يبدو السؤال لأول وهلة سهلاً، خاصة حينما يطرح على السودانيين الذين ينظر أغلبهم بفخر لشخصية «الإمام المهدي»، الذي استطاع تأسيس دولة جمعت أجزاءً كبيرة من أجزاء السودان الحالي، خلال فترة وجيزة وفي خضم تحديات كبيرة. إلا أن المتابع لنقاشات السودانيين يمكنه أن يدرك كيف أنهم يختلفون اختلافات جوهرية في تقييم السيرة الشخصية لرجل ذي مكانة محورية في تاريخ المنطقة.
في الحقيقة، فإنه كثيراً ما يحدث تجنب التركيز على التفاصيل الشخصية في هذا الموضوع ويمتد ذلك لتجنب التساؤل عن الفكرة المهدية في أساسها. يكتفي الإسلاميون مثلاً بالنظر إلى المهدي باعتبار أنه كان يمثل نواة للحكم الإسلامي، وهو ما كان ظاهراً إبان حكم الرئيس عمر البشير، الذي كان كثيراً ما يروج لنفسه كامتداد لمشروع المهدي، أما الأحزاب الوطنية والقومية فتكتفي هي الأخرى بالنظر إليه كرمز وطني وكرجل حارب ضد الاستعمار وناضل في سبيل الدولة السودانية. كان السودانيون لوقت طويل متأثرين بالمناهج الدراسية، التي صورت المهدي بشكل أسطوري. نجحت هذه المناهج في التأكيد على كون أن المهدي كان شخصية استثنائية وأنه، وعلى الرغم من قلة العدة والعتاد، كان قادراً على الانتصار على الجيوش الغازية.
الجميع كان يرى المهدي على الصورة التي يحب أن يتخيلها له، كثائر يمكن أن تستلهم سيرته في إطار المساعي المستمرة منذ ثلاثة أعوام لتأسيس نظام أفضل في السودان
انتصارات المهدي، على الرغم من التفاوت المادي، حقيقة تاريخية، لكن شخصيته وفترة حكمه وحكم خليفته عبد الله التعايشي، بدأت تظهر كموضع اختلاف بعد أن تفرغ عدد من الكتاب والباحثين لنقدها، بالإضافة للتيارات السلفية التي كانت تعتبر أن استخدام اسم المهدي هو مجرد تضليل واستغلال لعواطف الناس، ظهرت كتابات حملت نقداً لاذعاً لتجربة الدولة المهدية، التي وصفت بأنها كانت بالغة التشدد في إقامة الشعائر، وفي ملاحقة غير المؤمنين. كانت هذه الكتابات تركز على موضوع المجازر التي ارتكبت إبان الحكم المهدي في مناطق كثيرة وسط السودان، كما كانت تعتبر أن من أهم عيوب المهدي هو أنه لم يكن يهمه فقط دعوة الناس للإسلام، ولكنه كان مصراً على دفع الجميع للإيمان بمهديته. بعض هذه الكتابات الناقدة كان مصدرها حساسية كتابها واعتراضهم على كل تجربة للحكم باسم الإسلام، وكثيراً ما كان أولئك يتهمون بأنهم واقعون تحت تأثير ما كتبه أعداء الدولة المهدية من معاصرين أو مستشرقين، بالإضافة للقراءة السلبية من قبل علمانيين، ظهرت هناك قراءة جديدة ترتبط بالتحول السياسي الحالي في السودان، وما ارتبط به من تغيير في معادلات الحكم والتفكير. بالنسبة لمنظّر شاب مثل عبد الرحمن عمسيب (يدعو لاستقلال الوسط ولانفصال دارفور) كانت الفترة المهدية، خاصة المرتبطة بخليفة المهدي عبد الله التعايشي، حقبة تمدد فيها حكم القبائل غير العربية، وقبائل غرب السودان، فلم تعد فقط قريبة من الحكم، ولكنها سيطرت عليه وبدأت في إقصاء قيادات قبائل الوسط العربية، والتنكيل بهم بشكل وصل حد المساهمة في تخفيض أعدادهم. يمضي عمسيب لما هو أبعد من ذلك للحديث بإيجابية عن حملة كتنشر ونجاحها في إسقاط الدولة المهدية، ويعتبر أن ذلك كان فيه إنقاذ للقبائل العربية التي كانت معرضة للإبادة أو القمع. بسبب الخوف من الفتنة القبلية التي لا تنقص السودان، الذي عاش أزمات مريرة بسبب خلافات عشائرية، وأيضاً بسبب النقص في المراجع، التي يمكن الركون إليها، فإنه لم تتح مناقشات جدية وغير متحيزة حول الموضوع الذي يتبنى كل من يتناوله فكرة مسبقة عنه. الجميع كان يحب أن يرى المهدي على الصورة التي يحب أن يتخيلها له، كثائر يمكن أن تستلهم سيرته في إطار المساعي المستمرة منذ ثلاثة أعوام لتأسيس نظام أفضل في السودان، أو كإسلامي نجح في تحقيق هدف تسعى إليه تنظيمات إسلامية كثيرة حاولت ربط الدعوة بالدولة، أو حتى كاشتراكي استطاع تحقيق قدر من المساواة بين طبقات الشعب المختلفة ووحدها لغاية وحيدة هي تقوية الدولة وتوسيعها. يمكن أن تكون هذه القراءات متناقضة أحياناً، ففي حين يحاضر عامر محمد علي، سلفي التوجه، ويكتب حول شخصية المهدي، وكأنه عالم تقليدي سني من مدرسة الحديث السلفية التي تجعل التوحيد، وفق ما أرساه العالم النجدي محمد بن عبد الوهاب، أساساً لها، نجد عالماً سلفياً آخر هو عارف الركابي، مع تقديره لدور المهدي ونجاحه في تحرير الخرطوم، يعتبر أن من الصعب إنكار أن المهدي كان يكفّر من لا يؤمن بمهديته مع وجود الوثائق المؤكدة لذلك. يستشهد الركابي في هذا بما أورده عالم الوثائق التاريخية السوداني الراحل محمد إبراهيم أبو سليم، في الكتاب الشهير «الآثار الكاملة للإمام المهدي». الرأي الذي يتبناه عامر محمد علي من اعتبار المهدي عالماً سلفياً، يبدو معزولاً، حيث تجمع الغالبية من السلفيين والصوفية على السواء على أن المهدي كان أقرب للتصوف، ويستشهدون بأنه، وفي حين لا يظهر تواصل واضح بين المهدي والحركة الوهابية النجدية، يمتلئ التاريخ بقصص ومراسلات تربطه بشيوخ التصوف في داخل وخارج السودان. نشير في هذا إلى أن محمد إسماعيل المقدم سبق أن كتب عن الارتباط الخاص بين مهدي السودان ومحيي الدين بن عربي الصوفي، الذي كان من أهم المنظرين حول فكرة المهدي المنتظر. كتب ابن عربي بإسهاب عن الإمامة الظاهرة والباطنة، وعن صفات المهدي التي جعلها تبدو في أجزاء كثيرة منها «فوق بشرية».
«تيار المستقبل»، حركة سياسية حديثة في السودان أفرزها سقوط البشير، وبحث الشباب عن أطر من خارج الصندوق السياسي التقليدي للانتظام والتعبير عن أنفسهم. يتهرب التيار من وصف نفسه بأنه «علماني»، فالكلمة ما تزال تحمل حمولات شديدة السلبية في السودان، ويستعيض عنها باعتبار أنه محايد إزاء المواطنين، من دون النظر إلى عرق أو دين. الغريب في هذا المنهج العلماني أن أصحابه يجعلون من تراث المهدي هادياً لهم، ويعتبرون أنفسهم أيضاً امتداداً لتلك اللحظة التاريخية من المجد والانتصار. في هذا يكتب مهند محمد أحد قيادات الحركة: «تيار المستقبل حزب وطني تأسس على مبادئ الثورة المهدية التي جمعت كل السودانيين. لن يكون التيار في يوم من الأيام منحازاً لقبيلة أو عرق أو جهة أو دين». هذا التعريف للحزب الحديث ومحاولة ربطه بالمهدية سوف يكون محل انتقاد، فإذا سلمنا جدلاً بأن المهدية جمعت كل السودانيين، وهو أمر محل نظر وقد يقود لنقاش فلسفي بلا نهاية، فإنه يصعب القول أن المهدي وثورته ودولته كانوا غير دينيين، أو لم لم يكونوا منحازين، فكل الآثار التي يمكن اتباعها تشير إلى انطلاق المهدي من رؤية دينية، على اختلاف بين الناس في مدى تمثيل هذه الرؤية لصحيح الإسلام.
، لكن الاستئناس برأي البيت الحزبي في هذا الموضوع قد لا يفيد كثيراً، فبالنسبة للسياسيين، الاستفادة من الديباجة المهدية مهمة للمكانة التي يحتفظ بها المهدي المؤسس في قلوب السودانيين، لكن هذا لن يعني أن الحزب، الذي يفصل بين الحقيبتين الدعوية والسياسية، والذي بات أقرب لليبرالية، يسير بالفعل على خطى المهدي. في خضم هذا كله يبدو أن السؤال سيظل مطروحاً لوقت طويل، فمن كان مهدي