عرفت القصيدة العمودية في المشهد الشعري اليوم «انتعاشا» ملحوظا في العقدين الأخيرين، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية؛ إذ باتت تؤرخ لعودة جديدة، وزخم جديد، وبالتالي تحاول أن تستعيد موقعها داخل المشهد في معظم البلاد العربية؛ كأن نبوءة الشاعرة نازك الملائكة تتحقق على أرض الواقع، التي أطلقتها في لحظة يأس عارمة: «وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها». للاقتراب من دلالات هذه «العودة» وفهم أسبابها الأساسية، طرحنا على ثلة من الشعراء والنقاد سؤالا من شقين: هل تجسد هذه القصيدة من خلال عودتها اليوم ارتدادا جماليا على صعيد الكتابة الشعرية؟ أم كونها عادت ردا على أزمة الشكل التي يتخبط فيها شعرنا المعاصر؟
الشعر هو الشعر: عمر شبانة (شاعر فلسطيني)
ابتداء لا بد من رفض التفريق بين أشكال القصيدة، عمودية كانت أم قصيدة نثر، فالشعر هو الشعر. والشعر أولا بصرف النظر عن شكله وصورته وأوزانه. وليس من المبالغة القول إن الشاعر القدير هو من يستطيع الكتابة بالأشكال والصور كلها. فالكثير من شعرائنا بدأوا تجربتهم بكتابة قصيدة الشطرين، ثم انتقلوا إلى قصيدة التفعيلة، قبل أن يكتبوا قصيدة النثر، واستمروا يكتبونها حتى تميزوا بها. لكن ثمة من لم يكتبوا بالأوزان أبدا، ومع ذلك لا يمكن إخراجهم من دائرة الشعر. المقصود أن الشعر لا يمكن حصره في مقولة «الموزون والمقفى» التي حددها الأسلاف للشعر.
أما السؤال عن «انتعاش» للقصيدة العمودية، فهو لا يحيل على ظاهرة ذات خصائص وسمات محددة وراسخة، بل ربما على حالات فردية متناثرة هنا وهناك. وقد لحظت بروز تجارب شعرية شابة جديدة تكتب القصيدة ذات الشطرين بكفاءة عالية، من حيث إجادة الوزن، والمراعاة القديرة للقافية، دون أن تكون على حساب المعنى المقصود، وهذا شيء جميل ورائع بالنسبة إلى ذائقتي. أستمتع بهذا الشعر الموزون والمقفى، ذي الشطرين، ما دام قادرا على التجديد، والتعبير عن هموم الشاعر اليومية، وعن هواجسي وأسئلتي. لا أعتقد أننا أمام أزمة، فكل محاولات التجديد مشروعة، وهي طبيعية ضمن مشاريع تطوير القصيدة العربية، مثلما كانت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، والآن لا أعتبرها عودة إلى القصيدة العمودية، بل هي استئناف لهذا الشكل وتجديد له.
ثمة من لم يكتبوا بالأوزان أبدا، ومع ذلك لا يمكن إخراجهم من دائرة الشعر. المقصود أن الشعر لا يمكن حصره في مقولة «الموزون والمقفى» التي حددها الأسلاف للشعر.
أقرأ لشعراء وشاعرات من الجيل الجديد قصائد «عمودية» جميلة، فما الذي يمنع أن يكتبوا بهذا الشكل؟ إنهم لا يصارعون أشكالا أخرى، بل يجيئون بمقترحاتهم الشعرية «العمودية» لكنها في روحها ليست عمودية، ليست «خليلية» الانتماء من جهة الروح، بل عمودية الوزن فقط، وهو ما يمنحها هوية جديدة وعصرية معا. من هنا، لا أشاطر القائلين بوجود أزمة في الشعر العربي المعاصر، إننا حيال تجارب مختلفة، ومتعارضة، ونحدد الخلاف في النظر إليها، لكنها جميعا أجنحة لهذا الشعر. ودعوني أضرب مثالا بسيطا بثورة الشعر الأوروبي، فهل كان رامبو شبيها لبودلير، وهما المثالان الساطعان في ثورة الشعر الفرنسي الأوروبي؟ وفي شعرنا العربي، هل كانت القصيدة العمودية لدى أبي نواس هي نفسها قصيدة امرئ القيس وعمرو بن كلثوم؟ وحتى اليوم، نجد داخل قصيدة محمود درويش ذات التفعيلة مقاطع «عمودية» ولا أجد مشكلة. القصيدة العربية تخوض مخاضاتها، لا تنظر إلى السائد والشائع في «السوشال ميديا». فهي خادعة. وليست مثالا.
لا يوجد شكل شعري أبدي: هاتف جنابي (شاعر عراقي)
يتكرر «الارتداد» كسلوك لدى الأفراد والجماعات لقناعات معينة في مجالات مختلفة، ويكاد بذلك يغطي مساحات من الأفكار والمعتقدات، والأشكال والأساليب في الأدب والفن، والشعر على وجه الخصوص، ليس في منأى عن ذلك. جيلنا من الشعراء والنقاد والدارسين يتذكر جيدا «ارتداد» أو «نكوص» الشاعرة نازك الملائكة (منذ منتصف الخمسينيات) عن «قصيدة التفعيلة» التي نادت بها من خلال العودة إلى القصيدة العمودية، مقابل حرص زميلها الشاعر بدر شاكر السياب ودفاعه عن الشكل الجديد حتى رحيله سنة 1964. من جانب آخر، هناك شعراء تمردوا على القصيدة ذات الشطرين أو العمودية و»قصيدة التفعيلة» التي مارسها الشعراء الرواد عن طريق ممارسة «قصيدة النثر» كما حصل في شعر أنسي الحاج، وقسم من شعر محمد الماغوط، ومن جاء بعدهما من الأسماء المعروفة.
ومن هنا، فلا مناص أمامنا سوى الاعتراف بأن التجارب الشعرية في نطاق «قصيدة التفعيلة» شأنها في ذلك شأن تجارب «القصيدة الحرة» و»قصيدة النثر» لم تكن ولن تكون في المستوى ذاته، فهناك الشعر الغث الهزيل وهناك المتوسط الجودة وثمة القليل المتوفر على شروط الإبداع الشعري لغة وتركيبا، وأسلوبا، وأحاسيس، وفكرا. ولو تأملنا في تجارب شعراء اللغة العربية للاحظنا أن الشعراء ينقسمون على الوجه الآتي: فئة تمارس القصيدة العمودية حصرا، وثانية تمارس القصيدة القائمة على «التفعيلة» وأحيانا القصيدة العمودية، و»قصيدة النثر» وثمة فئة ثالثة لا تخرج عن نطاق «قصيدة النثر» و»الشعر الحر».
هناك إبداع حقيقي مقابل ممارسات تفتقد إلى الموهبة والاجتهاد والتميز، نجدها في الأشكال الشعرية العربية والعالمية كافة. شخصيا، أرى أن الأوضاع العربية الملتبسة لا تسمح لنا بصياغة نتائج دقيقة منصفة وتعميمها.
الذي يحدث أحيانا هو أن يعود بعض الشعراء من الفئة الثانية لممارسة الشكل التقليدي، وكأنهم يوحون بـ»ارتداد» فعلي أو ربما مؤقت، وهذا هو الذي دفع – حسب اعتقادنا- الصديق الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري لطرح هذا الاستفتاء الضروري. وإلا فما هي مشروعية السؤال عن طبيعة الشكل الذي تمارسه الفئة الأولى عن قناعة موروثة؟ لو توقفنا قليلا عند حقيقة مفادها أن الحديث عن الأشكال الشعرية اليوم في الآداب الأجنبية لا يحظى بأهمية خارج نطاق التاريخ الأدبي، نظرا لندرة الممارسات الشعرية المعاصرة القائمة على الأشكال الشعرية المتوارثة. وعليه فأي إحساس بـ»انتعاشة عمودية في المشهد الشعري العربي» قد تكون نابعة من شعور بالخذلان من جانب، ومسايرة الذوق العام، الذي ما يزال تقليديا في جله من جانب آخر، أو لتمرس هذا الشاعر أو ذاك في التعبير بالشكل التقليدي الموروث دون سواه. هناك شعراء عموديون مجيدون لا يمكنهم الكتابة بالمستوى نفسه خارج نطاق الشكل الشعري الموروث، تقابلهم فئة مجيدة من جماعة الشعر القائم على «التفعيلة» ممن لا يحسنون كتابة الشعر العمودي، وأخرى غير قليلة العدد تمارس «قصيدة النثر» لكن تفتقد إلى معرفة الأوزان تماما. عموما، لا يوجد شكل شعري أبدي. كل «شاعر» من حقه أن يمارس الشكل الذي يرتاح إليه، لكن بشرط أن يكون منطلقه إبداعيا وليس «ارتداديا»- تحت غطاء الدفاع عن التراث ليس إلا.
هناك إبداع حقيقي مقابل ممارسات تفتقد إلى الموهبة والاجتهاد والتميز، نجدها في الأشكال الشعرية العربية والعالمية كافة. شخصيا، أرى أن الأوضاع العربية الملتبسة لا تسمح لنا بصياغة نتائج دقيقة منصفة وتعميمها. وإلا فهل صورة المرأة في الحياة العربية العامة، وهيئتها كممثلة في السينما راهنا مثلا تشبه تلك التي كانت عليها في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مثلا؟ كانت الفنون والحياة الاجتماعية أكثر تحررا مما هي عليه اليوم. ومن هنا بماذا نفسر ما يجري، هل هو «انتعاشة» تراثية أو «تقهقر» و»نكوص» اجتماعي وعقلي وثقافي؟
تعايش الأشكال: سليمة مسعودي (شاعرة وناقدة جزائرية)
لقد سار الشعر الكلاسيكي الخليلي على رتم إيقاعي معين يعتمد على واحدية الوزن والقافية والروي، كما اعتمد على المعاني الجاهزة المطروقة، وراعى جماليات الصورة البلاغية المعتادة، فكان شعر جمهور، وكانت العلاقة بينه وبين جمهوره تفاعلية مباشرة. واستمر على هذا النمط لعهود طويلة إلى أن بدأت ملامح التجديد تظهر شيئا فشيئا بظهور الموشحات، ثم الشعر المنثور والمرسل، التي ازدهرت مع الرومانسيين، ليمتخض عنها شعر التفعيلة، ثم ظهرت قصيدة النثر ليتغير منحى الشعر، فخرجت عن تقاليد المعاني الجاهزة والأوزان وصور البلاغة، بتغير المنحى الفلسفي والرؤيوي للشاعر، ثم ظهرت الكتابات الشذرية لتؤكد أن أرض الشعر ليست قارة ثابتة، وأنها في تحول مستمر.
أما العودة إلى القصيدة الخليلية خصوصا في العقدين الأخيرين من هذا القرن، فلم تكن على حساب الأنواع الأخرى، إذ يشق كل نوع مجراه الخاص، وفق قناعات الشعراء واتجاهاتهم، لكن اللافت للانتباه في القصيدة الخليلية المعاصرة هو التحول الكبير الذي شهدته بدورها على مستوى فلسفتها الرؤيوية، التي اتسعت لتحتوي ما يزدحم في راهنها من موضوعات، فخرجت عن ضيق نسق المعاني الواضحة الجاهزة، واستطاعت استيعاب مختلف التصورات الفلسفية مهما بلغت من العمق والتعقيد، كما شهدت هذا الاتساع على مستوى آلياتها الجمالية، التي استفادت من تحولات العصر، بتطويع جميع فنون الصورة لمقدرتها التخييلية، وتوظيف عناصر السرد والدرامية، واستلهام مختلف آليات التجريب التي نجدها في الأنواع الشعرية الأخرى، وتوظيف مختلف المعارف والفنون داخل النصوص الشعرية بعد تطويعها لشعريته، دون أن يقف الوزن حاجزا أمامها، مؤكدة أنها مطواعة لمختلف الأزمنة وسياقاتها الثقافية والجمالية.
ما نشهده من عودة قوية للقصيدة الخليلية لا يمكن أن نعده ارتدادا جماليا، بل تطورا نوعيا، حدث في تكوينها الجيني، يحثها باستمرار على اكتشاف قدراتها الجمالية التي تتجاوز بكثير ما صنف لها من تقاليد عمودية، إن صح القول – نسبة لعمود الشعر (المروزقي) وهو الذي كان مدعاة عند شعراء الحداثة للخروج عنها وعنه معا.
ما نشهده من عودة قوية للقصيدة الخليلية لا يمكن أن نعده ارتدادا جماليا، بل تطورا نوعيا، حدث في تكوينها الجيني، يحثها باستمرار على اكتشاف قدراتها الجمالية التي تتجاوز بكثير ما صنف لها من تقاليد عمودية، إن صح القول – نسبة لعمود الشعر (المروزقي) وهو الذي كان مدعاة عند شعراء الحداثة للخروج عنها وعنه معا، خصوصا أن أغلب ما كتب في القرن العشرين على نسقها كان تقليديا في وعيه الشعري وإمكاناته، لكن هذه العودة القوية بالروح الجديدة للشعر الخليلي تأكيد على أن الوزن لا يمكن أن يضيق بالشاعر المعاصر وفي إمكاناته الرؤيوية والجمالية، لقد جعلت منه نصا يبتعد كل يوم عن الكلاسيكية، ليجدد فيه عروق الحياة. وفي الآن نفسه لا يمكن أن نعتبر العودة إلى القصيدة الخليلية، جاءت ردا على أزمة الشكل التي يتخبط فيها الشعر المعاصر، بل على العكس من ذلك لم يجد هذا الشعر اتساع مدى ممكناته التشكيلية الجمالية، مثلما وجدها في هذين العقدين الأخيرين، ولم يتح لنفسه منها مثلما أتاحه فيهما، وعلى صعيد مختلف الأنواع فيه، هذه التي تتعايش جنبا إلى جنب، رغم التنافس والصراع الذي ينشب أحيانا بينها، والذي خرج عن طبيعته القديمة كصراع أجيال، ليكون صراع حساسيات شعرية، تتنافس من أجل البقاء، دون أن يتسبب أحدها في موت الآخر، من منطق أن البقاء هو دائما للأصلح، في حين أن ما ينتج عن رماد الصراع هو عنقاء جديدة تضيف لكل نوع عمرا جديدا، مزودا بخلايا وميكانيزمات تمنحه طاقة الاستمرار والتنافس يوما بعد يوم.
عودة المنبرية: حكمة شافي الأسعد (شاعر وناقد سوري)
ليس بالضرورة أن يكون هذا الارتداد جماليا، وإن كان كذلك في كثير من النصوص العمودية الجديدة، لكنه لا ينطبق على الظاهرة في العموم. العوامل الموضوعية كان لها دور كبير في ما تصفه بـ»الانتعاش»؛ وأهمها البرامج التلفزيونية، والمهرجانات الشعرية؛ فهناك دورٌ رسمي ما ساعد في توجيه الشكل، وأوحى أن الشكل العمودي هو أحد أسباب الظهور الإعلامي الذي يطمح إليه الشاعر، وأحد أسباب الدعوة للمشاركة في المهرجانات الشعرية، وهذا دقيق إلى حد كبير مع الأسف، إضافة إلى ذلك هناك تسخيف كبير للأشكال الأخرى، ساعده تراجع قصيدَتي النثر والتفعيلة وعودة المنبرية بشكل واضح بعد ثورات الربيع العربي، وهي عودة ترافق حاجة الشارع إلى صوت إيقاعي عالي النبرة، وهنا كان دور وسائل التواصل مهما في حمل الصوت والإيقاع؛ فالصوت الهامس يبقى هامسا أو يتلاشى في المعركة.
لكن علينا الانتباه إلى أن هذا «الانتعاش» كان إيجابيا في جزء كبير منه، فهناك تجديد كبير على القصيدة العمودية، في التصوير والمعالجة والبنية والتكثيف، وأدى هذا «الانتعاش» إلى ظهور جيل جديد مختلف سيكون له دور مهم في الشعر العربي الحديث، وقد يكون ذلك كله تمهيدا لظهور شعر مختلف، وربما لظهور شاعر مختلف في السنوات المقبلة.
مقاومة الحداثة: سامح محجوب (شاعر مصري)
لنسلم بداية أن الشعر ليس واحدا، وأنه محكوم طيلة الوقت بسياقات ثقافية وجمالية تكرس لها الذاكرة العربية التي لا تتجاوز ذاتها إلا بصعوبة بالغة وفي أضيق الحدود، لأسباب كثيرة ربما يكون من بينها ارتباط الشعر – بشكلٍ أو آخر- بلغة وثقافة ومجتمع المقدس؛ الأمر الذي يدفع البعض لمقاومة الخروج عن السائد والمألوف بضراوة الذي يقاوم خروجا عن القيم والأخلاق. يبدو هذا بوضوح في الكم الهائل من المسابقات والجوائز التي أطلقتها بعض الدول والجهات في الثلاثين عاما المنصرمة، التي تفرض شكلا وموضوعا شعريا معينا ضاربة عُرض الحائط بكل ما أنجزه الشعر العربي من مسافات طويلة من الجماعة إلى الذات، ومن القصيدة إلى النص، ومن الموضوع والغرض الشعري إلى التجربة. هذا إلى جانب التكريس لثقافة ومجتمع المانح الذي ينفق بسخاء لتعطيل حركية الحداثة، لكونها تعمل على تعزيز قيم الذاتية والفردية التي تعري بالضرورة شمولية وسطوة الجماعة. من هنا، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون الارتداد للقصيدة العمودية ارتدادا جماليا، خلق بشكل طبيعي في رحم الشعر الفن الذي يطور نفسه ذاتيا، والذي يحافظ على نوعه فى أي شكل على حد تعبير نيتشه.
العودة إلى القصيدة العمودية ليست ارتدادا بالمعنى السلبي، إلا في استجابة الشعراء لوضع ثقافي طارئ حول القصائد، إلى نظم يكون فيه الإيقاع مركزيا وغاية في ذاته.
فوضى المشهد: الطيب هلو (شاعر وناقد مغربي)
أول ملاحظة أود الإشارة إليها أن الشعر العربي، طيلة القرن العشرين وإلى الآن، لم يعرف استقرارا فنيا؛ حيث تتجاور في اللحظة ذاتها أشكال شعرية عديدة، من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، ومن قصيدة النثر إلى الكتابة الشذرية وشعرية الهايكو، بل قد نعثر على أكثر من شكل شعري، وبالأخص على مستوى النمط الإيقاعي، في الديوان الشعري الواحد أحيانا، ما يكشف عن حالة من التذبذب والتردد يعرفها شعرنا المعاصر، ويقدم صورة واضحة عن عدم الاستقرار الجمالي على نمط معين، وقد يكون هذا «الارتداد» ناجما عن رغبة ذاتية في التجريب، ما يصيب الراهن الشعري بالتشظي والفوضى، ما يجعل التوصيف النقدي لهذا الراهن متعذرا. ولعل تجربة نازك الملائكة في نكوصها أمام التحولات الشعرية التي فاقت توقعاتها النقدية، وتجربة بدر شاكر السياب في «الارتداد» إلى القصيدة العمودية في أعماله الشعرية الأخيرة، يمنح شرعية لكل من لا يزال يراوح مكانه الشعري بين أنماط مختلفة مسكونا بهاجس الوزن. أضف إلى ذلك أن هذا «الارتداد» ساهمت فيه المسابقات الشعرية العربية، مثل «أمير الشعراء» و»شاعر البردة» وغيرهما من المسابقات التي تشترط التزام هذا النمط الإيقاعي على المشاركين، فخُلقت بذلك حالة شعرية غير طبيعية، تستجيب للطلب أكثر مما تستجيب لواقع شعري ينسجم مع الأفق الاجتماعي والرؤية الثقافية التي نعيشها.
بالنسبة لي، أرى أن هذه العودة إلى القصيدة العمودية ليست ارتدادا بالمعنى السلبي، إلا في استجابة الشعراء لوضع ثقافي طارئ حول القصائد، إلى نظم يكون فيه الإيقاع مركزيا وغاية في ذاته، أو إلى اجترار نصوص قديمة وتقليدها حد السرقة أحيانا، وإنما هي في الجزء الفردي (الاختياري) منها تعتبر – في رأيي- حالة انتعاش صحية في مواجهة حالة التسيب الشعري والفوضى التي سببها الفهم الخاطئ لقصيدة النثر، ما فتح المجال واسعا أمام ضعاف الموهبة والمتشاعرين ليعيثوا في الساحة الشعرية فسادا، وليملؤوها ضجيجا، وليحجبوا النصوص الجيدة التي أنتجتها هذه القصيدة التي تسير إلى قارئها دون الاتكاء على نظام الإيقاع الصارم.
كاتب مغربي
شكرا الأستاذ الوراري على توضيحاتك في المقال ..
.
لعل أي مفتري العلم بشيئ من الشعر .. مثلي .. سيجد ضالته ههنا .. و يفهم امورا كثيرة ..
.
لكن الأمر قد يكون مستعصيا على البعض .. مثلي .. لكنه يبقى ممكنا .. مع شيئ من الارادة .. و الخيال .. ?
.
هذا .. و تبقى القصيدة العمودية تفرض ذاتها و جمالها في ساحة الكلم .. بشخصيتها القوية .. المتميزة.
.
شكرا لك على تفاعلك مع قرائك بتتمة و توضيح .. و مزيدا من العطاء ..