عبد الإله الشاهدي فنان تشكيلي مغربي، من مواليد عام 1959، يعيش ويشتغل في مدينة المحمدية وأستاذ سابق لمادة الفنون التشكيلية. مبدع مثابر يمثل وجهاً مضيئاً داخل ساحة الفن التشبيهي في المغرب، بأبعاده الرمزية والإيحائية، بفضل خصوبة فنه وكذا الجوائز التشجيعية والميداليات الذهبية للإبداع التي نالها خارج بلده عن جدارة واستحقاق، فضلاً عن معارضه الفنية الفردية المتنوِّعة والمتجدِّدة..
بين التقنية.. والموضوعاتية
بإصرار إبداعي جاد، يواصل التشكيلي عبد الإله الشاهدي إبداعاته في الرسم والتصوير الموسوم بطابع نيوـ سيريالي قائم بالأساس على المزج بين التقنية الصباغية والمواضيع التي تظهر في ضوئها متنوِّعة ومتجدِّدة في اتصالها بالتجربة الذاتية والواقع المعيش والمشاهدات اليومية. هذه الإبداعات تظلُّ مشحونة بالدلالات الرمزية كنوع من الأَمْثَلَة Idéalisation التي راهن عليها الفنان الشاهدي في تشكيل قماشاته القديمة والحديثة، وهي تبرز أفقية الاتجاه رمزاً للمطلق واللامتناهي. وبالنظر إلى طبيعة هذه القماشات، فإنه يُراهن على تنوُّع محتوياتها ضمن المجموعات الفنية الخاصة القائمة على وحدة الموضوع والتقنية مع القليل من التباين (الكونتراست) الذي يفرضه سياق الإبداع لديه..
تقنيّاً، يظلُّ الفنان الشاهدي متميِّزاً على مستويين، أولهما تفرُّده بالرسم والتلوين بدقة عالية وبمهارة متقدِّمة تحمل بعضاً من خصائص «الواقعية المفرطة»Hyperréalisme ، ثمَّ قدرتهم على الانتقال من التجريدي إلى التمثيلي، بحيث أنه يهيئ السند، ويشغله بتشكيلات وآثار لونية تجريدية واستثمار نتائجها البصرية بتحويلها إلى سند فوق السند، والانطلاق منها لرسم نماذجه وموضوعاته التشخيصية التي صارت جزءاً منه. فهو يتمثل لوحاته قبل أن يرسمها. هو هكذا يعيش ويتعايش مع إنتاجاته التصويرية والصباغية التي تملأ وجدانه وتشغل تفكيره.. يصبغ ويصوِّر بشكل مباشر دون الاستناد إلى تخطيطات أو إسكيزات قبْلِية، ما دامت النماذج التي يرسمها موجودة في ذهنه. إنه في هذا المنجز يُعلن طريقته في التصوير، وهي طريقة فنية يسعى كثيراً لربطها بالفكر والمخيِّلة، انسجاماً مع قول الشاعر النيجيري وول سوينكا Wole Soyinka «الأسلوب هو لباس الفكر».. غير أن الفنان الشاهدي جعل أسلوبه الصباغي لباساً للتصوير، وهنا تبرز حنكته كتشكيلي نجح كثيراً في المزاوجة بين التقنية والموضوع.. وبين الموضوع والتقنية، هما اثنان في واحد..
تجعلنا هذه الخاصية الإبداعية نتساءل: كيف ينفذ الفنان الشاهدي لوحاته بكل هذه الدِّقة والمهارة التلوينية؟ وكم يستغرق الإنجاز لديه؟ كم يتطلب من الوقت والاعتكاف داخل محترف الرسم؟ وهل له آليات وتقنيات عملية خاصَّة يستخدمها في الرسم والتلوين وإبراز مناطق الضوء والظل والنسب والأبعاد والتحكم في تشكيلها، بما ينطوي على الأمر من ممارسة واعية متجدِّدة؟
الرَّاجح أن اللوحات التي ينجزها الشاهدي أمست واقعه اليومي الذي لا مناص منه، إذ يصعب تصوُّر الفنان بمعزل عن إنجازاته وبصماته.. هي حضوره وعنوان وجوده. من هنا، يظهر الارتباط الرُّوحي والوجداني بين المبدع والأثر الفني الذي يظلُّ شهادة على حياته ونفيّاً لمماته ورحيله..
طيور.. وبورتريهات
يقترح الفنان الشاهدي في سلسلة من الأعمال الصباغية التي نفذها خلال سنوات ممتدة، وهي مفعمة بمعانٍ ومفردات رمزية عديدة آتية من قريب ومطبوعة بنوع من الأَسْطَرَة Mythification، أبرزها مرحلة البورتريه التي رسم فيها عدَّة وجوه آسرة ومتأمِّلة، أهمها بورتريه بمعانٍ روحانية خصصه لوالدته الرَّاحلة التي شكلت مصدراً من مصادر إلهامه، وهو بورتريه تكريمي ينطوي على دلالات الأمومة، إضافة إلى أعمال أخرى مماثلة لنسوة متخيَّلات بعيون ونظرات عميقة وآسرة.. ولأن فن البورتريه شكل عبر تاريخ الفن إبداعاً قديماً، بحيث ظهر منذ العصر المصري القديم وازدهر خلال عصر النهضة في أوروبا الشرقية مع كوكبة من الرسامين المشهورين، ليصير عقب ذلك فنّاً قائماً بذاته، بعد أن صار متنوِّعاً في الأسلوب والتلوين وقواعد الرسم، فهو يظهر في لوحات الشاهدي في دلالات رمزية خاصة، إذ أن البورتريهات في لوحاته ليست بورتريهات تقليدية ترتكن فقط على محاكاة «الموديلات» بل إنها تأويلات جمالية وتعبيرات متخيَّلة تظهر بالشكل الذي يُريده ويقرِّره الفنان. إنها بورتريهات متسللة من عوالم ذاتية مشحونة بقوة رمزية تختزل في نظراتها التطلع نحو مستقبل أفضل، بعيداً عن حياة معاصرة مليئة بالأعطاب والصراعات المجانية التي لا معنى لها من الأصل.. بهذا، يكون الفنان قد أظهر دوره في الترميز لقضايا مجتمعية تهمُّنا وتهمُّه، بلغة تشكيلية قائمة على قوة التلوين وبلاغة المعنى في أبعاده ودلالاته البصرية والأيقونية. وفي مرحلة إبداعية موالية، تصدَّر طائر الحسون مجموعة من قماشاته بهيئته، وبما يتميَّز به من تغريد صاخب وشرشوريات جميلة أثناء طيرانه وتحليقه، وكذا بريشه ذي اللون الأصفر ووجهه الأحمر وبرقبته السوداء. فهذا الطائر الفريد ـ الذي يحمل اسماً مأخوذاً من لغة إنجليكية قديمة ـ يحضر في اللوحات التي توثق لهذه التجربة كموضوع رمزي ساد الكثير من لوحات القرون الوسطى، غير أنه يظهر في لوحات الشاهدي بأسلوب فني مختلف ومُغاير..
مداعبة على رقعة الشطرنج
في ما بعد، ستتصدَّر الأيادي لوحات الشاهدي مكبَّرة وفي المستوى الأول En premier plan.. أياد تتفتق فيها التجاعيد والتشققات الجلدية المعبِّرة عن الجفاف في المظهر، وعن الصبر والجَلَد والقدرة على التحمُّل في العمق والجوهر.. أياد ممتدة تحمي عُشّاً، وأخرى تعزف سمفونية السلام بأصابع ناعمة على آلة البيانو تيمُّناً بموهبة الفنان أورلاك Orlac..تُقابلها أرجل أنثوية ناعمة تشترك معها الإيقاعات والنغمات التي تُسْمَعُ أيضاً من خلال عزف فتيات متأنقات بأرديتهن التقليدية ولعبهن بآلة الكمان، لتنقلنا هذه اللوحات وتسافر بنا نحو سماوات رحبة مفعمة بالغمام التي يرسمها الفنان بألوان شفيفة غاية في الدقة.. تحضر النسوة كذلك في عدَّة لوحات بجانب حمام وعصافير ترفرف فرحاً وتحمل رسائل الحب، وفي أخرى تحيط بهن أحصنة وادعة في حركات راقصة تُعبِّر عن نشوة الانتصار والفرح المستحق، ليستمر مسلسل الإلغاز الذي يُبدعه الفنان الشاهدي لخلخة بصرنا بتقديم لوحات مشابهة من حيث الترميز وتكثيف المعنى، تتوسطها رؤوس غير مألوفة بجماجم مفتوحة من الأعلى تنبعث منها أدوات ميكانيكية تشغل حيِّز المخ في مشهد سيريالي يومئ إلى هيمنة الثقافة الآلية على الإنسان المعاصر، التي صارت تلغيه لتحل محله في أداء الكثير من الخدمات والمهام والأشغال المهنية والحياتية المتنوِّعة.
وبالنظر إلى ما أضحى يُبدعه من لوحات وتصاوير تشخيصية رمزية، نستطيع القول إن الفنان الشاهدي يشتغل بتناغم مع رغباته التي تمتلئ بصور ومشاهد لا يُمكن رؤيتها في الواقع، إنها مشاهد أخرى تتطلب عيناً ثالثة لفهم المعاني الثاوية في تجاويفها باعتبار تكويناتها وتوليفاتها الفوق واقعية التي يتطلب النفاذ إلى معانيها العودة إلى السياقات الفنية التي تمتد إليها، كالسيريالية الجديدة والتشخيصية الرمزية والتعبيرية الإيحائية.. وغير ذلك من التعبيرات التصويرية الحديثة التي قامت على المزاوجة بين المهارة (التقنية) والموضوع (الفكرة). هذه المزاوجة نجدها في تجربته الفنية مخصوصة بنماذج مرسومة ومصبوغة متنوِّعة أضحت تشكل مفرداته ومعجمه البصري الذي يشكل به إبداعاته ولوحاته.
والواقع أن الفنان عبد الإله الشاهدي استطاع، بكل هذا المنجز الصباغي المتميِّز، أن يتألق ضمن أعضاء جيله من الفنانين ويمنح التصوير التشخيصي الجديد في المغرب نَفَساً جديداً وأسلوباً فنّياً متفرِّداً شيَّده تدريجيّاً بأناة وصبر طويل، بل بفضل إصراره الإبداعي وطقوسية اشتغاله التي تحيا مع كلِّ عملٍ جديد..
ناقد تشكيلي من المغرب
يستحق كل التقديرات والتكريمات …لما يكرسه من جهد في ابهارنا بابداعاته المبهرة والمتقنة عمليا تنافس تحف قدماء الفنانين العالميين . يعتبر مفخرة للفن والفنانين المغاربة العرب على العموم….