يعتبر باشلار من أهم الفلاسفة الذين أعطوا الشعر عناية كبرى، ووضعوه في صلب مشاريعهم الفلسفية. فهو الذي يقول إن الكون انبثق من العدم في لحظة شعرية مدهشة، وإنه سينتهي تماما بمثل هذه اللحظة بوصفها فورة تعيد العناصر الكوسمولوجية الأربعة إلى أصلها وحالتها البدئية. وعلى هذا الأساس، كما يقول باشلار، فإننا نقيم على الأرض، بطريقة شاعرية، وإن مصيرنا عليها مصير شاعري.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف استطاع باشلار أن يفكك معادلة النشاطات الإنسانية القائمة على مسارين يبدوان في ظاهرهما متناقضين، واحد ينظر إلى العقل بوصفه سبيلا للفوز بالحقيقة، أخص بالذكر هنا العلم، وآخر يرى في الخيال قوة قادرة على النفاذ إلى الجانب الخفي للوجود بعيدا عن العقل، وأقصد به الفن/الشعر؟ كيف استطاع هذا الرجل أن يُميط اللثام عن العلاقة الثاوية بين الرياضيات والشعر، بشكل يجعل كلا من الرياضي/ العالم والشاعر/الفنان يقتنع بفروض ونتائج هذه الأطروحة؟
إن موضوع العلاقة بين العلم والفن، أو الشعر بصيغة أخرى، موضوع قديم في المبحث الفلسفي، وقد تطرق إليه مفكرون كثر، إلا أن باشلار كما نبهنا، تميز عن غيره من المفكرين والفلاسفة، في طريقة معالجة هذا الموضوع. لقد تأسست فلسفته على طرح جديد في النظر إلى العلاقة بين العلم والشعر، ومن ثم بين العقل والخيال. إن انتقاد باشلار لمسار المبحث العلمي، والفكر الفلسفي السابق عليه، ناجم في الأساس عن تنكر هذين المبحثين لمجال الشعر، بما هو نشاط تخييلي.
وبذلك حاول باشلار التصدي لمثاليات العلم الطبيعي، لأنها تُجرد الإنسان من إنسانيته. وفي مقابل ذلك ينبغي على الفيلسوف، في نظر باشلار دائما، أن يفتح قنوات الحوار بين العلم والشعر، على الرغم من أنهما يبدوان معكوسين. وعليه فإن ما تأْمله الفلسفة، في هذا الإطار، «هو جعل الشعر والعلم متكاملين، والجمع بينهما أو التقاء الروح الشعرية الفياضة l esprit poetique – expansif – أي التي تفيض بالمشاعر – بالروح العلمية الكتومة lesprit scientifique taciture التي تعتبر النفور المبدئي احتياطا سليما (أي التي تبدأ بنقد كل شيء والابتعاد عن الانبهار بأي شيء)» (جاستون باشلار: «التحليل النفسي للنار).
والحق، يقول باشلار، إنه بقدر ما هناك علاقة وثيقة بين العلم والشعر، بقدر ما هناك، في المقابل، تمايزات بينهما، الشيء الذي يفيد بأن لكل واحد منهما هويته الخاصة، أي أن كل واحد مستقل عن الآخر. لكنه على الرغم من ذلك، فإن على الفيلسوف أن يستحضر، في عملية بناء وعيه، هذين القطبين: العلم/العقل والشعر/الخيال. لأن هذين القطبين ضروريان لبناء ما يسميه باشلار «الوعي الجديد la bonne conscience الذي يكون في أفضل حالاته حينما يتناوب بين الصور والتصورات» (نقلا عن «جاستون باشلار- جماليات الصورة»)
إن العلم والشعر (الفن) حسب باشلار، نشاطان مكملان لحياة الإنسان، إذ بهما يعرف أكثر، ويخلق من عالمه المعطى سلفا، عوالم جديدة، وعلى أساس هذا، يوجه باشلار نداء واضحا فحواه أنه على الإنسانية أن تحيا بالعقل والخيال، بالعلم والفن (الشعر). بالموازاة مع ذلك، يرى باشلار أن الفكر يبدو عاجزا عن قول ما يريده انطلاقا من ذاته فقط، لذلك فهو في حاجة دائمة إلى المجاز (أي الاستعارة). وبناء على هذا الأمر فإنه يمكن اعتبار المجاز/الاستعارة المجال المشترك بين العلم والشعر، بل إن باشلار يذهب أبعد من ذلك حينما يعتبر المجاز أصل الفكر والعلم معا. يقول في هذا السياق: «ففي ذلك الماضي السحيق للعالم.. كانت المجازات هي الفكر» (باشلار: «شعلة قنديل»).
هذه الخلاصة هي ما سيؤكدها كتابه «العقل العلمي الجديد». وفي كتابه «لهب شمعة» يذهب باشلار بفلسفته إلى أبعد مداها، حينما يعتبر أن جميع مواد هذا الكون، تحمل علامة شعرية، وأن كل باحث عن ماضي النيران الأولية للعالم، فهو حالم باللهب، وكل حالم باللهب فهو شاعر متقد.. شاعر يوسع الوعاء اللغوي، ويوسع العالم ومصيره لكي يفوز بالحقيقة، لذلك فالشاعر بوصفه حالما باللهب، دائما يعيش في الجانب المضيء/المعتم من كينونته، حاملا إلى الواقع وميضا، ومانحا التعبير إمكانات هائلة وغير متوقعة.
صفوة القول إن باشلار، خصوصا في خاتمة كتابه «لهب شمعة» يفتح طريقا جديدا، يؤكد من خلاله على العلاقة الخفية بين العلم والفن، وتحديدا بين الرياضي والشاعر، ذلك أن النشاطات الإنسانية القائمة بين هذين القطبين، لا يمكنهما البتة الاشتغال إلا بواسطة العقل والخيال، ودونهما لا يمكن للإنسان إطلاقا أن ينفتح على وجوده. فنحن البشر، يقول باشلار «نوجد ما دمنا نعمل» (انظر «جاستون باشلار ـ جماليات الصورة»).
إن هذه الفلسفة الباشلارية المتقدمة جدا في النظر إلى مكانة الرياضي والشاعر، في هذا الوجود، وكذا في العلاقة الكامنة بينهما، لم تتحقق إلا من داخل أطروحته الموسومة بـ»شاعرية العلم» التي اعتبر فيها الرياضيات مجالا للبحث عن الجمال، حتى إن كان هذا الجمال باردا، كما يقول الفيلسوف برتراند رسل، هذا الجمال الذي به يتوهج الشعر وبه يخلق الدهشة، وهو يسلط الضوء على المناطق الأكثر عتامة في وجودنا. قيمة الجمال عند الرياضي تأتي من طبيعة عمله الذي «يتميز بذلك الطابع الشاعري الإبداعي الذي ينطق بالكلمة، كلمة واقعية تتحدث إلى العقل، وتستحضر شيئا ما من الواقع» (جماليات الصورة). وبذلك يكون غاستون باشلار هو أكثر الفلاسفة انبهارا بالشعر، وهو من أهم المفكرين والفلاسفة ممن جعلوا من الشعر مادة اشتغالهم وانشغالهم، بحيث أصبح الشعر/الخيال محورا أساسا في مشروعه الفلسفي والعلمي والجمالي.
شاعر وناقد مغربي
أحقا إننا نقيم على الأرض، بطريقة شاعرية ?!
و مع ذلك فالخيال العلمي يختلف عن الخيال الفني ،فالاول يلتزم الى حد ما بعناصر الواقع ،بينما الثاني يتجاوز الواقع.