نيويورك تايمز: انشغال نخب ما بعد الثورة بالخلاف الديني- العلماني وتجاهل الاقتصاد وراء عودة حكم الرجل الواحد في تونس

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

لندن – “القدس العربي”:

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعدته فيفيان يي قالت فيه إن الإهمال الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي وعجز الرئيس المنتخب عن تحقيق وعوده الانتخابية كانت وراء تداعي التجربة الديمقراطية التونسية.

وجاء في تقريرها أن التونسيين الذين سئموا من الفساد والقمع وغياب الفرص تدفقوا قبل حوالي 12 عاما إلى الشوارع وأطاحوا وهم يهتفون “خبز، حرية، كرامة” بديكتاتور، وتردد صدى الهتافات التونسية في كل أنحاء الشرق الأوسط وفتحت الباب أمام سلسلة من الانتفاضات التي عرفت باسم الربيع العربي مما أحيا الآمال بازدهار الديمقراطية في تونس وما بعدها.

وقبل ستة أعوام أصدرت الحكومة عفوا عن الفاسدين والمسؤولين السابقين الذين نهبوا البلاد قبل ثورة عام 2011، وهو ما اعتبره الذين كافحوا من أجل التغيير ومن لم تتحقق العدالة لهم صفعة بالوجه.

وقالت سيدة الونيسي، الوزيرة السابقة في واحدة من حكومات ما بعد الثورة والتي سجن صهرها وعذب في سجون زين العابدين بن علي “كيف سأنظر في عين حماتي” و”أنت في الحقيقة تعفو عن الناس بدون محاكمة” و”ضحاياهم لا يزالون هنا”.

ولشعورهم بالإحباط من السياسيين والأحزاب قرر التونسيون اختيار شخصية غير مجربة ومن خارج المشهد السياسي، قيس سعيد، على أمل تحقيق ما فشل فيه الساسة المجربون، وبعد عامين على انتخابه، قام سعيد في العام الماضي بتنحية كل الأحزاب والمؤسسات الرقابية على العمل الديمقراطي لينشئ حكم الرجل الواحد. وفي الشهر الماضي عزز حكمه بالاستفتاء على الدستور الذي منحه سلطات واسعة.

وبعد عقد على نهاية الحكم الديكتاتوري، ظلت تونس التجربة الوحيدة الناجية من ثورات الربيع العربي لكن ديمقراطيتها باتت اليوم ميتة. ورغم السرعة التي محا فيها سعيد المنجزات الديمقراطية إلا أن مقابلات مع المشاركين المخضرمين في عملية بناء الديمقراطية في تونس أظهرت أنهم يرون أن عملية التراجع في البلد بدأت بسلسلة من الخطوات غير الموفقة التي أفقدت التونسيين الثقة بالنظام. فقد فشل القادة المنتخبون ديمقراطيا بتصحيح أخطاء النظام السابق وتجاهلوا بناء الاقتصاد وتركوا تونس تعاني من الفساد ومعدلات عالية من البطالة وفجوة متزايدة بين الفقراء والأغنياء وديون بعد عقد على الثورة. وشهدت البلاد 10 رؤساء وزراء بمعدل واحد كل سنة وتوسع خطوط الصدع الديني- العلماني. وقال عبد اللطيف مكي، وزير الصحة السابق “لا يزال معظم الرأي العام التونسي يدعم الثورة” و”لكنهم يغيرون مواقفهم من حزب سياسي إلى آخر أو لأشخاص مثل سعيد، ويبحثون عن شخص يمكنه تحقيق أهداف الثورة”.

وعندما هرب بن علي من البلاد في كانون الثاني/يناير 2011، سادت الحماسة، مع أن الاقتصاديين حذروا من الوضع المالي للبلاد وضرورة الانتباه إليه. وفي الوقت الذي طالب فيه المتظاهرون والمحتجون بضرورة حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومشكلة البطالة التي يعاني منها الشباب الذين يمثلون نسبة الثلث من السكان، إلا أن القادة ركزوا على ضبط النظام السياسي وأهملوا القضايا الملحة.

وعندما رفض التونسيون النظام القمعي الذي تسيد النظام السياسي على مدى العقود الستة، انتخبوا في عام 2011، مجلسا تشريعيا انتقاليا هيمن عليه حزب النهضة الإسلامي المعتدل الذي تعرض للقمع والشيطنة من الأنظمة السابقة. وكانت مناطق دعم الحزب التقليدية هي الأحياء والأرياف المحافظة والفقيرة، وهي التي غذت الثورة، وبدا حزب النهضة وكأنه يدافع عن الثورة نفسها. وعندما بدأت البلاد بكتابة دستورها بعد عامين، اشتعل النقاش حول دور الإسلام بين العلمانيين والإسلاميين. وقال نقاد النهضة إن المرأة في ظل حكمه لن تحصل على حقوقها وسيمنع شرب الكحول. وقالت مونيكا ماركس من جامعة نيويورك- فرع أبو ظبي إنه لو لم يظهر الحقد تجاه النهضة “لكان هناك انتباه أكبر وأسرع” إلى عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي.

وبدلا من الاهتمام بهذه الأولويات، تم وضعها على الرف لصالح الحديث عن النهضة، رغم اعتدالها، وأنها قد تقيم دولة دينية بدلا من نظام ليبرالي. وإزاء هذا لم ينتبه قادة تونس فيما بعد الثورة بأنهم كانوا بحاجة لخطة اقتصادية. وكانت خططهم لحل البطالة والميزانيات المتضخمة للبيوت متعجلة إن لم تكن ضيقة النظر، عبر زيادة الموظفين في القطاع المدني وزيادة رواتب موظفي الحكومة والاقتراض من الخارج لدفع كل هذه الواجبات المالية. وثبت أنه خطأ لأنه زاد من التضخم وفاقم من الدين الخارجي. وتحولت البلاد إلى أكبر موظف ينفق نصف ميزانيته على رواتب الموظفين. وقال الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان: “حدث سباق بين الأحزاب لشراء الدعم والأصوات”. وعندما باتت الحاجة ملحة لقطع فاتورة الرواتب “لم يكن لدى الساسة الشجاعة للتخلص من آلاف الأشخاص مرة واحدة”.

وفي مرحلة ما بعد الثورة عانت البلاد من مشاكل ملحة، فبعد الثورة تدفق آلاف التونسيين إلى تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على أجزاء من سوريا والعراق واغتيل سياسيان علمانيان. وتبنت النهضة التي رفضت ذكر القانون الإسلامي في الدستور نهجا معتدلا يتجنب العنف، إلا أن مخاوف التونسيين من الإسلام الراديكالي إلى جانب عقد طويل من شيطنة النظام القديم للنهضة أثارت الشكوك حول الحزب. وفي آب/أغسطس 2013 دعا عشرات الآلاف للإطاحة بالنهضة وكان تهديد العنف واضحا. وتم حل الأزمة عندما التقى زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي وزعيم نداء تونس الباجي قايد السبسي في باريس.

وبعد مشاركتها في الحوار الوطني تخلت النهضة عن السلطة وفتحت الباب أمام كتابة مسودة الدستور الذي تم تبنيه في كانون الثاني/يناير 2014. وأثنى قادة العالم على النموذج التونسي والقائدين التونسيين كرجلي دولة حقيقيين، ومنحت لجنة نوبل جائزة السلام للرباعية التي أسهمت في الحوار عام 2015. وفي كانون الأول/ديسمبر فاز نداء تونس بالانتخابات بعد حملة معادية للنهضة وأصبح السبسي الرئيس. لكن النظام الانتخابي الذي قصد منه منع النهضة من الحصول على الغالبية حد من قدرة الحزب (نداء تونس) على بناء الغالبية ولهذا قرر التحالف مع النهضة باسم تحقيق الاستقرار. وهو ما قاد لغضب نوابه واستقالة 32 منهم. وقال الغنوشي في تصريحات للصحيفة “كانت تونس تسير نحو الهاوية، مثل بقية المنطقة” و”الإجماع أنقذ تونس لمدة خمسة أعوام”.

إلا أن التحالف المهتز تسيد السياسة في تونس خلال السنوات الخمس هذه، بحيث لم يكن لدى أي طرف الاستعداد لتقديم تناولات غير شعبية وتغيرات سياسية تهدد الإجماع. ويقول منذر بلحاج المؤسس المشارك لنداء تونس والذي استقال في حينه “ما يحدث الآن هو نتاج ذلك”. و”بسبب الائتلاف لم يعد التونسيون يؤمنون بالانتخابات ولم نستطع إحداث الإصلاحات الضرورية”. ولم يتفق الائتلاف على أعضاء المحكمة الدستورية التي كانت كفيلة بمنع سعيد من الاستيلاء على السلطة العام الماضي.

وزادت في الوقت نفسه المصاعب الاقتصادية، واقترح رؤساء الوزراء المتعاقبون الذين حاولوا الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي سياسات مثل قطع ميزانية الرواتب وتخفيفها وبيع أو إصلاح الشركات التي تملكها الدولة بدون نجاح. وقال شران غريوال، من معهد بروكينغز إن التونسيين حملوا الساسة والنظام مسؤولية الأوضاع الاقتصادية الفقيرة. ولعل أكثر التطورات المخيبة كان التشريع الوحيد الذي اقترحه السبسي للعفو عن أركان النظام السابق.

ويرى أمين غالي من معهد الكواكبي في تونس “كشف عن عدم اهتمام السبسي بالإصلاح الاقتصادي الديمقراطي”. ووافقت النهضة على التشريع. وبعد وفاة السبسي بات الناخب التونسي محبطا من الأحزاب السياسية ولهذا اختار أستاذ القانون الدستوري السابق سعيد. وفي الانتخابات البرلمانية جاء حزب النهضة في المرتبة الأولى لكن البرلمان غرق في الخلافات الداخلية وقاد إلى صعود اليمين المتطرف واليسار المتطرف بشكل أدى لعجز البرلمان.

وشعر التونسيون بالقرف من النواب الذين وجهوا لهم الشتائم عبر فيسبوك والشوارع. وساء الوضع الاقتصادي في الوقت نفسه وفقد المستهلك التونسي نسبة 40% من قدرته الشرائية. أما العملة فقد انخفضت قيمتها بنسبة 60% من 2020 -2022. وزاد الدين العام بنسبة خمسة أضعاف عما كان عليه في عام 2010. ولم تعد الحكومة قادرة على دفع الرواتب أو شراء الحبوب علاوة على الاستثمار بالبنى التحتية. ووسط هذا قام سعيد بخطواته مستخدما كوفيد-19 وطريقة معالجته. ويقول أول رئيس تونسي بمرحلة ما بعد الثورة منصف المرزوقي “يستخدم سعيد الكراهية، التي يكنها جزء كبير من السكان للطبقة السياسية وبخاصة النهضة ليقول: أنا المخلص” و”بالنسبة للمواطن العادي فقد فقد الثقة بكل شيء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية