المنظمات الدولية والشعوب المنكوبة… الدور الحقيقي للمنظمات الدولية

حجم الخط
2

فكرة التنظيم الدولي عبر مظلات سياسية تتخذ شكل منظمة تجمع مجموعة من الدول، عادة تكون واقعة في إقليم واحد ليست بالفكرة الحديثة، لكن الحديث هو ما شهده القرن العشرين من تأسيس مظلة تجمع جميع دول الكوكب تقريبا، بل تكون عضويتها أساسا للاعتراف بالدولة، وهذا ما بدأ مع منظمة عصبة الأمم، التي قامت على أنقاضها منظمة الأمم المتحدة سنة 1945، حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
لو تناولنا دور المنظمات الدولية من منظور الأمم المتحدة، التي هي أكبر المنظمات الدولية على كوكبنا، سنجد أنها قامت بالأسس نفسها التي قامت عليها كل المظلات السابقة لها منذ زمن بعيد، كما سنجد أن أهم أساس هو أن من بوسعه إنشاء منظمة ذات فعالية هي الدول القوية بمعيار عصرها، لاسيما عسكريا واقتصاديا، حيث هناك العشرات من المنظمات الدولية قليلة الفعالية على الأرض، لدرجة تجعلها واقعيا عديمة أو شبه عديمة القيمة على أرض الواقع وإن تم الترويج لها إعلاميا بشكل مكثف كجامعة الدول العربية، أو أصبحت كذلك بفعل تبدل المتغيرات الدولية عبر الزمن، وعدم تطوير تلك المنظمات لنفسها. ومثال ذلك جميع منظمات العمل الإسلامي في وقتنا الحالي، التي لم تستطع مع جامعة الدول العربية وقف بحور الدم التي نشاهدها في العديد من الدول العربية والإسلامية، فضلا عن ملايين الضحايا بين قتلى ومصابين ومهجرين، إلخ.
مما تقدم من سطور نستوعب أن المنظمة الدولية تدور فعاليتها وجودا وعدما مع قوة أعضائها، وأن قوة أعضائها هي التي تُمكنها من امتلاك آليات بوسعها تنفيذ قراراتها ومشيئتها، ومثال ذلك امتلاك منظمة الأمم المتحدة لمجلس الأمن، بما يملك من سلطات واسعة على رقاب الدول، خاصة الدول التي لا تملك القوة اللازمة، وهنا تطل حقيقة، أن الدول الفاعلة في أي منظمة دولية تستثمر المنظمة وأماناتها لتطبيق رؤية تلك الدولة، أو بجملة أخرى لتحقيق مصالحها، وهذا رأيناه في مواقف لا يمكن حصر عددها.

المنظمة الدولية تدور فعاليتها وجودا وعدما مع قوة أعضائها، وأن قوة أعضائها هي التي تُمكنها من امتلاك آليات بوسعها تنفيذ قراراتها ومشيئتها

المبادئ والتطبيق.. تناقضات: وُلِدَت الأمم المتحدة من رحم مأسي وأهوال الحرب العالمية الثانية 1939-1945 التي كانت امتداد للحرب العالمية الأولى 1914-1918 حيث عدد القتلى والمصابين تخطى 100 مليون إنسان (في وقت كان عدد سكان الكوكب أقل من نصف عدد اليوم)، فضلا عن دمار شامل للاقتصاد والبنية التحتية للكثير من الدول، وكان معظمهم في أوروبا، ما دفع المجتمع الدولي لتبني نصوص عالية الإنسانية، وإطلاق مبادرات غاية في الرقي، لكننا وجدنا هذا وذاك يتبدد مع زعزعة استقرار العديد من الدول من قبل أمريكا (أحد أهم مؤسسي الأمم المتحدة ودولة المقر)، بتدبير الانقلابات في العديد من الدول في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا، حتى وصلت إلى حرب فيتنام التي كانت وستبقى علامة فارقة في تاريخ الإنسانية. وعلى صعيد آخر أفعال فرنسا بالبلاد التي كانت تحتلها، حيث دمويتها في الجزائر في الخمسينيات، التي أصبحت حرفيا وحشية، وكذلك استغلالها الدول الافريقية، التي كان عليها مغادرتها، وليومنا هذا تجبر فرنسا تلك الدول الافريقية، على أن تستلم فرنسا أثمان ما تبيعه من منتجات زراعية وخلافه، ولا تعطي لتلك الدول الافريقية سوى الجزء اليسير من ثرواتها، والباقي يبقى في البنك المركزي الفرنسي، وهذا أحد أهم أسباب تخلف كثير من الدول الافريقية عن الركب رغم ثرواتها الهائلة. وإذا انتقلنا إلى القرن الواحد والعشرين الذي دشنته أمريكا بغزو العراق، وما نتج عنه من مأسٍ لملايين من البشر واستتبعه إعادة إحياء «القاعدة» التي تمددت إلى «داعش» ثم الفصائل التي أحرقت سوريا، إلخ، كما تغض الأمم المتحدة البصر عن الكوارث التي حاقت بشعوب اليمن وسوريا وليبيا، كون مبيعات السلاح التي تحققها بعض الدول العظمى، وكذلك سلبها خيرات تلك الشعوب المنكوبة من نفط وغيره، يجعل دماء البشر مستباحة. وإذا ما أخذنا مثالا من المنظمات الإقليمية، سنجد الاتحاد الافريقي نموذجا صارخا على التناقض بين التطبيق والمبادئ، فمنظمة الاتحاد الافريقي هي امتداد لمنظمة الوحدة الافريقية التي تأسست عام 1963، أي أنها خرجت من رحم معاناة الشعوب الافريقية في وقت عصيب كانت افريقيا تضحي لأجل التحرر، ثم حلت منظمة الاتحاد الافريقي محل منظمة الوحدة الافريقية سنة 2002 بعدما شهدت القارة السمراء عشرات الانقلابات، التي تسببت بحروب أهلية كبدت القارة أرواح الملايين من البشر، فضلا عن إهدار الثروات بالتسليح، الذي كانت الدول العظمى تتسابق على إمداد المتحاربين به، وقد شهد المنحنى صعودا وحشيا بالحروب الأهلية في رواندا وبوروندي والعديد من الدول الافريقية الأخرى خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، لذلك نجد منظمة الاتحاد الافريقي حين تأسست سنة 2002 وضعت الكثير من النصوص لمحاربة الانقلابات، حتى أنها جمدت عضوية مصر سنة 2013 بعد الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، لكن المنظمة سرعان ما أعادت عضوية مصر واعترفت بشرعية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سنة 2015، بعدما وقع إعلان المبادئ الذي شرعن وجود سد النهضة، حيث كان محل جدل كبير في المجتمع الدولي لتهديده مصر والسودان بعواقب كارثية. كذلك فإن الاتحاد الافريقي لم ينطق بكلمة تجاه انقلاب رئيس وزراء إثيوبيا على الشرعية في بلاده، وذلك بإلغاء الانتخابات التي كان مقررا عقدها في سبتمبر 2020، ثم إجراؤها لاحقا بشكل شكك فيه الكثير من الأوساط الدولية، خاصة على ضوء المجازر المروعة التي ترتكبها حكومة أديس أبابا بحق إقليم تيغراي.
أما نموذج جامعة الدول العربية، فليس بحاجة إلى أي إيضاح، إذ يوضح أداء المنظمة ما هي عليه، ونرى من جانبنا أنه لم يتم تأسيسها لتحقيق مصالح الدول والشعوب العربية، بل إن بريطانيا هي التي أسستها لجمع العرب في سلة واحدة ولا أدل على ذلك من أنها المنظمة الوحيدة بالعالم تقريبا التي يستلزم صدور القرار منها إجماع كل الدول الأعضاء، وهذا المبدأ جرد المنظمة من شخصيتها فضلا عن فاعليتها، كما يؤكد أداؤها منذ سنة 2011 ولأكثر من عقد شهد فيه العالم العربي وما زال مأسي وأهوالا من بحور دم متفجرة، لمجاعات بفعل البشر، لحصار دول عربية لتدمير أخرى دمارا شاملا، من دون أن تحرك الجامعة ساكنا، بل شهدناها في كثير من الأحيان أداة مسلطة على الشعوب العربية المنكوبة.
ليس فيما تقدم من سطور أي تبنٍ لنظرية مؤامرة، أو حتى ما يهدف لمقاطعة المنظمات الدولية، لكن الهدف هو تقديم شرح عملي وموضوعي بشكل هادئ لسيرورة عمل معظم المنظمات الدولية، التي تحركها مصالح الدول الفاعلة فيها، وعلينا فهم أن الحكومات عادة تحركها مصالح اقتصادية تُشكلها الشركات العملاقة وعلى رأسها صناعة السلاح، كما قد تحركها مصالح عسكرية أو رؤية استراتيجية، في الأغلب ستكون ذات بعد اقتصادي، وهذا الفهم لطبيعة عمل المنظمات الدولية هو مقدمة لشرح طبيعة العلاقات الدولية، وهو ما ستحمله مقالة مقبلة.
رئيس المعهد الأوروبي للقانون الدولي والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت العوائل السورية المغربية البريئة المحظورة في المغرب مرآة لعصر وصورة لزمن!:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    المنظمات الدولية المختلفة ليست سوى خداع نظر فهي ذات وجه آخر في مساندة الطغاة من وراء ستار وهي أداة التجسس على المظلوم

  2. يقول ميساء فلسطين:

    لم يشهد العالم دورا للمساعدات الاممية إلا في أوكرانيا، فضيحة انسانية بكل المقاييس اما الشعوب المنكوبة الأخرى فهي في عداد النسيان كشعب فلسطين الأعزل المسكين الصامد في وجه ابرتهايد الصهيونية البغيضة هذي أكثر من سبعين سنة وزيادة ?

إشترك في قائمتنا البريدية