تطرح الكثير من الأسئلة نفسها وهي تطل برأسها عن ما هي القواعد التي تنظم العلاقات الدولية، خاصة مع أحداث جلل يتم فيها تغييب القانون الدولي تماما، وتعمُد إغماض الأعين عن كوارث كبرى مثل ما حاق بشعب اليمن، الذي تصنفه الأمم المتحدة منذ سنوات بأنه أسوأ كارثة إنسانية في الكوكب، الذي يضم مآسيها بين ثناياه العديد من الكوارث الإنسانية مثل، فتك المجاعات بأكثر من نصف السكان، وكون أكثر من ثلثي أطفال اليمن خارج التعليم، إلخ من سلسلة طويلة من الأهوال التي لم يهتز للمجتمع الدولي لها جفن.
وكذلك ما يجري في ليبيا حيث كوّن جنرال متقاعد، كان لاجئا في الولايات المتحدة الأمريكية، ميليشيات بدعم دول إقليمية وأخذ يحارب الحكومة المعترف بها دوليا، وارتكبت قواته جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهنا نتحدث عن خليفة حفتر، الذي وصل الأمر أن قامت إحدى الدول برشوة مبعوث الأمم المتحدة برناردينو ليون لكي يدعم الضابط المنقلب، طبقا لما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية بتاريخ 4/11/2015 حيث أكدت أنها استطاعت الحصول على نسخة من مراسلاته الإلكترونية، التي وجدت بها رسائل بينه وبين إحدى الدول تعده فيها بأنها ستوظفه عندها بمبلغ 35000 جنيه إسترليني شهريا مقابل دعم حفتر، وهو ما تحقق بالفعل وانتقل المسؤول الأممي للعمل بهذه الوظيفة دون أي رد فعل من الأمم المتحدة حتى اليوم وبعد مرور 7 سنوات.
رغم امتلاك الاتحاد الأوروبي للقوة الاقتصادية لكن تفوق الولايات المتحدة عسكريا جعلها صاحبة الكلمة الفصل
وإذا كانت اليمن وليبيا نموذج صارخ على إغماض العين عن أهوال الجرائم ضد الإنسانية التي تم ارتكابها، فإن العراق نموذج صارخ لكن في الضفة الأخرى إذ تجسد أكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي تم غزو البلاد بناء عليها سنة 2003 وتدمير بنيته التحتية، فضلا عن عدد من القتلى غير معروف بالضبط وتصل بعض التقديرات به إلى 3 ملايين، بخلاف تهجير جزء كبير من السكان وسلسلة طويلة أيضا من الكوارث التي حاقت بالعراقيين، تمثل تجسيدا لسيرورة المجتمع الدولي الذي لم ولن يحمي يوما الضعفاء، مهما علت فيه الشعارات وانتشرت فيه الاتفاقات والمعاهدات.
هل يملك المجتمع الدولي عقدا اجتماعيا؟
إذا ما عرّفنا العقد الاجتماعي بشكل مختصر، أنه عقد غير مكتوب بين الحاكم والشعب ينظم سلطات الحاكم، ويرسم واجبات وحقوق الشعب، فإنه من الناحية النظرية ستكون الإجابة على السؤال: هل يملك المجتمع الدولي عقدا اجتماعيا؟ (لا) وسيكون النفي بأقصى صوره وذلك لعدم انطباق فكرة حاكم وشعب في المجتمع الدولي وامتلاك كل دولة لسيادة تجعلها على قدم المساواة مع باقي دول العالم. لكن من الناحية العملية، سنجد أن العقد الاجتماعي بتعريفه السابق موجود، بل متجذر في المجتمع الدولي مع تصريف بسيط في التعريف، إذ يمكن تعريف العقد الاجتماعي في المجتمع الدولي بأنه: عقد غير مكتوب بين دول العالم يمنح سلطات للدول ذات القوة العسكرية والاقتصادية، بقدر تلك القوة ويرسم وجهات سير الدول التي لا تملك تلك القوة بفلك القوى العسكرية والاقتصادية. فإذا ما طرحنا شكل وهيكلة العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية، سنجد أن دول أوروبا تدور في فلك السياسات الأمريكية بشكل كبير منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ومرجوع ذلك الرئيسي عدم امتلاك أوروبا للقوة العسكرية، ورغم امتلاك الاتحاد الأوروبي للقوة الاقتصادية لكن تفوق الولايات المتحدة عسكريا جعلها صاحبة الكلمة الفصل، رغم أن المفترض أن أوروبا هي الحليف الأول والأكبر لأمريكا، لكن الواقع العملي يثبت أن أمريكا هي المتحكم في كثير من المواقف الأوروبية، ولا يوجد مثال أوضح من الأزمة الروسية الأوكرانية، التي أرادت أوروبا في بدايتها النأي بنفسها عنها والاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع روسيا، حيث طار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى موسكو والتقى الرئيس فلاديمير بوتين، ثم صرح بشكل ليس فيه لبس أن بلاده لا تريد أن تكون طرفا في النزاع وكذلك صرّح عدد من مسؤولي ألمانيا ودول أوروبية أخرى، لنجدهم في نهاية الأمر طرفا في النزاع بتسليح أوكرانيا مقحمين دولهم في مواجهة مع روسيا، التي تلعب بكار الطاقة، خاصة الغاز الذي يعزو إليه الكثير تضاعف الأسعار في أوروبا، في الشهور الأخيرة، وكذلك توقع دخول أوروبا أزمة شديدة القسوة مع دخول فصل الشتاء بعد أسابيع. وإذا كان النموذج المتقدم للعلاقة بين الحلفاء، فهناك نموذجان آخران، أولهما العلاقة بين الخصوم أو الأنداد في المجتمع الدولي، وهذا النموذج تجسّده علاقة الغرب مع روسيا، خاصة الآن وعلاقة أمريكا مع الصين، حيث يكون الصراع تكتيكيا بين القوى المتكافئة وتكون الغلبة فيه لصاحب التخطيط الأذكى، وهذا لا يعني خلو هذا النوع من الصراع من الدم، لكن دم طرفا ثالثا هي دول تكون ساحة لحروب بالوكالة كجزء من تلك الصراعات وهذا موجود فعليا من قرابة عقدين في افريقيا بين أمريكا والصين، ويبقى النموذج الثالث هو في العلاقات الدولية الذي يتضمنه العقد الاجتماعي، وهو الأشد بؤسا وهو نموذج التبعية المطلقة التي تنتهجها بعض الدول كسبيل لحفاظ نظامها على عرشه، وهذه النظم تجعل من دولها دولا هامدة وتهشم شعوبها على الصعيد الداخلي، بينما تفرط لمن تتبعه بثروات بلدانها، بل بأرضها ومقدساتها، ولا أظن هناك حاجة لتسمية دول فعلت وتفعل ذلك، فنحن الناطقون بلغة الضاد نعرفها تمام المعرفة.
رئيس المعهد الأوروبي للقانون الدولي والعلاقات الدولية – السويد
قواعد العلاقات الدولية يحكمها قانون، البقاء للأقوى عسكريا ثم اقتصاديا ولا غنى عن أحدهما نقطة إلى السطر