«السرديات غير الطبيعية»

حجم الخط
6

تعتبر «السرديات الطبيعية» ( Unnatural Narratology) واحدة من بين أهم اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية، بل يمكن الذهاب إلى اعتبارها من أهم الاتجاهات التي استقطبت الاهتمام وكثر الترويج لها بالقياس إلى غيرها.
ظهر هذا الاتجاه على هامش المؤتمر الدولي لـ»الجمعية العالمية من أجل الدراسة السردية» (ISSN) في واشنطن سنة 2007، حيث ارتأى مجموعة من الباحثين المجتمعين في لوبي الفندق، وهم: ريتشاردسن (Brian Richardson) وألبير (Jan Alber) وميكيلا ( Maria Mäkëlä) ونيلسن ( H. S. Nielsen) أن المؤتمر منغمس في الاهتمام بالإبدالات الطبيعية في السرد، غير مراعين الجانب غير الطبيعي فيه، فدعوا إلى تأسيس سرديات تعنى بما هو غير طبيعي في السرد، سواء كان ذلك في نصوص غير طبيعية، من جهة، أو نصوص سردية تتضمن عناصر غير طبيعية من جهة ثانية. فكان الاسم الذي اقترحوه للجماعة هو «السرديات غير الطبيعية، وموضوع دراستها هو «السرود غير الطبيعية» (Unnatural Narratives).
يكتب ريشاردسن رائد الحركة، معرفا السرد غير الطبيعي بأنه نقيض السرد الطبيعي الذي يقوم على المحاكاة. ويبين، في الوقت نفسه، أنه يقوم بتمييز صارم بين ما هو «ضد المحاكاة» وما هو «غير محاكاة». إن السرد غير الطبيعي هو «ضد المحاكاة» لأنه يتعارض في آن معا، من جهة، مع توافقات التمثيل السردي غير الأدبي والواقعي، ومن جهة ثانية مع ما يدخل في نطاق «غير محاكاتي» أي كل سرد يستعمل نماذج مختلفة عن تلك التي يقدمها السرد المحاكاتي الواقعي. ويضرب لذلك مثال الحكايات العجيبة، والأعمال الفانتازتيكية لأنها بدورها، وإن كانت «غير واقعية» تسجل في إطار التوافقات التي نجدها في الأعمال السردية الواقعية. تهتم السرديات غير الطبيعية بالسرد غير الطبيعي، وتقدم نفسها على أنها إطار موسع للاهتمام بخصائص السرود التي لا تقوم على المحاكاة. من بين هذه السرود: القصص غير المنتهية، أو ذات المسارات السردية المتعددة، أو المزدوجة، وغير الخاضعة للتسلسل المنطقي، أو القصص التي تتكرر، أو ذات الصيغ المتعددة للقصة الواحدة. وما دامت السرديات الكلاسيكية لم تهتم بهذا النوع من السرود، لأنها ظلت أسيرة «المحاكاة» فإن هذه السرديات «البديلة» توسع مفهوم السرد بكيفية تسمح بإدماج مختلف الأشكال السردية المتنوعة، جزئيا أو كليا. ويسمح لها هذا التوسيع بإعادة النظر في العلاقة بين «القصة» و»الخطاب» من جهة، وكذلك على تعميق العمل الذي أنجز حول الشخصيات «اللامحاكاتية» الذي دشن منذ السبعينيات والثمانينيات من قبل منظرين مثل رولان بارث، من جهة أخرى. إن الشخصيات «غير الطبيعية» ليست فقط كائنات مستحيلة، بل هي كائنات خارقة، تسخر من التوافقات الواقعية. وبذلك فهي شخصيات «ضد الشخصيات المحاكاتية» ومتميزة حتى عن الشخصيات «غير المحاكاتية» التي نجدها في السرود العجائبية مثل الحيوانات المتكلمة والحصان الطائر، وما شابه ذلك.

السرديات غير الطبيعية هي هذه «البويطيقا المكملة». ومعنى ذلك أن ما نحتاج إليه، كما يؤكد ريتشارسن، ليس استبدال نماذج أخرى بما كان موجودا، بل علينا إكمال الأخيرة بتبني نموذج أكثر اكتمالا، يأخذ في آن واحد بعين الاعتبار الممارسات المحاكاتية، واللامحاكاتية في آن واحد.

في ضوء هذا الاهتمام بالموضوع السردي غير طبيعي تدعي هذه السرديات أنها «إبدال» نظري يقدم نموذجا مزدوجا مؤسسا على التفاعل بين المحاكاة واللامحاكاة. ويأتي هذا الإبدال في ضوء ما قدمته سرود ما بعد الحداثة التي استثمرت بلا حدود عملية خلق العوالم والأحداث غير الواقعية والمستحيلة والخارقة، التي نجدها أيضا في النصوص التجريبية للكتاب الطليعيين. ومع الزمن ستتجاوز السرديات غير الطبيعية هذه النصوص لتجد لها مواد مهمة في السرود القديمة. يؤكد ريتشاردسن أنه كان على هذا الاتجاه، مفهوميا ومنهجيا، إما أن يتبنى نظرية محاكاتية، مثل ما تقدمه السرديات الكلاسيكية لدراسة السرد غير الطبيعي، وهو ينطلق من أنها أساسا ناقصة، أو يعمل على تطوير مفاهيم جديدة تتيح تغطية الممارسات السردية غير الطبيعية لما بعد الحداثة. وقد فرض الاختيار المنهجي والمفهومي الذي اختارته الجماعة الانطلاق من «بويطيقا أخرى» تأتي لـ«تكميل» البويطيقا التقليدية.
إن السرديات غير الطبيعية هي هذه «البويطيقا المكملة». ومعنى ذلك أن ما نحتاج إليه، كما يؤكد ريتشارسن، ليس استبدال نماذج أخرى بما كان موجودا، بل علينا إكمال الأخيرة بتبني نموذج أكثر اكتمالا، يأخذ في آن واحد بعين الاعتبار الممارسات المحاكاتية، واللامحاكاتية في آن واحد. وفي ضوء هذا التصور، فإن هذه النظرية السردية التكميلية تستدعي رؤية مزدوجة وبويطيقا جدلية قادرة على معالجة المظاهر الخيالية في الأعمال السردية. وبذلك تغدو السرديات غير الطبيعية هي الإبدال التام القادر على ملء الثغرات الناقصة، والرؤية المحدودة للسرد، وهي بذلك تتجاوز أو «تكمل» أو تغطي على السرديات الكلاسيكية.
سبق أن سجلت أن هذه «السرديات غير الطبيعية» عرفت ما لم يعرفه أي من الاتجاهات السردية المعاصرة من انتشار، لكنه في رأيي أردأ الاتجاهات إطلاقا. ولعل تسمية هذا «الإبدال» أولى المشاكل التي ستتولد عنها مشاكل أخرى ذات طبيعة مفهومية ومنهجية. كان الأحرى أن يسمى «سرديات غير الطبيعي» أي الاختصاص الذي يهتم بالسرد غير الطبيعي. أما أن تصبح «السرديات» كاختصاص «غير طبيعية» فهذا دال على الارتجال. وأنى لهذا الإبدال أن يدعي «بويطيقا أخرى» واسمه يقتصر على «غير الطبيعي» فقط؟

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    ما الفرق بين لاعب كرة القدم (الهاوي)، وبين لاعب كرة القدم (المحترف)، غير موضوع (الراتب)، أو ما الفرق بين صاحب وظيفة وبين صاحب مهنة (ما)، غير موضوع (الراتب)؟!

    هو أول ما خطر لي كردة فعل على ما ورد تحت عنوان («السرديات غير الطبيعية») الذي نشرته جريدة القدس العربي، البريطانية، إلى الأكاديمي المغربي (د سعيد يقطين)،

    ولتوضيح معنى كلامي أكثر، تعليقاً على ما أرسلته يا حبيبنا العبقري في علم الخلايا الجذعية (أبا جبرائيل) ا.د. أديب الزعبي

    https://vt.tiktok.com/ZSRmfJyAB/

    في موضوع كيف تفهم الحياة، أو مفهوم كيفية تحديد الأولويات يومياً، ما رأيك بالتالي:

    في سلسلة أفلام علم جميل على فضائية الشرق بلومبيرغ

    https://youtube.com/playlist?list=PLBiOaJKs0fyhYCByDIYQr5BAhJsMovJe2

    تعرض مفهوم جديد عن أتمتة إدارة وحوكمة الخلايا الجذعية في جسم الإنسان،

    كأساس لمفهوم أتمتة إدارة وحوكمة الدولة بشكل عام، هل هذا منطقي أو موضوعي،

    لأن من يجب أن يتعلّم مِن مَن، بين الخالق، والمخلوق أو المسؤول عن الإدارة واختلافها عن مهام المسؤول عن الحوكمة، بشكل عام؟!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    وأضيف إلى الصور التي أرسلت عن أسلوب إدارة وحوكمة ممثلي الإحتلال الأوربي إلى دولنا، لمن يبحث عن مثال عملي لأسلوب إدارة وحوكمة (العدالة الضائعة) بسبب مفاهيم الشفاعة والمحسوبية أو الواسطة،

    بمعنى آخر الرشوة (بلغة الجسد أو بلغة المال أو على الأقل بلغة الكلام المُنمّق (النفاق الاجتماعي))،

    يلخصه ما ورد من تفاصيل تحت عنوان (التحقيق في ملف التحرش الإسرائيلي في الرباط يؤكد تورط ثلاثة.. والضحايا إسرائيلية وثلاث مغربيات)، والأهم هو لماذا ضاعت العدالة في دولة المخزن إن كان تحت قيادة (آل البيت) في المغرب أو تحت قيادة (شعب الرّب المُختار) في الكيان الصهيوني،

    نعم، الإشكالية هل نريد دولة (ملكية)، أم نريد دولة (إنقلابات)؟!

    صحيح أن أسلوب (صدام حسين)، يختلف عن أسلوب (حافظ الأسد)، يختلف عن أسلوب (علي عبدالله صالح)، يختلف عن أسلوب (مُعمّر القذافي)، يختلف عن أسلوب (عبدالفتاح السيسي)، الذي كل همّه منع حصول أي ثورة/إنقلاب آخر كما حصل ضد (حسني مبارك) بالمحصلة، أليس كذلك يا د زياد، تعليقاً على كل الروابط التي أرسلتها

    https://youtu.be/4Mu62VB61Bs

    https://youtu.be/BbDoplaN-Xk

  3. يقول S.S.Abdullah:

    ثم (الحسين بن علي) خرج من مدينة رسول الله، إلى (العراق)، وليس إلى (سوريا)، أو (مصر)، لماذا؟!

    خرج ضد (الظلم) بثورة أو محاولة إنقلاب، ووالدي كذلك، حاول أول مرة في العراق/الأردن، وبعد ذلك سوريا ثم مصر، حيث أعدم فيها، حسب ما تقول معلومات عمنا Google، فهل (الحسين) أو (والدي) أخطأ؟!

    ولذلك قلت أسمح لي يا (مأمون عباس الدوري) أو كاتب مقال حوار مع المنصفين (الحلقة الأولى) د محمد عياش الكبيسي،

    الإختلاف مع زاوية الرؤية 180 درجة، والأهم هو لماذا، أنا أختلف مع زاوية الرؤية، لديكما؟!

    فالحوار، لكي يحصل، يحتاج إلى (لغة مشتركة) في معنى المعاني، بداية من لفظ الجلالة (الله)،

    فنحن، من يؤمن بالله كخالق، لدينا لمعنى لفظ الجلالة، معنى يختلف عن معنى معاني أي (مرجعية) صامتة أو ناطقة أو فرعونية مثل (دولة ولاية الفقيه)، على أرض الواقع،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    فلذلك أنا خرجت بمصطلح لغة القرآن وإسلام الشهادتين التي لا تمثل فكر (فلان) أو ثقافة (علان)،

    حتى انبهك أنت والكاتب، أن مناهج تعليم دولنا تنتج برغي في آلة النظام البيروقراطي بلا مخ أو ضمير إنساني،

    ودليلي على ذلك مترجم كلمة الرئيس المصري (د محمد مرسي) قام المترجم بتزوير/تحريف/غش أو تغيير إسم الدول، في بث حي ومباشر،

    أي بلا تعليمات، من أي مسؤول غير ضميره (الراتب كموظف)، خوفاً على رزق أولاده من غضب أي مسؤول (رب/إله) عمله.

    أي أن الإشكالية دوماً من يستحق أن يجلس على كرسي أي وظيفة في أي دولة، بداية من المترجم، وحتى الرئيس/الملك،

    وهي بداية ثقافة العنصرية/ثقافة الأنا،

    كما أوضحت ذلك (ليز ترس) عندما كان المخ لديها يعمل ويشتغل لتمييز (الحلال) أو (الحرام)، ومن هنا ظهر مصطلح (النضال حتى التخرّج)، فتغيرت، والآن أصبحت رئيس وزراء، Subject/Citizen

    https://youtu.be/qnqVAZ33hNE

    وهي نفس العنصرية في أمريكا، كما في الرابط، أليس كذلك؟!

  5. يقول S.S.Abdullah:

    وأحلى دليل على معنى مفهوم الأخلاق في تفكيرهم،

    هو خروج فكرة الإستحمام الجماعي، من أجل الإقتصاد (السويسري) انتبه بلد المصارف المالية بالذات، أليس كذلك، والخوف من وصولها إلى الفرعون (السيسي) في مصر؟!?

    ولذلك السؤال في أجواء سوق العولمة أو في لغة مواطن العولمة، الذي من خلال الآلة (الروبوت) التي في يده، حول العالم إلى قرية،

    هل هناك علاقة بين مفهوم الملكية/الفرعونية، ومفهوم حق كرسي السلطة إلى ممثلي (آل البيت) كما هو حال (الأردن والمغرب) أو إلى ممثلي (شعب الرّب المُختار) في ديمقراطية الكيان الصهيوني أو إيران،

    هل هناك علاقة، لغوية في المعنى، أم لا؟!

    فالسؤال إذن، هل هناك أي معنى من تلك المعاني في لغة القرآن وإسلام الشهادتين التي لا تمثل فكر (فلان) أو ثقافة (علان)، التي تتعامل معنا كأسرة إنسانية، لا فرق بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى، التي لا يوجد معيار مادي لها، على أرض الواقع، صحيح، أم لا؟!

    بدأت المشكلة إذن بعد سقوط الدولة العثمانية،

    عندما تم نقل معنى Subject=Citizen من اللغات الأوربية إلى لغة دولة الحداثة، إلى مناهج التعليم في دولنا فبدأت مرحلة (الاستعباد والعبودية لغير الله) في كل كيانات سايكس وبيكو وليس فقط الكيان الصهيوني مع أهل (فلسطين).??
    ??????

  6. يقول د. كريم الجاف:

    الاستاذ سعيد يقطين
    يرجى تصحيح العبارة في السطر الاول من المقالة لتكون السرد غير الطبيعي ليتطابق مع العبارة الانجليزية.

إشترك في قائمتنا البريدية