«الأرجنتين 1985» لسانتياغو ميتري: العدالة تتحق وتجد لها أنصارا أحيانا

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

‏البندقية ـ «القدس العربي»: جاء فيلم «الأرجنتين، 1985» المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي (31 أغسطس/آب إلى 100 سبتمبر/أيلول) ليمس فينا وترا حساسا، لاسيما أنه يدور عن حلم تحقق في الأرجنتين، وكنا نأمل أن يتحقق في بلادنا، التي تعرضت ثوراتها للخذلان وتقطعت فيها السبل أمام تحقيق العدالة. أحداث الفيلم مستقاة من وقائع حقيقية، عن محاكمة القادة العسكريين في الأرجنتين أمام القضاء المدني، وتحقق العدالة بعد أعوام من بطش القادة العسكريين، واختفاء ومقتل الآلاف. وتعد تلك المحاكمة واحدة من أهم المحاكمات في التاريخ الحديث، قد لا يفوقها شهرة سوى محاكمة زعماء النازي في نيورينبرغ.
الشخصية المحورية في الفيلم هي خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين في أداء مميز) المدعي العام في الأرجنتين، الذي توكل له مهمة سوق الأدلة وتقديم الزعماء العسكريين لمحاكمة عادلة، تقتص للضحايا. ستراسيرا رجل لا يسعى لشهرة أو مجد، ويسعى لإحقاق الحق، ويفضل أن يمضي جل وقته بعيدا عن الأضواء مستمتعا بدفء أسرته، ومفضلا الاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية والهدوء. تبدأ أحداث الفيلم، الذي أخرجه الأرجنتيني سانتياغو ميتري، في لحظة أمل ورجاء في الأرجنتين، عندما يحدو الكثيرين الأمل في تقديم القادة العسكريين الذين قادوا البلاد في الفترة من 1976 إلى 1983، والمسؤولين عن اختفاء واختطاف وتعذيب واغتصاب الآلاف.

يصور الفيلم أن تاريخ الأرجنتين بأسره يتوقف على تلك المحاكمة، إذ ما زال الكثير من أنصار القادة العسكريين متغلغلين في أجهزة السلطة، ومتغلغلين في الجيش وقواته، وإذا حوكم هؤلاء القادة محاكمة عسكرية، فمن المرجح حصولهم على البراءة، ليعودوا بعدها إلى سدة الحكم، أما إذا حوكموا محاكمة مدنية، فالحصول على العدالة يقع بأكمله على عاتق رئيس الادعاء، ستراسيرا، وطاقم معاونيه، الذين تتمثل مهمتهم في الوصول إلى أدلة دامغة على التعذيب والظلم والقتل الذي ارتكبه وأمر به القادة العسكريون. أن يقع مستقبل البلاد ومستقبل الحكم فيها على عاتق رجل واحد، هو ستراسيرا، ممثل الادعاء في تلك المحاكمة التاريخية، لأمر جلل، لكن ستراسيرا يحمل مهمته في جد والتزام كبيرين، لكن في محاولة لتهوين الأمر على الذات وعلى فريقه لجمع الأدلة، الذين اختارهم من الشباب المتحمسين الذين لم يطالهم الفساد.

يمنح الفيلم صوتا للضحايا، بعد عقود من الصمت والقهر نسمع شهادات من تعرضوا للتعذيب والاختفاء. الشهادة الأقوى هي لامرأة كانت في شهور حملها عندما اعتقلها الحكام العسكريون.

على الرغم من جدية القضية المطروحة، وعلى الرغم من الشهادات المروعة للضحايا، لم يختر ميتري طرحا يحمل من الحزن الكثير. ما يغلب على طرح الفيلم هو الأمل في المستقبل وما يحمله من خير للبلاد. نلقي نظرة على هذا المستقبل الواعد مع أبناء النائب العام، وزوجته الذين يقفون معه ومع الديمقراطية قلبا وقالبا، والذين يشجعون والدهم في مهمته. ونلمس هذا الأمل في المستقبل أيضا في مساعديه الشباب، الذين يبذلون قصارى جهدهم لجمع أدلة تنصف الضحايا.
في «الأرجنتين، 1985» يقدم ميتري بكفاءة فيلما يجمع بين السياسة، وأفلام قاعات المحاكم، وبين الإنساني والشخصي. يقدم فيلما يتسع لآلام الضحايا ولآمال المستقبل، لكن هذا كله ما كان ليتحقق، دون أداء ريكاردو دارين في دور ستراسيرا. يقدم دارين السهل الممتنع في الأداء، فهو نصير العدالة، دون الحاجة منه إلى الضجيج والخطب، وهو رجل هادئ يغلّب الابتسام والاحتفاظ برباطة الجأش حتى في أحلك اللحظات، وحتى حين تلقيه تهديدات بالقتل.
يمنح الفيلم صوتا للضحايا، بعد عقود من الصمت والقهر نسمع شهادات من تعرضوا للتعذيب والاختفاء. الشهادة الأقوى هي لامرأة كانت في شهور حملها عندما اعتقلها الحكام العسكريون. نراها تقص ما تعرضت له من اغتصاب وقهر على يد الجنود، الذين لم يرحموها حتى وهي تضع مولودها، واغتصبوها وهي تضع صغيرتها. ولا نسمع دفاع القادة العسكريين. نرى هؤلاء القادة يسيرون في خيلاء في كامل زيهم العسكري وهم يدخلون قاعة المحكمة. نراهم دون أن يبدو عليهم أي ندم أو تعاطف، بل إننا نسمع بعضهم يكيلون السباب للحضور أثناء دخول المحكمة. يصور الفيلم أن تحقيق الديمقراطية والخلاص من البطش وإقامة العدل ليست بالأمور اليسيرة، فالنظام لا ينتهي لمجرد القبض على قادته. العدل يتحقق في الفيلم بوقوف الجموع في وجه الطغيان، وبوجود أجيال من الشباب، كطاقم العمل مع الادعاء، يقفون مع العدل ويذودون عنه. كما لا يتحقق العدل إلا في وجود نظام قضائي عادل يمسك بزمامه أشخاص يتحرون الحقيقة مثل ستراسيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية