في قرطبة المدينة العظيمة بتاريخها وبآثار العرب والمسلمين فيها فكرا وعلما وأدبا وفنا، أنصاب تذكارية لأبنائها العظام كابن رشد وابن حزم ونصب لابن زيدون (1003/1071) وصاحبته ولادة بنت المستكفي (1001/1091) وقد تشابكت يداهما للسلام وعلى نصبهما نقش البيتان المشهوران لحفصة الركونية:
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
وكأن بلدية قرطبة وهي تقيم نصب الحب في قرطبة لم تجد أفضل من شعر الشاعرة الأندلسية الأخرى حفصة الركونية ابنة غرناطة ( 1135مراكش 1191) لتمهر المنحوتة ورمزية التلامس بين الحبيبين في لقاءاتهما المختلسة عن عيني المترصد والعاذل. ولاشك أن الذين وضعوا البيتين يعرفون التشابه الذي يميز حياة ولادة بنت المستكفي سليلة المجد والحسب والنسب ذات العينين الزرقاوين التي ورثتهما عن أمها الإسبانية والدماء العربية التي تجري في عروقها، دماء أبيها المستكفي الحاكم المقتول حفيد عبد الرحمن الداخل الملقب بـ«صقر قريش».
والغرناطية حفصة الركونية سليلة المجد هي كذلك والنسب صاحبة الجمال الخارق التي ما رآها أحد إلا أعجب بها، وأثنى عليها ابن بشكوال ولسان الدين بن الخطيب وانتهاء بخير الدين الزركلي صاحب قاموس الأعلام. وكلاهما ــ أي حفصة وولادة ـ- عشقت وزيرا وكلاهما لم تتزوج، غير أن ولادة تعرضت لمحنة حين مال ابن زيدون إلى السمراء فأوغر صدر ولادة فتقربت هي من ابن عبدوس لتصلي الشاعر ابن زيدون نيران الغيرة والألم على خروجه من فردوس الحب وحسنا فعلت، فما تريده المرأة يريده الله كما يقول المثل الفرنسي. تأذى ابن زيدون من الهجر والقطيعة واشتاق وحنّ وأنّ وأبدع نونيته العظيمة (أضحى التنائي بديلا من تدانينا)، لكن هيهات انتهى ذلك الحب إلى التصرم النهائي ولم يعش إلا في ديوان الشاعر وفي آهات المحبين وعذاباتهم على كر الأيام ومرور الليالي.
في غرناطة شاعت قصة حب أخرى بين حفصة الركونية بنت الحاج، الجميلة الحسيبة والوزير العاشق الشاعر أبي جعفر أحمد بن سعيد وزير بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين الذين حكموا من مراكش حتى الأندلس، لكن حفصة قلبت الآية، فهي التي تطلب والمرأة في الأصل مطلوبة، وهي التي تغري وتعدد مفاتن الجسد وحلاوة اللقاء في جرأة نادرة وصراحة كبيرة، وهي تشبه من وجوه الشاعرة اليونانية سافو في الجرأة لكن تختلف عنها، فسافو مثلية الذوق والهوى. فإذا عهدنا المرأة محجوبة يحوم حولها خيال الشاعر العاشق ويخطط للإفلات من أعين العسس والرقباء، يتودد إلى الحبيبة برائق الشعر لتطرية قلبها ونيل رضاها والقرب من حماها، هاهو امرؤ القيس الشاعر العاشق يشبه حركته إلى محبوبته خلسة بحركة ثعبان الماء لا جلبة ولا ضوضاء:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
ثم يأتي خليفته عمر بن أبي ربيعة الذي كان ينتظر الأسحار ونوم المتربصين ليقتحم على الحبيبة خباءها:
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه
وروح رعبان ونوم سمر
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمكنون التحية تجهر
تعكس حفصة الآية فتعرض وتغري وتثير في النفس الحماسة ثم لا تكتفي بذلك بل تقتحم على الحبيب بيته:
أزورك أم تزور؟ فإن قلبي
إلى ما تشتهي أبدا يميل
فثغري مورد عذب زلال
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وهي تفصح عن إغراء لا يقاوم بالحديث عن نعيم الحب وفاكهة الجسد ولذة الوصال في جرأة شديدة، وهذا إن دل على شيء فلا يدل إلا على الحرية التي نعمت بها المرأة في الأندلس وعلى ألوان الجمال في الطبيعة والإنسان والحرية التي يحيا فيها الناس رجالا ونساء، والتي يسّرت سبل الإبداع والفن في القول والمعاش، على الرغم من التشنج السياسي ومحنة الانقلابات والفتن والاغتيالات والصراع بين أمراء الطوائف والإسبان المتربصين حتى تمّ إجلاء المسلمين عن الأندلس نهائيا.
وقد بادلها الوزير عشقا بعشق وشعرا بشعر ولقاء بلقاء لولا أن تدخل على الخط عاشق آخر كما تدخل في قصة ولادة ابن عبدوس، وهذا العاشق والعاذل والحاسد ليس سوى الوزير أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن بن علي سليل الموحدين، وقد حقد على الوزير وصمم على الإيقاع به واستكثر عليه حبّ حفصة حتى قتله عام 559 هجرية، وكأن الوزير العاشق اطلع على الغيب وقرأ سطوره فكان يقول للناس إنه إن مات فلن يموت إلا قتلا بسبب الجميلة حفصة.
وهنا تختلف حفصة عن ولادة، فولادة شمتت في ابن زيدون الذي مال إلى غيرها فلما دارت عليه الدوائر تخلت عنه عقابا له على تخليه مرة عنها، بينما حفصة لبست الحداد ورفضت نزعه وأسلمت نفسها إلى حزن دفين ظاهر ومكتوم:
هددوني من أجل لبس الحداد
لحبيب لي أردوه بالحداد
رحم الله من يجود بدمع
أو ينوح على قتيل الأعاد
وقد انتقلت إلى مراكش مفضلة الوفاء لذكرى الحبيب وعدم الزواج والاستمرار في الحزن على الرغم من احتفاء عبد المؤمن بن علي بها وجعلها مؤدبة لنسائه، حتى توفيت هناك بمراكش بعد أن ملأت الأرض صخبا وصراحة وفنا وجمالا وملأتها وفاء لذكر الحبيب ولاختباراتها في الحياة.
ومن عجائب القدر وغريب ما يحيا فيه الإنسان أن يكون قد سبقها إلى مراكش وأغمات تحديدا، ملك سابق هو المعتمد بن عباد (1040/1095)، وكان يجسد حقيقة مأساة الإنسان حين تدور عليه الدوائر وينزل عن عرش الملك وهيلمان الحكم وتاج السلطنة ليغدو رعية مستجيرا وأسيرا ذليلا، وكأن في جبينه قد كتب بسنّ قلم الغيب «ارحموا عزيز قوم ذل». وعلى الرغم من كونه يتحمل مسؤولية كبيرة فيما وقع له، فقد عرف حكمه طيشا وإسرافا ورعونة واستجارة بالأجانب حماية لملكه ومكر ببني عمومته حتى فاجأته جيوش المرابطين تحت قيادة يوسف ابن تاشفين الذي أرسل به أسيرا مع أسرته إلى أغمات بمراكش. يقول شوقي ضيف عن تبذيره وطيشه: «وهو سفه ما بعده سفه، وبينما كان يعيش هذه المعيشة المترفة غاية الترف التي يعتصرها اعتصارا من عرق رعيته، كان يخاصم جيرانه من العرب وينازلهم في معارك ضارية بينما كان يركع خانعا على قدميه لألفونس السادس ملك قشتالة ويؤدي إليه الجزية سنويا صاغرا، وكان على وشك أن يبتلع إمارته كما ابتلع إمارة طليطلة لولا أن تداركه وتدارك الأندلس يوسف ابن تاشفين أمير المرابطين وقد خلعه ونفاه إلى المغرب جزاء وفاقا لما اقترف في حق إمارته وحقوق الأندلس العربية».
إنما الذي يعني الآن قصته مع زوجته وحبيبته اعتماد الرميكية الجارية في الأصل والجميلة والشاعرة كذلك وصاحبة النكتة والظرف وخفة الروح، وقد كان يحبها جدا وينفق عليها إلى حد السفه والطيش، وقصته عجيبة في مرج الفضة بالوادي الكبير في أشبيلية حين رغبت في المشي على الوحل والطين فصنع لها عجنة من المسك والطيب وخلطها بماء الورد وسكبها في أنحاء القصر وجعلها تسير مع خادماتها على ذلك الوحل الغريب المصنوع من الطيب والمسك حتى أغضب الأمر والده، ولكنه ظل مفتونا بالحب ومغامراته وحياة اللهو والأخطار تترصده من كل جانب. وأخيرا وقع في قبضة يوسف ابن تاشفين فنفاه إلى مراكش وهنا انقلبت حاله وساء وضعه وقال قصيدته المشهورة في رثاء حاله وحال بناته وزوجته:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافة
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
وعلى الرغم من مسؤوليته مسؤولية كبرى عما وقع له ولأسرته ويحق عليه قول المثل العربي «يداك أوكتا وفوك نفخ»، إلا أن الذين تعاطفوا معه تعاطفوا مع الإنسان في محنته ومع المجد الغارب والعرش الآفل والذلة بعد العز والغربة بعد حمى الوطن، فهو عبرة لكل حاكم ــ لو كان يعتبر -وصدق الله العظيم «وتلك الأيام نداولها بين الناس». كما أن رفض اعتماد التخلي عن زوجها يقدم موقف المرأة الوفية والمحبة الصادقة. وكان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني قد أمر عام 1961 بأن يجدد ضريحه وأن يكتب بعض من شعره فهو شاعر متقدم كما أسلفنا، وفي أواخر القرن نظم المغرب ملتقى دوليا برعاية العاهلين الإسباني السابق خوان كارلوس والملك الراحل الحسن الثاني خصص لحياة وأدب المعتمد بن عباد وقصة نفيه ونهايته، والملتقى قدم عمق الروابط بين الأدبين الإسباني والعربي كما مد جسور التواصل والتثاقف والحوار والاعتراف المتبادل. ولا عجب فقد كانت الأندلس سرّة الدنيا وقطب الرحى والوتين الذي تدفق عبره إلى العالم إشعاع النور وفيض الحب ونبض الفكر ونسائم الجمال.
وأخيرا ختم الشاعر العربي السوري نزار قباني هذا الجمال في الشعر والإنسان بلقاء الإسبانية ذات الدم العربي التي التقاها في غرناطة ورأى في عيونها نظرة جداتها عربيات دمشق، فامتزج الجمال بمشاعر الأسى لغروب قصة الإسلام والعرب في الأندلس وخروج العرب منها مع بقاء الوهج والبصمة والتوقيع العربي في النصوص الأدبية والمدونات الفقهية والكتب الفلسفية والعمران وفي اختلاط الأنساب وتمازج الثقافات، بحيث يستحيل القفز على مرحلة العطاء العربي الإسلامي في بلاد الأندلس كما عبر عن ذلك غارسيا لوركا. يقول نزار لتك الغرناطية:
هل أنت إسبانية؟ قالت
وفي غرناطة ميلادي
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي!
وجه دمشقي رأيت خلاله
أجفان بلقيس وجيد سعاد.
بارك الله فيك على هذا المقال الشيق الادبي التاريخي
هل هذان البيتان المشهوران:
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
لحفصة الركونية أم لولادة بنت المستكفي
قال الشاعر ابن خفاجة الاندلسي:
يا أهل أندلس لله دركم/ ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم/ ولو تخيلت هذي كنت أختار