نخلة علي الجندي

حجم الخط
1

في العدد 2، شباط (فبراير) 1972، نشرت مجلة «الآداب» اللبنانية قصيدة بعنوان «النخلة» للشاعر السوري علي الجندي ((1928-2009)؛ قد يصحّ أن تُستعاد اليوم بوصفها أحد أوضح النماذج على سلسلة سمات طبعت الشعر السوري الحديث، والحداثي، خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، في مستويات المضمون والشكل عموماً، وكذلك في «سمة العصر» السورية إذا جاز التعبير. كان شعراء من أمثال الجندي، صحبة ممدوح عدوان وعلي كنعان وفايز خضور ومحمد عمران ومحمود السيد وخالد محي الدين البرادعي وسواهم، أبناء انتماءات (متفاوتة الدرجة والعمق والوضوح، غنيّ عن القول) إلى فئة المثقف، الفلاح أو المديني البرجوازي الصغير، حامل مصائر طبقة توهمّت أنّ خياراتها الإيديولوجية مخوّلة باحتكار تمثيل الوجدان السوري، والنيابة عن الاجتماع الوطني بأسره، وليس «العمال والفلاحين والكادحين» وحدهم. وتلك، كما يتوجب التذكير، عقيدة كانت قد بدأت من مَزْج القومي بالميتافيزيقي، ومؤاخاة المثالي الفيختوي بالسوبرمان النيتشوي، لتُسقط على العربي صفة «سيّد القدر»، حسب التعبير الشهير الذي نحته زكي الأرسوزي أحد الآباء المؤسسين لحزب البعث.
ورغم أنّ الجندي، ساعة نشر «النخلة»، كان قريباً من حزب البعث أسوة بكثير من أدباء تلك الحقبة، وكان قد شغل مواقع متقدمة في مؤسسات السلطة الإعلامية واتحاد الكتّاب؛ فإنّ عناصر مثل مزاجه الأبيقوري الشخصي وخاصة تحويل اللذائذ الحسية إلى فلسفة وجود يومية، وانتهاج سلوك بوهيمي طليق أقرب إلى العفوية، تكاملت مع نزوعه العميق إلى التجديد الشعري. في الوسع إنصاف خياراته السياسية خلال تلك الفترة، من حيث أنه كان أقرب إلى «يسار» حزب البعث من زاوية التمسك بالحداثة والمعاصرة على الأقلّ. وحين نُشرت «النخلة» لم يكن حافظ الأسد قد أجهز على رفاقه في الحزب عبر الانقلاب المسمى «الحركة التصحيحية»، غير أنّ قراءة القصيدة ضمن منهجية تفكيك تتوسل ما وراء الدلالات غير المباشرة، والكثير من تلك المباشرة أيضاً، تقود إلى واحدة من أخطر سمات شعر الستينيات والسبعينيات في سوريا. تلك السمة كانت حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم… خلاصة صفات الممثّل الحقّ للخريطة الشعورية التي رسمت تضاريس المثقف البرجوازي الصغير السوري، اليساري أو القومي أو الوجودي (في المصطلح السارتري لتلك الأيام)، والحداثي استطراداً. الأرجح أنّ تلك العناصر، متشابكة متلاطمة في عباب عقيدة مختلطة المكوّنات، فضلاً عن طراز حياة حسّية صاخبة ومنعتقة من الكوابح، دفعت الجندي إلى فتح قصيدته بهذا الاستهلال الفظيع: «أثمري أيتها النخلة لو حشفاً وزقوماً/ فقد روّعنا عقمك منذُ/ أمطري ناراً، عصافير من الشوك، دبابيس/ عظاماً أو بغايا/ أمطرينا بالبقايا/ أو… بروث الإبل». ويختمها هكذا: «واقتربنا – يا لهول الصدمة الكبرى -/ رأينا نخلة ناحلة اللون، رأينا نخلة يابسة من ألف عام/ نخلة: لا جذر، لا خضرة، لا شيء…/ صليباً من… رغام!»

انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم… خلاصة صفات الممثّل الحقّ للخريطة الشعورية التي رسمت تضاريس المثقف البرجوازي الصغير السوري، اليساري أو القومي أو الوجودي، والحداثي استطراداً

ولأنّه أهدى قصيدته إلى «خليل حاوي: الرائد»، الشاعر اللبناني الذي زرع في العميق من ذائقة الجندي بشائر خيارات مريرة كسيرة في مجموعات مثل «نهر الرماد» و»الناي والريح» و»بيادر الجوع»؛ فإنّ منطقاً لافتاً من التوازي الرثائي كان يتكامل بين السوريّ الفيختوي، الخائب أمام نخلة لم تسفر إلا عن صليب من رغام؛ وبين اللبناني المنتمي إلى الحزب القومي السوري، ولكن الفيختوي بدوره، الذي طالب الحفّار أن يعمّق الحفرة حتى لا قرار لها: «شارع تعبره الغولُ/ وقطعان الكهوف المعتمة/ مارد هشَّم وجه الشمس/ عرَّى زهوها عن جمجمة/ عتمة تنزف من وهج الثمارْ/ الجماهير التي يعلكها دولاب نار/ وتموت النار في العتمة/ والعتمة تنحلُّ لِنار». كلاهما كان رائداً، في ظنّ هذه السطور، وكلاهما لم يكن ليكذب أهله في تشخيص آلام الجرح النرجسي لمشاريع شعرية رفيعة الطموح، مكبّلة في الآن ذاته بهزائم جَمْعية سياسية وعقائدية.
أوّل مظاهر ريادة الجندي قد يكون نجاحه في إقامة الصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل «الشعر الحرّ» أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، ذات الميول السوريالية؛ ثمّ الحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط وأدونيس. وكان الجندي قد بادر إلى الكشف عن قصائده الحداثية الأولى غير غافل عن، بل لعله تقصد مناوشة، الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة؛ سواء في شعر مجايلين أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن؛ أو السطوة الكلاسيكية المتجذرة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد، من جيل الكبار السابق. ثاني مظاهر الريادة كان الاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة ضخصية)، في سيولة التفاعيل؛ والنأي بالذات عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، المدهش في الواقع، من طوق أدب الالتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً.
خمسون سنة مرّت على «النخلة»، إذن، وسوريا علي الجندي، في نظام آل الأسد، أكثر احتشاداً بزقوم الاستبداد، وبصلبان من رغام !

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول واجئ النقطاء العتوفين:

    الشاعر الحقيقي قد يكون رائيا ومُبْصِرا وموحيا إلخ – هذا صحيح
    ولكن الشاعر ، بهكذا توصيف، بعمره ما كان «عرَّافا»، أو ما شابه،
    كما جاء في عبارة التصدير بنحو يقيني، وإلا دخل بامتياز في خانة «المنجّمين» –
    وسواء صح أم لم يصح ذلك القول «القطعي» الشهير الذي يقول:
    «كذب المنجمون ولو صدقوا» !!؟

إشترك في قائمتنا البريدية