انقلاب الموازين بين روسيا وإيران وعواقبه الإقليمية

باتت الأفشال التي نجمت حتى الآن عن قرار فلاديمير بوتين زجّ الجيش الروسي في غزو أوكرانيا كافية لإدراج بوتين على قائمة الغزاة الفاشلين في التاريخ الحديث، وبمرتبة عالية تضاهي أفشال عظيمة كالغزو الأمريكي لفيتنام والغزو السوفييتي لأفغانستان والغزو الإسرائيلي للبنان والغزو الأمريكي للعراق. ويبدو أن جنون العظمة والطمع الاستعماري حالا دون أن يتّعظ بوتين من تلك السوابق، التي تشمل سابقة خاضت فيها بلاده، وجعلاه يعتقد أن تدخل قواته الجوّية الناجح في سوريا ضد مقاومة متشرذمة ومحرومة، بقرار أمريكي، من السلاح المضاد للطيران، دليلٌ على جبروت روسيا العسكري.
هذا ونظراً للدور المتعاظم الذي لعبته روسيا في منطقتنا في السنوات الأخيرة، من الطبيعي أن تترتّب عن إخفاق بوتين في أوكرانيا عواقب إقليمية بالغة الأهمية، لا بدّ كي ننظر فيها من التذكير أولاً بأوجه الدور الروسي الإقليمي. فمنذ غزوه الأول لأراضي أوكرانيا في عام 2014 وضمّه لشبه جزيرة القرم، وما نتج عنهما من عقوبات فرضتها على روسيا الدول الغربية، وجدت موسكو نفسها في خانة واحدة مع طهران التي سبق لروسيا أن شاركت في فرض العقوبات عليها. وقد يسّر هذا الأمر تدخّل روسيا في سوريا إلى جانب القوات الإيرانية وأعوانها الإقليميين في تدعيم نظام بشّار الأسد. بيد أن تفوّق الدور الروسي، المستند إلى القوات الجوّية، بينما اقتصر الدور الإيراني على القوات البرّية، أتاح لبوتين لعب دور خبيث في نصب نفسه حَكَماً في الساحة السورية بين إيران وتركيا، والتظاهر بأنه قادر على الإشراف على إخراج البلدين من سوريا لتبقى تحت هيمنة روسية بلا منازع.
وقد راق هذا الوضع لدول الخليج التي خاصمت إيران وتركيا معاً طوال هذه السنين، فربطت مع روسيا أواصر سياسية وعسكرية، وصلت في حالة أبو ظبي إلى التدخّل المشترك في ليبيا، دعماً لخليفة حفتر، وفي السودان دعماً للطغمة العسكرية. وتدعّمت كذلك علاقات عبد الفتّاح السيسي، حليف المحور الخليجي، مع روسيا، وقد شاركت مصر في التدخّلين المذكورين. وعلى هذه الخلفية أخذت موسكو تعرض على أصدقائها العرب الجدد شراء أسلحتها، مبيّنة الفرق بينها وبين الدول الغربية التي تواجه حكوماتها معارضة شعبية لتزويد بعض الدول بالسلاح، على غرار الاعتراضات التي واجهت تسليح أمريكا للمملكة السعودية في حرب اليمن.

نظراً للدور المتعاظم الذي لعبته روسيا في منطقتنا في السنوات الأخيرة، من الطبيعي أن تترتّب عن إخفاق بوتين في أوكرانيا عواقب إقليمية بالغة الأهمية

أما تبدّل الموازين مؤخراً، فأسطع دليل عليه الخبر الذي ذاع قبل أيام عن امتناع مصر عن استلام 24 طائرة سوخوي سو-35 كانت قد تعاقدت على شرائها، وذلك خوفاً من إغضاب الولايات المتحدة. وقد قرّرت إيران شراء تلك الطائرات عوضاً عن مصر، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل تغييراً نوعياً في الترسانة الجوّية الإيرانية التي لم تحُز على طائرات بمثل هذا المستوى التكنولوجي حتى الآن. ولا شك في أن تزويد موسكو لطهران بهذه الطائرات سوف يغيّر نظرة الخليجيين إلى روسيا تغييراً جذرياً ويحيلهم مجدّداً إلى الاتكال حصراً على الحماية الأمريكية بينما تستحيل موسكو حليفة لطهران في نظرهم. ومما يدعّم هذا الأمر أن روسيا نفسها أخذت تتزوّد بالطائرات المسيّرة من إيران، وهو دليل ساطع آخر على ضعف روسيا وعامل آخر في انحطاط صورة الجبروت التي نجمت عن حربها في سوريا.
أما النتيجة الأهم لتبدّل الموازين المذكور، فهي أن كفة إيران في المعادلة السورية باتت راجحة على حساب الكفة الروسية (ناهيكم من كفة تركيا، التي يعاني حكمها من أزمة اقتصادية شديدة أدّت به إلى مراجعة حساباته الإقليمية وتخفيض طموحاته). ونظراً لمركزية الساحة السورية في المشرق العربي، يترتّب عن رجحان كفة إيران فيها تدعيم دور طهران في الساحتين المجاورتين اللتين لها سطوة عليهما، ألا وهما العراق ولبنان. وفي المحصّلة، يعني كل هذا أن التوتّر قابلٌ على التصاعد في هذين البلدين الأخيرين، الّا إذا اتّعظت طهران بتبدّل الموازين الدولي الناجم عن إضعاف روسيا وقرّرت القبول بالشروط الأوروبية لتجديد الاتفاق النووي مع أمريكا وتليين موقفها نحو تشجيع المساومة في ساحات تدخّلها.
وقد سبق لطهران أن تصرّفت على هذا النحو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى أولى سنوات القرن الراهن، فدخلت في تعاون بالأفعال، من خلف التخاصم بالأقوال، مع الولايات المتحدة وصولاً إلى تعاون أعوانها العراقيين مع الاحتلال الأمريكي، وتعاون أعوانها اللبنانيين مع رفيق الحريري. كانت تلك سنوات طغيان المعتدلين في الحكم الإيراني، مثّلهما الرئيسان أكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997) ومحمد خاتمي (1997-2005) وقد انتهت المرحلة بوصول محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة (2005-2013) ممثلاً الجناح المتشدّد. غير أن الصعوبات الاقتصادية التي نجمت عن ذلك أدّت إلى وصول رجل مساوم إلى الرئاسة بعده، هو حسن روحاني (2013-2021) الذي أشرف على عقد الاتفاق النووي في عام 2015. بيد أن النهج المساوم مُني بهزيمة من جرّاء وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2017 بما أعاد المتشدّدين إلى رئاسة إيران مع إبراهيم رئيسي في عام 2021. وهذا يعني، للأسف، أن لا مجال للتفاؤل في تليين المواقف في منطقتنا في المستقبل المنظور.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبسا الشيخ:

    تحياتي لك أستاذ الأشقر، وشكرا على المقال أكثر من رائع جميل جدا، القيصر الواهم مازال على حاله ربما سيستمر حتى يتم طرد جيشه المهزوم

  2. يقول ش. س.:

    (وهذا يعني، للأسف، أن لا مجال للتفاؤل في تليين المواقف في منطقتنا في المستقبل المنظور) اهـ

  3. يقول تيسير خرما:

    إذا قام أحد بإحصاء كل ما أصدره إعلام حربي روسيا يومياً عن حصيلة ما دمره جيش روسيا أو أسقطه ببضعة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا لوجدنا أرقام تجاوز كل ما حصلت عليه أوكرانيا سابقاً ولاحقاً ورغم ذلك ما زالت مقاومة الأوكران مستمرة ومتصاعدة فهل يحصل ذلك بدون كل تلك الأسلحة التي يزعم أنها دمرت أو أسقطت، إذن يبدو أن إعلام حربي روسيا قد سقط فيما سقط فيه إعلام حربي مصر عام 1967 وإعلام حربي العراق عام 2003 من مبالغات بمضاعفة الإنجازات ضد العدو وتقليل الخسائر ولم يمر وقت طويل قبل انكشاف الواقع الفعلي المخزي.

  4. يقول تيسير خرما:

    حل مشاكل روسيا يتم بقيام رئيسها عزل وزرائه ومستشاريه وقادته وإعدامهم وإلغاء عقيدة روسية عدوانية وقرارات عقيمة عبر الحدود طوال عقدين وتفكيك أجهزة أمن تضطهد شعوب روسيا وإطلاق سراح معارضين ووقف رعاية أنظمة حكم إرهابية وووقف دعم ميليشيات إرهابية وإنسحاب من أوكرانيا وسوريا وقوقاز واعتماد دستور حديث وقوانين تناسب القرن 21 وإجراء انتخابات حرة نزيهة برقابة دولية والعودة لعضوية مجموعة السبع والعودة للتعاون الكامل مع العالم الحر وخفض موازنة حكومة وجيش للربع وقصر إنفاق ثروات روسيا على تحسين معيشة مواطنيها.

  5. يقول عمر 51:

    لا تلوموا غيركم، لوموا أنفسكم ياعرب. إيران تصنع المسيرات و….. وأنتم ماذا تصنعون ؟
    إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن
    وأنتم أين وجودكم؟
    وجودكم يتمثل في التفرقةوالتشرذم وووو

  6. يقول شهدان باريس:

    الحرب الروسية الاكرانية هي خاسرة ككل الحروب فالحرب هو الخراب والتفقير التشرد وروسيا تحارب الغرب بجنود أوكرانية وروس يعني الإخوة يتقاتلون فيما بينهم والغرب يمد اوكرانيا بالسلاح والمال وكل مايحتاج زلنسكي وبوتين يدفع بجنوده واسلحته ليتحارب مع مختلف الأسلحة الغربية من امريكا المانيا فرنسا واليابان لكن عندما بري بوتين الانهزام فإنه سيستعمل الأسلحة التكتيكية النووي وهنا أما أن تندلع الحرب الكبري تشارك فيها الصين وامريكا وهنا لن يبقى للجميع الا الصلوات الأخيرة أو أن ينسحب زلنسكي.

  7. يقول zerradabdellatif:

    في الحروب في كل زمان ومكان تقع أخطاء استراتيجية تؤدي أحيانا إلى عواقب وخيمة وملايين القتلى , كما حدث في فرنسا عندما أهمل العسكريون تحصين حدودهم مع بلجيكا ، فاستغل هتلر هذا الخطأ واحتل فرنسا كلها في وقت قياسي ، والأمثلة عديدة في التاريخ ، وبعض الصحفيين العرب يتصيدون أخطاء جنيرالات روسيا للاستدلال عل أن روسيا دولة من العالم الخامس أو السادس. لهؤلاء الصحفيين اقول: اذا كنتم حياديين كما يجدر أن يكون الصحفي غير المرتزق ، عليكم بالموازاة مع هذا ذكر أخطاء روسيا وتضخيمها في أوكرانيا أن تركزوا قليلا على أن روسيا تحارب أكثر من أربعين دولة تعتبر من اقوى الدول العسكرية ، وأيضا على أخطاء الغرب العسكرية على الأقل في القرنين 21 و22 . وانا متأكد أن الضباط في الجيش الأكراني معظمهم بريطانيون وامريكيون ، ومن دول أوربا الشرقية، مع وجود ضباط المان وغربيون بصفة عامة ، أما الشباب الأوكراني فيجول في معظم دول العالم

إشترك في قائمتنا البريدية