مصر بين تبريرات معلنة وأجندات غامضة

كثرت مبررات الحرب المعلنة ضد مصر؛ دعما للعاملين على إسقاطها، وتحويلها إلى دولة فاشلة تتيح الفرصة للتدخل. والتبريرات المعتمدة أحادية الجانب؛ تركز على عامل واحد هو ظلم الحكام للمحكومين، ويتجاهل باقي العوامل، وإن بدا ذلك ساذجا، فهو يصدر عن عَمْد وإصرار لإبعاد الأنظار عن مخططات حقيقية موضوعة للحرب. ولا ينكر أحد وجود ظلم سياسي، لكن أن يكون وحده بضاعة معتمدة ومستهلكة للمليشيات الألكترونية وكتائب «الحرب النفسية»؛ المعتمدة من المحرضين على «حروب الجيل الرابع» المقوضة للمجتمعات والدول، وتوظيفها لتجديد الهيمنة على مصر والوطن العربي، وإقامة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير؛ وكأن المحرضين قد بلغوا ببلادهم إلى ذرى التقدم في مجالات السياسة والحكم والحريات، ولم يبق لهم غير تصحيح علاقة يتصورونها مختلة بين الحاكم والمواطن في مصر!!.
ويبدو أنهم حرروا الوطن العربي من الوجود الصهيوني الاستيطاني الذي اغتصب أرض فلسطين وبعض ما يحيطها من أراضي العرب؛ حرروه دون علم أحد، أو أنهم أجْلوا القواعد العسكرية الأجنبية عن أراضيهم، وساعدوا مواطنيهم على الاستقرار والعيش في بحبوحة، أو أن التعليم عندهم قدم للإنسانية علماء ومخترعين ومفكرين وأدباء وفنانين ومبدعين وقوى قادرة على العمل والإدارة والإنتاج والتنظيم، وأن القانون عندهم يساوي بين مواطنيهم، وولى الفقر عندهم إلى غير رجعة، ولم يبق بينهم جائع ولا محتاج أو عريان أو متسول، وعمموا الخدمات الصحية المجانية على الجميع، ولم يبق على أجندتهم إلا مواجهة الحريات السياسية والاستبداد المصري!!.
إن الواقع أعقد من هذه التبريرات الأحادية، فمن يحرض على القتل والتنكيل.. ماذا يفعل بأهل بيته وأبناء عشيرته؟ فالعنف يبدأ من البيت، والأهل، ويتدرج حتى أعلى سلطة. ويجب رؤية الأشياء على حقيقتها، وعلى المحرضين البحث عن مبررات أخرى.. ويحق لنا أن نسأل من هيأ البيئة التي فرخت ما نحن فيه من بلاء؟، ومن الذي رعى وتكفل بدعم المحرضين على الفتنة والحرب؟ ومن ذلك الـ»نيرون» الذي يستمتع بحرق الوطن العربي؟
لماذا لا يشار إلى الدور الأمريكي، وقد أدخل العالم كله في أتون المحارق والدمار، ونجح في تكوين ورعاية طبقات فاسدة وقوى متوحشة على مدى أربعة عقود، وأقام منهم حلفا شيطانيا؛ جمع تجار السلاح وأباطرة المال الطائفي والمذهبي والصفقات المشبوهة والأموال مجهولة المصدر؛ ووضعهم في خدمة الإرهاب، ومدهم بمعاونين وطابور خامس من شيوخ الفتاوى «المسرطنة» ومداحي الملوك والحكام؛ ممن تخصصوا في تشويه العقائد الدينية والاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية، وفي تزييف الوعي وتغييبه، وتحسين وتجميل كل ما هو استعماري وصهيوني، وجعل هذه الطبقات والقوى رغم قلة عددها الأكثر تأثيرا، وصنع منها جسرا لعبور مصالح وقيم صهيو غربية؛ لتخترق عقل المواطن وتسمم أفكاره!!.
وإن كانت ثورتا تونس ومصر تحديدا قد خلخلتا البنى التحتية للاستبداد، ورغم عدم اكتمالهما لكنهما أحدثتا طفرة في الوعي الجمعي، وعطلتا تنفيذ الخرائط الجديدة للمنطقة، وما زالت متعثرة ولن تمر بسهولة بعد أن تم التخطيط لها بعناية قبل 2011..
هناك مؤشرات قد تقلب السحر على الساحر. حيث يُلاحظ أن هيمنة الولايات المتحدة في تراجع، وضاع منها كثير مما حققته بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سدى، ولم تحل حروبها دون ظهور قوى كبرى تناوئها وتواجهها، وحتى الوطن العربي الذي تجف فيه ينابيع الاستقرار والأمان استرد كثيرا من وعيه، ولم تمنع «الفوضى الخلاقة» من التوجه نحو الصين والهند واليابان وروسيا، ولم توقف تعاظم قوة ايران، والاحتمالات مفتوحة أمام مصر والجزائر لتصبحا من القوى الإقليمية المؤثرة وتعوضا غياب العراق وتعطيل دور سوريا.
لم يعد حلفاء واشنطن التقليديون في الجزيرة والخليج العربي آمنين بعد انسحاب أمريكا من العراق، وزيادة النفوذ الإيراني فيه. فأعادوا حساباتهم ودخلوا في تحالفات دولية وعربية بديلة، وأجرت دولة الإمارات العربية مناورات عسكرية مشتركة مع مصر، وكذلك فعلت السعودية. بجانب ما تمثله روسيا الاتحادية من تحد للوجود الأمريكي في أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق وغيرها في آسيا الوسطى، وانفتاحها على إيران ومصر واستمرار ضغطها من أجل حل سياسي في سوريا، ووجد هذا تأييدا قد يُقرب يوم الخلاص من ميراث العنف الامريكي الذي يعاني منه العالم!.
ويبدو أن واشنطن بدأت مرحلة الأفول، وطبيعة المعارك فيها ضارية، ولا تقدم أمريكا لحلفائها غير الحديد والنار والموت المجاني، والضغط الاقتصادي والاستنزاف المالي، وتتخلى عنهم لحساب ملوك طوائف وشيوخ فتنة وطابور خامس؛ ينوب عنها في ملماتها الكثيرة. وتبدو وقد عجزت عن مواجهة إيران، بما لا يمكنها من المغامرة في مواجهة مع الصين أو روسيا، وبدت أضعف من المجازفة بإشعال النار في حديقة روسيا الخلفية في اوكرانيا.
ومن المعتقد أن حروب الجيل الرابع لن تكون كافية لتعزيز الهيمنة الأمريكية، أو إبقائها في مستواها الراهن، خاصة وأن مصر تتحرك حثيثا من التبعية إلى الاستقلال، بعد أربعين عاما من منح أمريكا 99٪ من أوراق العمل في الداخل والخارج، و»الحراك» المتجدد بين المصريين ينبئ بخسارة متوقعة لواشنطن في مصر في ظل الأوضاع الحالية!.
إذن هناك متغيرات كبرى، تشير إلى بداية أفول نجم امريكا، وقد ظهرت على تخومها قوى كبرى؛ في أمريكا اللاتينية، ويبدو أنها تلعب بأوراقها الأخيرة، وتضغط بورقة «التسويات السياسية» من أجل السماح للجماعات والمليشيات المذهبية والطائفية المسلحة بالمشاركة في الحكم؛ دون حساب أو عقاب، وبغير اعتذار عن إزهاق الأرواح البريئة والتخريب الذي حدث للمنشآت والمرافق العامة وتدميرها.
وحروب الجيل الرابع بدأت ضد جماعات ومنظمات إرهابية، وتوظف حاليا لاستمرار الهيمنة الأمريكية على المنطقة؛ مع ما في ذلك من تناقض في موقف النظام الرسمي العربي المحتضر، وهو يعول على واشنطن في الحرب ضد الإرهاب.
وهذه الحروب تعتمد على جماعات إرهابية ومليشيات وافدة من أنحاء العالم؛ وتمثل طورا متأخرا من أطوار حروب الجيل الأول فيما بعد الحرب العالمية الثانية حتى حرب 1973، وإن تداخلت معها حروب الجيل الثاني التي جاءت في صورة «حروب عصابات» بدأت في ستينات القرن الماضي، في دول آسيا وأمريكا اللاتينية، واستخدمت فيها الأسلحة والدبابات والطائرات بين الجماعات المسلحة والدول المتحاربة.
وكانت حروب الجيل الثالث وقائية واستباقية، واستخدمت ضد العراق؛ مستفيدة من خبرة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، واتصفت بالمرونة وسرعة الحركة والمفاجأة واختراق خطوط العدو وحصاره.
وحروب الجيل الرابع اختراع أمريكي صرف، ومعروفة بـ»الحرب اللا متماثلة» بعد ما وجد الجيش الأمريكي نفسه يواجه اللادولة في 11 أيلول/سبتمبر 2001، ويتلقى الضربات من جماعات محترفة ومنتشرة في العالم، وتملك إمكانيات كبيرة وخلايا نشطة هددت وجود الدولة ومرافقها الإقتصادية وخطوط مواصلاتها وعملت على إفشالها وهزت صورتها أمام الرأي العام، وضغطت لإرغامها على عدم التدخل في مناطق نفوذها والانسحاب منها.
والمثال الواضح كان تنظيم «القاعدة» وتبعه تنظيم «داعش»؛ المتوقع له أن يضعف، وقد نشرت مواقع ألكترونية أنه أصبح مستهدفا من تنظيم «خراسان» الأكثر تشددا ودموية، وتشكل من دمج «داعش» الأفغانية بـ»داعش» الباكستانية بمنطقة الحدود مع إيران، ويعمل على إشعال الاقتتال السني الشيعي، والانتقال به إلى الحدود العراقية السعودية.
ومثلما ولدت «داعش» من رحم «القاعدة»، يخرج «خراسان» من رحم «داعش». وتشير نفس المواقع إلى أن واشنطن الوحيدة التي أعلنت خلال طلعاتها الجوية ضد «داعش» في العراق وسوريا؛ أنها وجهت ضربات قاتلة ضد تنظيم «خراسان»، وذكرت أن واشنطن لا يمكن لها أن تعلن عن وجود تنظيم وهمي وتصفه بـ»الاشدّ خطورة من داعش».

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول hamad:

    تحياتي للكاتب
    مررت سريعا على نظام السيسي ودرت بنا في مقالك على من يتحدون سياسة الولايات المتحده محاولا الايحاء بان السيسي سيتحدى الولايات المتحده,لم تذكر كلمه كيف انحرف السيسي بعيدا عن الديموقراطيه الى دكتاتوريه لم نعهدها في مصر الحديثه وكيف تصرف السيسي بالاوال التي تلقاها وهو وزير للدفاع من دول الخليج وكيف قتل وسحل المصريين وكيف تلاعب بالقضاء المصري كما يريد وكيف ولماذا رحل وشرد اهالي رفح وكيف انه لم يوجه اي اتهام ولو كاحتمال بعيد لاسرائيل في تصعيد الارهاب ضد مصر….اكتفي بهذا لانه من الظلم للفكره ضم السيسي لقافلة من يتحدى امريكا .

إشترك في قائمتنا البريدية