لا يعتقد ناقدٌ لمجموعةٍ شعرية مهما بلغ إعجابه وافتتانه بها، أنّ نصوصها ستصل إلى درجة معاملتها كنصوصٍ مقدّسة، هذا إن لم نعتقد أن الشعراء الحقيقيين أنفسَهم لا يريدون لنصوصهم أن تكون مقدّسة حتى لو غالى أحد ألمع نجومهم مثل المتنبي بالقول عن قصيدته: أنامُ مِلء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جرّاها ويختصم.
وفي مقاربةٍ لهذا، يظلم بعض شعراء ما بعد الحداثة المميّزون قصائدَهم وإن كانت قصائد صغيرات تحت أجنحة القصيدة الأمّ، بإيرادها ضمن أرقام، محبِطين أحقيتها في نيل العناوين التي يحفظها القارئ ويستشهد بها عنها، كما فعل الشاعر السعودي عبد الله ثابت في وضع بنات قصائد مجموعته المميزة «جلبةٌ لتحريك الوقت»، تواضعاً ربما، ووجهة نظر أخرى له ربما، وهمساً لا يمكنه أن يمنع هذه القصائد الصغيرة من إثارة الجلبة في كل الأحوال. ليس لتحريك الوقت فحسب في سكونِ واستنقاعِ الحياة العربية ولغتها بقيمٍ تجاوزها الزمنُ وأصبحت تُكبّل أهلها عن التقدم إن لم تجرّهم إلى مذابح التأخّر عما هم فيه، وإنما لجعل عقارب الوقت مفاتيح للتنقل بين الأكوان المتوازية التي يفتحها العلم للخيال، وللطيران فوق أعشاش الوقواق، حيث يتكاثر لصوص الأعشاش، ويزحمون الحياة بنسل يقتل الحياة، كما يورد ثابت في القصيدة التي يخاطب بها جدّه البشري الحجري، المتبصّر، صانع الحياة بإضاءة كهفه بالنار في زمن جوعه، ومدمّرها بغزوه بعد الشبع.
«لكنّك لمّا شبعتَ اخترعت الغزاة!
خرجت كالتنين.
تحتطبُ الجذوع وأبوابَ الجيران،
أفزعتَ الوعول
ولوّثت الأنهار بالجيف،
ثم صمّمت آلهةً تشبهك،
واستغفرْتَها.. لتسامح نفسك على الدماء!
ثم من دهرٍ لآخر..
أنجبتَ عيالك السيئين،
وهاهم حتى اليوم يتوعّدوننا بالقبور المفتوحة!
يا جدّي الحجريّ..
يا وحشَ الشّواء».
في جلبته الهامسة لتحريك الوقت، يشكّل ثابت مجموعته في بنية بسيطة تتضمن أربع قصائد نثرٍ طويلة هي: (جوّ ملوّث.. وجوه مقعّرة ــ مناغاة فستانٍ أبيض في نزلٍ أزرق ــ عالقٌ في عدمٍ ــ متوالية الإنهاك)، ويقسم فيها كل قصيدة إلى أرقام لا تأخذ عناوين إلا في ثلاثةٍ من القصيدة الأولى: سبعُ مكائنَ قديمة لصناعة مكنسة ليلية، اليوميّون، كوميديا الشرفة، سهاد الطابق العلوي. كما يمنح القصيدة الثانية عنواناً واحداً لأرقامها يعبّر عن طبيعتها الحوارية: «تسأل الشهلاء.. وأجيبها من كوكب الفضة». ويمنح القصيدة الثالثة ثلاثةَ عناوين لثلاثةٍ من أرقامها هي: «كراهات الثانية عشر ظهراً، بيان الأوابد الأولى، أحزان اللاعب رديء الطالع». بينا لا تأخذ القصيدة الرابعة الأصغر من أخواتها، لأرقامها المعدودة بثلاثةٍ فقط أيّة عناوين. ويلجأ ثابت إلى فتح هذه البنية بتقديم مأخوذٍ من أحد قصائد المجموعة، بجملة: «كأسٌ أخرى.. بدلاً من لملمة الشرايين»، تعكس حالة الشاعر وفلسفته، ويتبع ذلك بإهداء يرتبط بأحد قصائد المجموعة التي تعكس فلسفته كذلك: «إلى الأوقات المريعة، إلى الشعور بالقرف، إلى الرغبة العارمة في الصراخ.. ماذا سنفعل صبيحة العدم».
وفي هذه البنية المثيرة للجلبة وإن همَستْ، يستطيع القارئ تلمّس وعيش طبيعة أسلوب ثابت في تكوين قصيدته، وتركيب جملها الشعرية، وفنّيات شعره، بمتعة عيش أحد الأشكال المميزة لشعر ما بعد الحداثة، وخصوصيات العبث والسخرية فيه، مع عيشه لعذوبة الأحلام وصدْمها في أسلوب الكتابة الآلية السوريالية. بالإضافة إلى عيشه لقصائد تبدو متشظّية في مرايا الوجوه التي تعكسها، لكنّها ما تلبث أن تتجمع بصورة عامة في داخله. كما يستطيع القارئ المتحلّل من المفاهيم المسبقة عن الشعر الاستمتاعَ بتركيب الجمل الشعرية وفق ما يفتح العلم من أبواب اللامعقول والدهشة، في سلاسةٍ إيقاعية قد تحرّكُها بدايةُ جملةٍ بالتفعيل، لإثارة حركة النفس، وتخفتُ الجملة نفسُها في نهايتها بعذوبة النثر لتنساب القصيدة جاريةً بإيقاعها الخاص بها.
باقتراب أكثر للَمْس صوت الجلبة، يمكن للقارئ أن يفتتح مع الشاعر مجموعته، بالدخول من بوابة عالم تنافس البشر بسُعارٍ ملوّث، في قصيدة «جوّ ملوّث، وجوه مقعّرة»، بروح التأمّل والتشافي، وباسم «يوغا»، الإنارة من مضمار العماء، من التزاحم والتنافس، بين البشر الذين لا يتبدّلون ولا تتبدّل طبائع سلوكهم، والأنكى عُقدُ جرّ غيرهم إلى ما هم فيه، لإراحة نفوسهم بالوهم: «تتربع «يوغا» في جمجمتي../ تحاول استخراج رأسي المتعبة من مضمار العماء،/ من الهرولة/ وسط هذا الكمّ المهول من البشريين.. ودفائِنهم المفزعة!/ في أرديتهم التي تفوح منها جيف التاريخ/ في سلالاتهم الملطخة بالدم والفضلات!/ وحتى في نوازع نميماتهم الصغيرة وفلتاتِ المزاح..»
مع صبّ لعناته في متضادة مع هذه القصيدة على السلبيين، مبتكري التأفّف اليومي، الذين يبثّون موجات التعطيل، «أولئك المستحقّين بجدارةٍ لأصناف الحريق، في مكانهم المفضّل، قاع الجحيم.»
ويمكن للقارئ الاسترسال في متعة عيش أسلوب ثابت:
ـــ في الشكل: بتركيب الجملة الشعرية، التي تعكس موضوع حماقات الرجال مع الحب، وحكمة الشاعر في التعلّم: «كي لا تكون ذاك الوحدانيَّ». وبكيفية صناعة قصيدة متأمّلة موعد المغادرة في مطار من خلال «سبع مكائن قديمة لصناعة مكنسة ليلية»، وإدخالات الثقافة والتراث مثل ما ورد عن مريم في القرآن الكريم بقولها: «أنى يكون لي غلام ولم يمْسَسْني بشرٌ ولم أكُ بغيّا»، مع فتيات المنازل المحجوزات بخيالاتهنّ، اللواتي هنّ: «في فراغهنّ العظيم،/ في القمصان والتنانير التي ترجرجها الريح/ ولم يَمْسسْها أحدٌ!/ يسبحن في الجوّ كدوران صوفيّ،/ والخفر والاشتهاء../ يشغل صهيلهنّ الأزلي.»
كما في إدخالات وتفاعلات شيخ أرنست همنغواي والبحر، مع أب الشاعر. وإدخالات التقاط صور واقع التطويع مثل: «الملتحون السّمان»، الذين يُذكّرون بالأفعال الكريهة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـــ وفي الموضوع: حيث يمكن للقارئ تجلية فلسفة ثابت بالنسبة للعلوم الحديثة، مثل مفهوم الصُّدْفة التي تقودها الريح، حيث: «تصير الصُّدفة بركة ماءٍ/ تتعرّى روحي في أعلاها وهي تتوقّد،/ ثم تقفز كسبّاح يؤلمه كتفه،/ ولم يَفزْ من قبل بأيّ سباقٍ».
وفكرة الحياة السابقة، في عوالم موازية، مع عنوان «كوميديا الشرفة، سهاد الطابق العلوي»، حيث يتموضع القمر في تطبيقٍ ضمن برنامج كونيّ، يُكمل فلسفةَ ثابت مع الصّدفة، والعوالم الموازية، والعوالم الافتراضية، مقرونةً بالسخرية.
إضافة إلى خلق التداخل والتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية ومغايرتها بالجملة الشعرية المركّبة، وبدهشة القفلة، كما في القصيدتين اللتين يختمهما بـ«هذا قلبي»، وكما في قصيدة «أحزان اللاعب ردئ الطالع»، التي يستلهم فيها سلوك لاعب في الملعب لتصوير فلسفته بالنسبة للحظ وتربية النفس، في طابع السخرية: «بأوّل مسيرته../ ربط آية الكرسي ــ كتميمةٍ ــ لهزّ الشباك../ لكنّه نسيَ إتمام الأرقام،/ لم يضعْ حرفين من اسم أمّه، ولا سهمَ الجهة../ فاحتارت الآية».
وفي كل هذا البعض مما تحفل به قصائد الجلبة الهامسة، لا تغيبُ موضوعات القسر والتطويع والقتل والمجازر، في أسلوب ثابت، وبطريقته في التعبير عنها ضمن رؤياه العامة عن الإنسان والآلهة والوجود والعدم، مثل تعبيره عن مجزرة الكيماوي في سوريا بدون ذكر اسمها: «لا حقائب مجهولةً في باحة المسجد/ ولا أطفال ممدّدين في لقطة رعبٍ،/ يلفظون رئاتَهم الصغيرةَ،/ دون أن يخرج الهواء العالق./ آآآخ، أيها السقف../ يا ذخيرتي من السّهاد الشخصيّ،/ حيث يخرج الأقارب والأصدقاء من لحودهم/ ويجلسون في هذه الحلبة العلوية كلّ ليلةٍ/ يستحضرون روحي دون بخورٍ ولا تلاواتٍ،/ فأنضمّ إليهم.»
كما لا يغيب الحبّ بجلبته، وبتركيز رؤيا الشاعر عنه في القصيدة الثانية من المجموعة، والتي تأخذ طابع الحواريّة في قصائد متوالية قصيرةٍ، تتداخل حالات معاني الجلبة التي تعكس العنوان في إحداها، معبّرةً عن بثّ روح الحياة، في الحبّ: «ــ نفق الأشباح هذا يشبهكَ./ ــ يشبهني! وكأني خرجت على الناس من مقبرة!/ ــ ظننتكَ سقطتَ من كوكبٍ فضّيّ../ ــ آخ! ما أطيبَها جلبتكِ».
وذلك بالتضاد مع حالات معاني الجلبة الأخرى، مثل جلبة البشر المزدحمين في تنافسهم وصراعاتهم وتفاهات أطماعهم، على باب المسلخ، حيث:
«ستدهسُ الجلبة أحداً ما،
وحين ترفع حفاها عن صدغيه،
ستكونُ قد سوّته بالأرض،
تاركةً لقلبه حموضةَ الندم،
وأنفاسُه تفرفرُ كالمصروع
أمام عينيه.»
عبدالله ثابت، شاعر وروائي سعودي، ولد في مدينة أبها عام 1973، يحمل شهادة بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها. أصدر روايتين: «الإرهابي 20»، «وجه النائم»، وخمس مجموعات شعرية قبل هذه المجموعة هي: «ألهتك»، «النوبات»، «حرام C.V» «كتاب الوحشة»، و«ميّال».
عبد الله ثابت: «جلبة لتحريك الوقت»
مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس 2019
125 صفحة.