير المفضلين، وأسهم في تراكم المظالم ونشوء المظلوميات، وتراكم سرديات تتمحور حول التبرم والشكوى، والمطالبة بأخذ الحق، حتى ولو كان ذلك من خلال الاستقواء بالخارجي المتربص لمواجهة ظلم ابن الوطن.
لم تتمكن الأنظمة الوطنية حديثة العهد في المراحل الأولى من الاستقلال من بناء الثقة المطلوبة بين المكونات المجتمعية، وعجزت عن طمأنة الجميع على أساس احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق، والتشارك العادل في الموارد، كما أخفقت في وضع الأسس التي كان من شأنها ضمان حق الجميع في المشاركة في الحياة السياسية العامة بموجب مشاريع وطنية كان من شأنها أن تكون لصالح الجميع؛ مشاريع تستمد قوتها ومشروعيتها من عقود اجتماعية مكتوبة، تستلهمها دساتير وطنية تحدد القواعد الخاصة بتوزيع السلطات بين مؤسسات متكاملة المهام، تسد الطريق أمام دكتاتوريات التفرد بصيغها المختلفة، لتكون الحصيلة في مصلحة الشعب والوطن، وذلك من خلال الحفاظ على حقوق الجماعات والأفراد في جميع الميادين، وعدم تفضيل منطقة على أخرى.
وهناك عوامل عدة تفسر هذا الإخفاق الذي منيت به حكومات الاستقلال في الدول المشار إليها. فالحكومات المعنية لم تحصل على الوقت الكافي لتتمكن من تقديم المطلوب. كما أن حداثة التجربة بالنسبة إليها لم تمكّنها من تجاوز معالجة مثالب هيمنة الأيديولوجيات الشمولية (لاسيما القومية والدينية) في تلك المرحلة، وهي الأيديولوجيات التي لم تراع خصوصية أوضاع الدول الحديثة، وطبيعة تنوع مجتمعاتها وحاجاتها. كما تجاهلت تلك الأيديولوجيات واقع المعادلات الإقليمية والدولية التي أسفرت عن تشكيل تلك الدول، وأصر أصحابها باستمرار على إعلان رفضهم لما هو قائم، من دون امتلاك، أو العمل على امتلاك، البديل الممكن. فظلت الشعارات مجرد ظاهرة صوتية تعبوية للتستر على الجهود الحثيثة التي كانت تبذل للتحكّم بالدول الجديدة، وكان ذلك بالاعتماد على الجيوش الوليدة التي كان الاعتقاد السائد هو أنها قد تشكلت لحماية الأوطان من الأخطار والمهددات الخارجية بالدرجة الأولى؛ فإذا بها تتحول إلى أداة بيد الزمر المتعطشة للسيطرة والتحكم، تستخدمها في عمليات الانقضاض على الدول الهشة، وذلك عبر انقلابات عسكرية سوّقت بشعارات «الثورة والتصحيح ومعاداة الإمبريالية والصهيونية والرجعية».
وغالباً ما كان يتم الإعداد لتلك الانقلابات، ويجري تنفيذها، بالتوافق والتفاهم المباشر وغير المباشر مع القوى الخارجية التي كلفت بهذه الصيغة أو تلك الأنظمة العسكرية بمسؤولية ضبط الأوضاع مقابل السماح لها بالحكم.
وفي سعي واضح من جانب هذه الأنظمة العسكرية المعنية لشرعنة نفسها، اعتمدت الأيديولوجية القومية المطعّمة بالاشتراكية لتكون أداتها التعبوية في مواجهة الخصوم من الإسلاميين أو الشيوعيين، هذا في حين أن الأيديولوجية المعنية لم تكن بالنسبة إليها سوى الوسيلة لتسويغ هيمنها وتسلطها على الدولة والمجتمع. حتى باتت الدولة متماهية مع نزوعها السلطوي، وتجلى ذلك من خلال اتهام المعارضين المنتقدين للسلطة بتهمة الإساءة إلى هيبة الدولة، وكأن الدولة قد عادت الملك الشخصي للزمرة التي سيطرت على الحكم في غفلة من الشعب. وفي هذه الأجواء القمعية لاذت غالبية المجتمع بالصمت أو التظاهر بالرضا.
ومع الانهيارات والانتكاسات المتلاحقة التي تعرض لها المشروع القومي العربي؛ وتصاعد مخاطر المشروع الإيراني التوسعي الذي استخدم «المظلومية الشيعية» للتمدد إلى عمق المجتمعات المجاورة؛ وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية «الشيوعية»؛ وفي ظل غياب المشروع الوطني الجامع الذي كان من شأنه أن يكون حامياً للعراق والعراقيين ولسوريا والسوريين ولبنان واللبنانيين من التدخلات الإقليمية الكبرى التي لم تعد تكتفي بممارسة التأثير وتوليف التوجهات، وإنما باتت تهدف بكل وضوح إلى إحداث تغييرات بنيوية تشمل الهويات الفرعية القومية والمذهبية، وتسعى إلى وضع اليد على مؤسسات الدولة، وتتحكّم بالخارطة السياسية، وبنتائج الانتخابات الشكلية، وهي تستغل في هذا المجال الهواجس القديمة-الجديدة، وتنسج العلاقات المصلحية مع المافيات الداخلية التي غالبا ما تتستر خلف شعارات مذهبية طائفية، تنسجم مع وضعية الاصطفاف المذهبي الطائفي التي تعيشها مجتمعاتنا في ظل غياب الإطار الوطني الجامع الحامي.
وبناء على ما تقدم، نرى استحالة الوصول إلى حل للانسدادات التي غدت معلماً من معالم الأوضاع السياسية والمجتمعية في كل من العراق ولبنان وسوريا، هذا في حال استمرارية المقاربات الفاشلة عينها التي أوصلت مجتمعاتنا إلى الوضعية الكارثية التي تعيشها حالياً.
ما ينقذ مجتمعاتنا ودولنا من المزيد من الانهيارات والتداعيات هو حوار جاد مسؤول طويل النفس بين النخب السياسية والثقافية والمجتمعية، يأخذ بعين الاعتبار واقع فشل عقود من المراهنة على مشاريع لم ولن تنسجم مع طبيعة أوضاعنا وخصوصية المشكلات التي نواجهها. حوار أولوياته المصلحة الوطنية التي لا تتعارض مع المصالح الخاصة والاقليمية، شرط أن يأخذ مداه المطلوب عبر عقد اجتماعي مكتوب يأخذ الهواجس بعين الاعتبار، ويستفيد من واقع الانتكاسات والاخفاقات التي كانت على مدى عقود في ظل أنظمة دكتاتورية، وأخرى تابعة هشة غير قادرة على صد التدخلات الخارجية التي كانت وما زالت لصالح مشاريع إقليمية أو دولية لم، ولا، تأخذ بعين الاعتبار حاجات وتطلعات الناس في مجتعاتنا.
ما يجري اليوم في العراق يؤكد مجدداً أن الحل الوطني الذي يطمئن الجميع هو الأنجع والأسلم. والأمر ذاته في سوريا ولبنان. أما الاستمرار في لعبة التشاطر، وسياسة الاستقواء بالخارجي المتربص، فمؤداه المزيد من الأزمات والمشكلات والإمعان في تبديد الموارد، سواء البشرية منها وهي الأهم، أم المادية وهي المعرضة للنفاذ أو تراجع الأهمية والقيمة بفعل عوامل كثيرة عديدة.
القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة لها برامجها وحساباتها وأولوياتها، وهي تنسق وتتفاهم مع القوى الدولية المنسجمة معها المساعدة لها. وقد اتخذت هذه القوى من أوطاننا ساحة جغرافية تستخدمها أوراقاً تفاوضية مع اللاعبين الكبار؛ والأنكى من ذلك أنها قد تمكنت من تسخير قسم من مكوناتنا المجتمعية، تستغل مشاعرهم وهواجسهم وحاجاتهم، ليكونوا جنوداً ومرتزقة في عمليات عسكرية تدمر أوطاننا، وتفجّر مجتمعاتنا من الداخل، أو تخدم تلك القوى في ساحات أخرى لا ناقة لنا فيها أو جمل. وما يضغي مسحة إضافية من القتامة على الوضع الذي تعيشه مجتمعاتنا هو غياب الدور العربي الفاعل الذي كان من شأنه إعادة قسط من التوازن إلى المعادلات المختلّة، خاصة في مناخات الاصطفافات والتحولات المستجدة التي يشهدها العالم نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا.
*كاتب وأكاديمي سوري
شكرًا أخي عبد الباسط سيدا. إذا كانت تونس لم تخرج بعد من عنق الزجاجة هذا، فما بالك بالسودان واليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا!