عندما يقوم الكاتب بتأليف رواية، فإنه لا يستطيع تجنب الكشف عن جوانب شخصيته وأفكاره من خلالها. لكن عندما تنشر الرواية وتنال نجاحا كبيرا فإنها تكشف الكثير عن شخصية القارئ والناقد الذي يعجب بها أو يكرهها. وبالتالي، فإن الرواية تكشف الكثير عن المجتمع وطبقاته الثقافية وقوانين الدولة التي تنال الرواية فيها نجاحا كبيرا.
ورواية «صورة دوريان غرَي» The Picture of Dorian Gray خير مثال على ذلك، إذ أنها تكشف الكثير عن المجتمع البريطاني في فترة نشرها وكيفية تطوره ثقافيا منذ ذلك الحين وحتى الآن، وقد ألف الرواية الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد Oscar Wilde ونشرها عام 1890، وما تزال تنشر باستمرار حتى الآن، وتعتبر من رموز الأدب الإنكليزي.
أحداث الرواية
تدور أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر، وتتركز على ثلاثة أفراد من الطبقة الارستقراطية، وهم «دوريان غرَي» الشاب البالغ الوسامة، والرسام الشهير «بازل» واللورد «هنري» حيث يعجب الرسام «بازل» بجمال الشاب «دوريان» ويرسم له لوحة اعتبرها أفضل ما رسمه في حياته، وأهداها إليه. وتعرف «اللورد هنري» على «دوريان» عن طريق «بازل» وأصبح صديقا مقربا له. وكان «دوريان» نفسه معجبا جدا بجماله وأخذ اللوحة إلى منزله الفخم. واثناء تمعنه فيها تمنى ألا يتغير مظهره أبدا ويبقى في هيئة الشاب ذي الجمال الباهر، وأن أي تغيير من المفروض أن يحدث له يجب أن يحدث للصورة عوضا عنه. ويعجب «دوريان» بـ»سيبل» الممثلة الشابة الجميلة التي تمثل إحدى مسرحيات شيكسبير في مسرح صغير يقع في إحدى المناطق الفقيرة، فيتقرب منها، ما يفرحها لأنه كان شابا متعلما ووسيما ومن عائلة ارستقراطية، ومثّل فرصة للخروج من مجتمعها البائس. ولذلك، يدعو «دوريان» صديقيه «بازل» و»اللورد هنري» لحضور أحد عروض «سيبل» وتفاجأ الثلاثة بأدائها السيئ تلك الليلة، فذهب «دوريان» إليها وأبلغها إنهاء علاقتهما ما جعلها تنهار حزنا.
عاد إلى منزله منزعجا إلا أنه وجد أن رد فعله كان متهورا، وأن عليه إعادة علاقته بـ»سيبل» لكن خبر انتحارها أصابه بصدمة نفسية قاسية. ونظر إلى الصورة، فاذا بها تتغير قليلا، ما أثار ذعره وجعله يخفيها في غرفة في منزله، فقد تحققت أمنيته.
ويقنع «اللورد هنري» «دوريان» بأن عليه أن يقضي حياته مستمتعا بالملذات والشهوات قدر الإمكان، وكانت تلك نصيحة عمل بها «دوريان» بتفان واضح، حيث بدأ بالتردد على الحانات المشبوهة وساءت سمعته، حيث عرف بقيامه بمختلف الأعمال «الشريرة» إلا أن ذلك لم يمنعه من استلام الدعوات من أفراد الطبقات الارستقراطية.
وفي هذه الأثناء ازدادت هيئته في الصورة قباحة وشيخوخة، ما أصابه بالرعب، إذ أنها كانت تعكس شخصيته الحقيقية التي اتسمت بكل ما هو قبيح في الحياة وقسوته تجاه الآخرين. وزاره الرسام «بازل» طالبا منه مشاهدة اللوحة ومعاتبا إياه لفقدانه براءته. وما أن شاهد اللوحة حتى أصيب بنوبة من الهلع للتشوه الذي طرأ عليها، فإذا بـ»دوريان» يطعنه بسكين ليسقط جثة هامدة. وللتخلص من الجثة هدد «دوريان» أحد أصدقائه من العلماء الشباب في مجال الكيمياء بمساعدته في التخلص من الجثة، وإلا فإنه سيفضح «سره» وقام الصديق بالمهمة بنجاح ثم انتحر.
بعد ثمانية عشر عاما من انتحار «سيبل» اكتشف «دوريان» أن شقيق حبيبته المنتحرة يبحث عنه ليقتله انتقاما لما فعله بها، إلا أن حادث إطلاق نار بالخطأ يودي بحياة الشقيق ويتنفس «دوريان» الصعداء. وسرعان ما يعجب بفتاة جميلة ريفية، ما جعله يندم على طريقة حياته، فعاد إلى المنزل وواجه الصورة التي أصبحت على شكل رجل عجوز في منتهى البشاعة. وهنا قرر تغيير حياته تماما، وأن يعيش حياة خالية من الشرور والبذاءة والارتباط بتلك الفتاة الجميلة. ولذلك كان عليه التخلص من لعنة شبابه الدائم وتلك الصورة، فأخذ السكين التي قتل بها الرسام «بازل» وانهال على الصورة. وهنا سمع الخدم في المنزل صرخة أليمة، فهرعوا تجاه الغرفة وكسروا الباب، فإذا بهم يجدون «دوريان» مرمى على الأرض والسكين في صدره، أما اللوحة فكانت دون أضرار وفيها صورة «دوريان» الشاب البالغ الوسامة.
المؤلف أوسكار وايلد و»دوريان غرَي»
لا يمكن تجاهل أوجه التشابه بين أوسكار وايلد و»دوريان غرَي» بل إن أوسكار وايلد نفسه ذكر أن الرواية تمثل جوانب من شخصيته وحياته، وأن أمنيته كانت أن يصبح مثل «دوريان غرَي». وكان الاثنان متعجرفين وشديدي الإعجاب بمظهريهما وذكائيهما. وبالنسبة لأوسكار وايلد، عرف بتعليقاته الساخرة عن أحداث ورجال عصره، ما يعطي الانطباع بأن شخصيته كانت عدوانية. وكان دائم المحاولة أن يكون محط اهتمام الجميع في المناسبات، حتى إنه كان يرتدي ملابس غريبة لتحقيق ذلك.
من الناحية الفنية الرواية ضعيفة ومتناقضة، فلم يبين المؤلف الأعمال الشريرة التي كان «دوريان» يرتكبها، ولم يبين ماذا كان بطل الرواية يهدد صديقه العالم به كي يساعده في التخلص من جثة الرسام «بازل» وبهذا الشكل قلل من وضوح الرواية.
ومن الممكن الاستنتاج أنه كان مصابا بنوع من النرجسية المفرطة، وإذا كان هذا صحيحا، فإن تظاهره بعدم اهتمامه بآراء الاخرين نحوه لم يكن سوى تمثيل، ما يفسر سبب محاولته المستمرة لجذب اهتمام الآخرين نحوه، الذي كان بالتأكيد يتطلب جهدا كبيرا من قبله، ما أثر بشدة في حالته النفسية، ولذا فإن ما كان يظهره وكأنه ثقة مفرطة بالنفس، لم يكن في الحقيقة سوى قلة ثقته بنفسه، وكل ما كان يفعله هو هروب إلى الأمام وتظاهر مرضي بتحدي المجتمع، وربما كان يعاني كذلك من كآبة نفسية طالما حاول إخفاءها والتخفيف منها. ومن الجدير بالذكر تجاهل النقاد أغرب وأهم ما ميز هذه الرواية، ألا وهو شعور «دوريان غرَي» باليأس ومحاولته تغيير واقعه دون نجاح، ما أدى إلى وفاته، فهل عبر ذلك عن شعور المؤلف نفسه حول حياته. وهل كان أوسكار وايلد، الذي طالما ألح في إظهار ثقته بنفسه، في الحقيقة يائسا وتمنى أن يغير واقعه؟ من المستحيل البت في هذا، فليس الكاتب بيننا الآن.
كان على المؤلف أن يكون أوسع خيالا في تفاصيل علاقة «دوريان» بالممثلة «سيبل» فقطع العلاقة بها لأنها لم تمثل جيدا في أحد العروض كان مبالغا فيه، ومحاولة غير مقنعة من قبل المؤلف لإظهار مدى رقي مستوى «دوريان» الفني. ودراسة متعمقة لتاريخ مدينة لندن تبين أن تلك المسارح الرخيصة كانت مناطق عرفت بنشاط الدعارة ولا يرتادها من يبحث عن المستوى الفني الراقي، بل من يبحث عن نوع آخر من المتعة. لكن أوسكار وايلد كان يعرف تلك المسارح ومناطقها جيدا لأنه كان يرتادها. يتشابه المؤلف وبطله كذلك في اختلاط الاثنين بالطبقة الارستقراطية، حيث انتميا إليها، وكانت مسرحا لنشاطهما الاجتماعي، وقد يبدو ذلك وكأنه تناقض في الرواية، حيث يستلم «دوريان» الدعوات من أفراد تلك الطبقة، على الرغم من توضيح الرواية استهجان تلك الطبقة لتصرفاته «الشريرة». وكان أوسكار وايلد في الحقيقة مثل بطله، إذ كانت حفلات الطبقة الارستقراطية شغله الشاغل، على الرغم من معرفة الجميع بأنه كان يقوم بأعمال لا تعتبر قانونية آنذاك، ومخالفة للعادات الاجتماعية التي كان البريطانيون يدعون إيمانهم بها. وكانت جميع تعليقاته الساخرة وأعماله الأدبية تتناول الطبقة الارستقراطية وضمن إطارها الفكري.
ومما هو جدير بالذكر أن أوسكار وايلد تلقى تعليما في أفضل الجامعات التي كانت تعج بطلاب الطبقة الارستقراطية، ولا يمكن الشك في مستوى ثقافته حسب معايير عصره. وكان والده أحد أشهر الأطباء في بريطانيا، ووالدته كاتبة معروفة، وكان الاثنين من عوائل معروفة.
الجانب الفني للرواية
الرواية من الناحية الفنية ضعيفة ومتناقضة، فلم يبين المؤلف الأعمال الشريرة التي كان «دوريان» يرتكبها، ولم يبين ماذا كان بطل الرواية يهدد صديقه العالم به كي يساعده في التخلص من جثة الرسام «بازل» وبهذا الشكل قلل من وضوح الرواية. ومن الغريب أن يتوقع أوسكار وايلد أن يتعاطف القارئ مع شخص يقتل أحد أصدقائه ويدفع صديقا وفتاة أحبته إلى الانتحار.
اقتبس أوسكار وايلد الكثير من الأفكار من كتّاب سابقين وأساطير قديمة، فطلب «دوريان» من قوة ميتافيزيقية أن يبقى شابا وأن تتغير الصورة بدلا منه، مثالا لمفهوم «بيع الروح للشيطان» وهو فكرة خيالية غربية مفادها قيام الشخص بالاتفاق مع الشيطان، أو عفريت، على أن يقوم الشخص بأعمال شريرة لمصلحة الشيطان مقابل حصوله على الحياة الأبدية، أو ثروة هائلة أو على منصب مهم. وقد ظهرت أول قصة معروفة حسب هذا المفهوم في القرن السابع حول أحد القساوسة الذي يبيع روحه للشيطان، إلا أن السيدة العذراء تنقذه. واستمرت هذه القصص على الرغم من التقدم التدريجي للعلم في الغرب، واتهم بعض المشاهير بأن سبب شهرتهم كانت بيع روحهم للشيطان، ومنهم البابا سلفستر الثاني، وحتى عازف الكمان الإيطالي الشهير نيكولوباغانيني، وهناك مشاهير آخرون. وتناولت هذا المفهوم أعمال أدبية عديدة، كانت أشهرها المسرحية الشعرية «فاوست» Faust (1808) للأديب الألماني يوهان فون غوتة.
أوسكار وايلد تلقى تعليما في أفضل الجامعات التي كانت تعج بطلاب الطبقة الارستقراطية، ولا يمكن الشك في مستوى ثقافته حسب معايير عصره. وكان والده أحد أشهر الأطباء في بريطانيا، ووالدته كاتبة معروفة، وكان الاثنين من عوائل معروفة.
يتفق النقاد على أن أحد الجوانب التي اقتبسها أوسكار وايلد، كان ازدواج الشخصية لدى الإنسان. وهو مفهوم لاقى رواجا في بريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومفاده أن الإنسان يمتلك شخصيتين، إحداهما شريرة، والأخرى خيرة، دون وجود تسوية بينهما، ولا تسيطر إحداهما على الأخرى. وحسب هذا المفهوم أن الشخصيتين منفصلتان عن بعضهما بعضا تماما، إذ تظهر كل منهما على حدة. وقد نشرت عدة أعمال أدبية تناولت هذا المفهوم، وكان أشهرها رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد» Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde (1886) للكاتب الإسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن. لكن تناول أوسكار وايلد لهذا المفهوم كان مختلفا، حيث كان «دوريان غرَي» يعرف جيدا أمر الصورة، وأما عن كون شكل بطل الرواية الوسيم والبريء الذي كان يخفي طبيعته الشريرة، فلم يكن هذا ازدواج شخصية، بل قناعا كان «دوريان غرَي» على علم به واستغله. لكن أوسكار وايلد أعطى الانطباع في الرواية بأن الشخصية الخيرة طفولية ما يدل على سذاجة المؤلف في تفسير الطبيعة الإنسانية.
امتازت الرواية بالمبالغة بالمحادثات المطولة والمملة بين شخصياتها، التي كانت أشبه بمحاولة المؤلف لإظهار مدى ثقافته ومثال لأحاديث اجتماعية عادية لأفراد الطبقة العليا في المجتمع البريطاني، ما جعل الرواية مملة وسطحية. لكن الكاتب كان يعاني في جميع أعماله الأدبية من كونه سطحيا.
نشرت الرواية على الرغم من وجود قوانين مضادة لنشر هذا النوع من الأدب في بريطانيا. ولم تنل الرواية نجاحا كبيرا عندما نشرت وانتقدها الكثير من النقاد. لكنها لم تؤثر في مسيرة المؤلف الفنية، حيث ألف عدة مسرحيات ناجحة بعد ذلك. ومما هو جدير بالذكر أن مسرحيته «سالومي» منعت من العرض في بريطانيا لتناولها رموزا دينية. وبدأت شهرة الرواية بالازدياد في بداية القرن العشرين، أي بعد وفاة أوسكار وايلد عام 1900، تدريجيا حتى أصبحت إحدى اشهر الروايات في تاريخ الأدب البريطاني الحديث.
أنتجت أربعة عشر فيلما عن شخصية «دوريان غرَي» كان أولها عام 1910، إلا أن أشهرها كان من إنتاج عام 1945 ومثل فيه هرد هاتفيلد وجورج ساندرز وأنجيلا هاتفيلد، التي ما تزال تشارك في الأعمال السينمائية والمسرحية حتى الآن. وحصل هذا الفيلم على جائزة الأوسكار عام 1946 ما يدل على مدى شهرة الرواية. واقتبست الرواية من قبل المسرح مرات عديدة، وكان أول عرض مسرحي لها عام 1913 في لندن. ما تزال هذه الرواية الشهيرة تنشر من قبل عدة دور نشر في الوقت نفسه في لغات كثيرة في مختلف انحاء العالم حيث أصبحت رواية يعرفها جميع هواة الأدب العالمي.
باحث ومؤرخ من العراق