في التصدير الذي وضعه لـ»كتاب التاج في أخلاق الملوك» المنسوب إلى أبي عثمان الجاحظ، وقد حقّقه تحقيقاً ضافياً ونشره في القاهرة سنة 1914، أقدَمَ العلامة أحمد زكي باشا (وكان يلقّب بـ»شيخ العروبة») على أمرٍ أجده مثيراً للتأمّل. فهو قد وجد الكتاب، أوّلَ ما وجده، في مجلّدة وقع عليها في خزانة سَراي طوب قبّو في إستانبول… وكانت هذه المجلّدة التي يصفها المحقق الناشر بأنها «من أنفس الذخائر التي خلّفها الأوائل للأواخر» تضمّ إلى هذا الكتاب كتابَي «الأدب الكبير» و»الأدب الصغير» لعبد الله بن المقفّع. نقل الباشا هذا المخطوط وغيره بالتصوير الشمسي وعاد بصيده إلى مصر.
إلى هنا وكلام الرجل يدخل في باب الخبر الذي هو بعضٌ من قصّة إفضاء الكتاب إلى يدي قارئه. ولكن الرجل حين يدخل في التأريخ للمخطوط الذي وقع عليه ينتقل وينقل معه قارئه إلى همّ آخر هو همّ الحقّ الوطني (أو القومي بالمصطلح الغالب في مصر) في ملكية المخطوط. فهو إذ يجد ما يفيد أن رجلاً يدعى يوسف الحلبي قرأ المخطوط في سنة 894 للهجرة يرى أن النسخة قد تكون كتبت في تلك المدّة في حلب… أو في القاهرة. ثم يضيف أن حلب كانت، في تلك الأيام، عُمالةً لسلطان مصر ليخلص إلى أن المجلّدة هي، أيّاً كان الأمر، «من ذخائر مصر»!
ما الذي يحمل الباشا على هذا الاستدلال كلّه لينتهي إلى تسويغ أمرٍ لا يجادله أحد أصلاً في مسوّغ الإقدام عليه ولا في فضله فيه؟ هل العودة من السفر بصورة لمخطوط نفيس والتهيّؤ لتحقيقه ونشره أمرٌ يحتاج إلى إثبات ملكية وطنية (أو قومية) للمخطوط؟ وما هو المنطق الذي يجعل احتمال الانتماء الحلبي للمخطوط قابلاً للتجاوز بإثبات تبعية حلب، بأمّها وأبيها، لسلطان مصر المملوكي، بتاجه وصولجانه؟
ولأقل ههنا أن جهد الباشا للاستيلاء القومي رمزياً على هذا المخطوط ردّني إلى حالة أخرى وجدتها مشابهة لهذه ومعزّزة لما أجده لها من دلالة. تتعلّق هذه الحالة الأخرى بالاستيلاء الرمزي، لا على مخطوط، بل على مدينة بأسرها هي مدينة طرابلس المعروفة تاريخياً باسم طرابلس الشام تمييزاً لها عن عاصمة ليبيا الحالية. فقد لاحظت أن الاستيلاء هذا يحصل في الحالين من طريق إثبات سابقة بعينها هي سابقة السلطان السياسي، وهي عادةً سابقةُ تغلّبٍ ووضعِ يد.
وأما صاحب المأثرة الطرابلسية فهو المؤرّخ اللبناني الكسرواني نجيب الدحداح وكان سفيراً في السلك الخارجي نشر، بعد خمسين سنة من نشر «شيخ العروبة» كتاب «التاج»، مؤلّفاً وضعه بالفرنسية وجعل عنوانه «تطوّر لبنان التاريخي». على رأي العبارة الفرنسية، يوقد الدحداح «ناراً من كلّ حطب» يجده ليثبت التابعية اللبنانية للمناطق التي ضمّت سنة 1920 إلى متصرّفية جبل لبنان، وقد نشأت من هذا الضمّ «دولة لبنان الكبير»، وهي على وجه التقريب، جمهورية لبنان الحالية. والواقع أن التبعية للسلطة الجبلية المصدر هي الحجّة الرئيسة التي يعتمدها الدحداح إثباتاً للبنانية المدن والمناطق المضمومة. هكذا تردّ الحجج، بتنوعها التاريخي إلى حجّة أصلية رئيسة: استولى حاكم لبناني، مدّة من الزمن، على هذه المدينة أو تلك المنطقة (ويستحسن أن يكون هذا الاستيلاء قد حصل بالقوّة) فهي إذن مدينة أو منطقة لبنانية تعتبر تابعيتها هذه تامّة الشرعية: لا عند اتّخاذ قرار الضمّ المشار إليه أعلاه بل أيضاً في يوم المؤلف الحاضر…
تستجيب مناطق البلاد ومدنها لرغبة المؤلّف هذه استجابة متباينة الدرجات. وتبدو طرابلس، وهي عاصمة لبنان الثانية، في أيامنا، أقلّ المدن طواعية تاريخية لعمل الضمّ الرمزي الذي يسعى إليه الدحداح. فهو يضطرّ إلى الاكتفاء في هذه الحالة بإخافة فخر الدين الثاني أمير الجبل حكّام طرابلس من آل سيفا ثم باستيلائه على مقاليد المدينة أعواماً قبل أن يستردّها الوالي العثماني إلى حكمه المباشر. هذه زبدة البرهان. ولا يقع الدحداح على ما يعززه سوى «اهتمام» حكام لبنان المستمر بطرابلس والمصادر اللبنانية لبعض المأمورين الذين عهدت الدولة العثمانية بشؤون مختلفة في طرابلس. ذاك يكفي المؤرخ شرّ النظر في سائر التاريخ وفي الحاضر: أي في تبعيّاتٍ كثيرةٍ تداولتها طرابلس في مدى تاريخها الطويل أو أيضاً في موقف طرابلس من لبنانيتها، على ما بدا عليه في الوقائع. يكفيه هذا الزاد الضئيل أيضاً همّ البحث عن مسوّغات غير سابقة الاستيلاء لضمّ طرابلس وغيرها في دولة واحدة هي الدولة اللبنانية. السابقة تبدو منتهى البحث وأقصى المراد.
يضمّ أحمد زكي باشا إلى بلاده مخطوطاً وجده في إستانبول. هذا مع أنه لا يعرف عن أصل النسخة سوى أن ذلك الحلبي قد قرأها. وهو يلجأ في هذا الضمّ إلى السلطان فلا يضيمه، بعد ذلك، أن يكون القارئ المشار إليه غير مصري: لا هو ولا ابن المقفّع ولا الجاحظ بطبيعة الحال. السلطان (الذي يبدو إثبات مصريته صعباً أيضاً) قام بما يلزم: استتبع حلباً وهذه غاية المراد.
ثمة شيء فاقع نقرأ ملامحه في حالتي الباشا المحقق والدحداح المؤرّخ. الاستيلاء هو أساس الشرعية ولا بحث بعد الاستيلاء في واقع الاندماج ودرجته ولا في عدمه. يحتاج المحقق إلى استيلاء السلطان على حلب في أواخر القرن التاسع الهجري (والخامس عشر الميلادي) مسوّغاً لحيازة صورة لمخطوط حصلت قبل مائة سنة من يومنا هذا. ويكتفي المؤرّخ بسابقة الاستيلاء على مدينة (هي طرابلس) مدّة بضع سنين من القرن السابع عشر دليلاً على شرعية تابعيتها للدولة المعلنة سنة 1920. وهو ما يستبعد مسائل مقلقة من قبيل تاريخ المدينة بسائر معطياته والدروس المستفادة منه ووظائف المدينة وتكوينها الاجتماعي وتوزّع أهلها الطائفي وعلاقة ذلك كله بما فيها من أهواء سياسية.
نحن في حصن حصين من كل ما قد ينغّص مزاجنا وذلك بفضل السابقة: سابقة حكم السلطان قايتباي لحلب وسابقة استيلاء فخر الدين على طرابلس. السابقة – سابقة الاستيلاء والسلطة – هي كلّ ما يلزم. والمحقق والمؤرّخ يجلسان مطمئنين مع غيرهما من «أصحاب السوابق» وقد نسيا أن صحبة أصحاب السوابق لا تجلب الطمأنينة إلى القلوب!
كاتب لبناني
أحمد بيضون