تبقى شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي من الأمور غير المطروحة للنقاش، أو للقياس على المستوى الرسمي في مصر، ولكن الواضح أنه يفتقد اليوم للمشاعر الجارفة التي رافقت صعوده بمنصب الرئاسة، مصحوباً بتفويض شعبي عاطفي في تلك المرحلة.
هل يمكن للرئيس السيسي أن يحتفظ بموقعه في ظل انتخابات رئاسية نزيهة، وأمام مرشحين من وزن ثقيل؟ كانت إجابة أحد الأصدقاء المصريين صادمة بالنسبة لي، فهو يؤكد قدرته على البقاء وبفارق كبير عن المرشحين الآخرين، ويستند هذا المنطق إلى سببين رئيسين، يتعلق الأول بوجود قاعدة وفية للرئيس، استطاعت أن تحقق مكتسبات غير مسبوقة في عهده، النساء والأقباط، وبذلك تكوّن لديه أكثر من نصف الأصوات، أما السبب الثاني، فهو أن المرشحين أمامه سيتكفلون ببعضهم بعضا.
يدرك السيسي أهمية الكتلة القبطية، ويقدم لفتات على شيء من المبالغة وربما تدخله في استرضائهم، فيأمر في مشاريعه الجديدة ببناء كنيسة مقابل كل مسجد، مع أن النسبة السكانية تتطلب كنيسة مقابل كل عشرة مساجد، ويرى الأقباط ذلك بوصفه اعترافاً غير مسبوق، حيث مضت عقود من الزمن كانت صيانة كنيسة قديمة تتطلب الدخول في تعقيدات بيروقراطية بلا نهاية، وتواجه محاذير أمنيةً شتى. بعد الحريق الأخير في كنيسة إمبابة عاودت المسألة القبطية الظهور بعد أن ظلت متوارية في السنوات الأخيرة، وهذه المرة أتى السؤال مع رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس، الذي احتفظ طويلاً بعلاقة متميزة مع الدولة في مصر، حتى لو اعترتها محطات من الفتور أو التصعيد المتبادل. يرفض ساويرس التعزية في ضحايا الحريق بصورة توحي بأن الرواية الرسمية لم تقنعه، وهو الأمر الذي تراوحت ردة الفعل تجاهه في الأوساط القبطية بين من يرفض الدخول في صراع مع الدولة، خاصة في مرحلة شهدت مكتسبات قبطية واضحة، ومن يرى أن سياسة الاحتواء التي جعلتهم ورقة مضمونة لم تعد قائمة، وأنها تخلق مشكلات أكثر مما تقدم حلولا. في مواجهة الاستغراق في العاطفة في خطابات كثيرة للرئيس السيسي، يرى بعض الأقباط أن قبولهم بالمعادلة التي يفرضها الرئيس، تبعدهم عن القضايا الوطنية، مع أنهم شركاء في المعاناة الواسعة التي يعيشها المصريون، والتي تتمثل في الظروف المعيشية والاقتصادية السائدة، وفي تدني الخدمات في المناطق القديمة في القاهرة والجيزة وبقية المحافظات التي خرجت من حسابات السيسي في هندسته للجمهورية الجديدة، التي حملت تجاهلاً واضحاً وصريحاً للمشكلات التقليدية في مصر، وواقع الكنيسة والأحاديث عن تأخر التدخل، بل انقطاع التيار الكهربائي، كلها عوامل تؤكد ذلك الإقصاء الممنهج، مقابل المتابعة الحثيثة للمجتمعات الصاعدة في المدن الجديدة.
منذ بنيت الأهرامات وعقيدة السلطة في مصر لم تتغير في سطوتها وفي نظرتها للفرد ودوره تجاهها، وهي تطالبه على الدوام بأن يبقى قيد التضحية
من الصعب تنحية احتمالية وجود حسابات شخصية خاصة في تغريدة ساويرس، خاصة في ظل وقوفه على مسافة واضحة بين قبطيته، وكونه شخصية عامة لم يتوقف حضورها عند العمل التجاري والصناعي، وتخطاه لمجالات ثقافية وإعلامية، وساويرس بذكاء وبعد أن وضع نفسه في موقع القيادة للكتلة القبطية التي تولت الكنيسة التضييق على الفاعلين السياسيين داخلها، يعود ليتموضع في خطابه تجاه المسلمين أيضاً، قبل أن يختتم تغريدته التي تحولت إلى موضوع استقطاب خلال ساعات. ما جرت عليه العادة ألا يفوت الرئيس السيسي فرصة الرد في أقرب خطاب، ومن المتوقع أن يؤكد رعايته الخاصة للمكون القبطي، إلا أن موقفه من ساويرس سيكون فارقاً في تحديد رؤيته للمرحلة المقبلة، فهل يأخذ ملاحظته في الاعتبار ويتعامل معه بطريقة لينة، كما كانت الأمور عندما انتقد ساويرس تدخل الجيش في الاقتصاد؟ أم يقوم بتأنيبه كما تحدث عن المعارضين الذين يضعون ساقاً على الأخرى، هذه الفقرة ستحدد استراتيجية السيسي تجاه موضوعات كثيرة، وستظهر مدى ثقته في الأوضاع القائمة وقدرته على تسييرها إلى الغايات التي أسسها في سنوات حكمه الماضية. مهما يكن من أمر فالصراع هو على الأقباط وليس من أجلهم، لأن حلول المسألة القبطية، تتطلب تأكيداً على دولة مواطنة، وسيادة القانون والتأسيس لوعي يستطيع أن يتجاوز قروناً من التخريب، ويتجاوز عقداً تأسيسيةً في مصر مثل علاقة الفرد بالسلطة والدولة، واحترام قيمة الحياة الفردية والخصوصية، وفي ذلك العالم الذي ينبغي على كل قائد أن يحلم به ستتلاشى المسألة القبطية وتندمج في الفضاء الإنساني. منذ بنيت الأهرامات وعقيدة السلطة في مصر لم تتغير ولم تتراجع في سطوتها ومركزيتها، وفي نظرتها للفرد ودوره ومسؤوليته تجاهها، وهي تطالبه على الدوام بأن يبقى قيد التضحية، وأن يصبر على الظروف سواء استمهلته كما فعل الرئيس السيسي في وعوده المتكررة بتحسن الأوضاع، أو اعتبرت التضحية أسلوباً للحياة ومن أجل تبريره اخترعت الأعداء والتهديدات. حادثة الكنيسة مؤسفة في كل تفاصيلها، وبفاعل ومن غيره، ولكن لو صدقت تصورات ساويرس سينضاف الرعب إلى الأسى، ولو بقيت مجرد مناورة، وهو الأرجح، فالأولى أن تكون فرصة للمراجعة في فترة لا تحتمل الاضطراب الذي لا يريده أحد في منطقة – غير السخونة الكامنة فيها – تتعرض لمزيد من الضغوطات العالمية التي ستسفر عن سنوات مقبلة من الفوضى وعدم اليقين والأنانية.
كاتب أردني
شكرا سيد سامح على المقال والتحليل الموضوعى للحالة القبطية الراهنة. لم تشهد مصر حوادث طائفية تذكر واعتداءات على ممتلكات الأقباط وأماكن عبادتهم منذ تأسيس مصر الحديثة على يد محمد علي. ومنذ تولي الرئيس الراحل السادات الحكم بدأ اللعب بالورقة الطائفية وتكررت الاعتداءات على الأقباط وممتلكاتهم منذ حادثة حرق كنيسة الخانكة قرب القاهرة عام 1972 ثم أصبحت “ظاهرة”. وقد أحال الرئيس المؤمن الملف القبطي إلي “أمن الدولة”، وكأن وجود الأقباط خطر على الدولة. ومنذئذ صار المجني عليه جاني. إنه إرث السادات الذي تبنى سياسة التنائي وأدخل مصر في صراعات داخلية لالهاء الشعب عن كيانه.