من اليُمن أن يكون لديك صديق تتحدث إليه وإن من بعيد، ويصير الحال عندما يكون صديقك شاعرا أنك كما لو كنتَ تُحادِث روحَكَ، تقول لها وتقول لك، وتسألها وتجيب.
– كيف حالك مع الحر الشديد في بغداد، نسمعُ أن الحرارة تعدت الخمسين؟
– هو حَر باذخٌ، وليس شديدا.
صححتُ قولةَ صديقي، ورحتُ أشرح له كيف أن للحر في بغداد شًذًا نحتاجه في كل سنة، وكان النحات محمد غني حكمت يستعذب العمل تحت لهب شمس تموز/يوليو، لأنه في بغداد يكون أحلى، وفي مدينة إسطنبول، والشاعر حسين مردان تُثقل عليه الغربة، لم يكن يتمنى شيئا في الوجود غير حر بغداد يوجهُ إلى أم قلبه، فهو الأعز لأنه دليل على النعمة والنعيم. هنالك في كل إحساس حس آخر موازٍ لا علاقة له بالأول، لكنه هو الحقيقي، والذي نتأثر به وتكون له البصمة في طباعنا. إن ما أشعر به من سخونة شديدة في الجو عندما تهب رياح السموم يختلف كثيرا وأنا أنظر النخل قربي يميل بجذعه مع عصفها، وعندها يميل عودي كذلك، ونصير نحن الاثنين -أنا وسيد الشجر- نتذوق التعب الذي في رقصة عسيرة تلم أجزاء الجسد لأنه تراخى كثيرا عند حضن الدلال في أيام الراحة. إن التعب والمشقة يوحدان القلبَ والذهن، وبهما تصفو النفس، وتأتي بأفكار لها حلاوة الرطب الجنية.
ـ يعني هذا أنك تُبارك الحر الذي يقاسي منه الجميع في بلدك؟!
– إن شمس العراق فيها من الروعة والجمال ما يستدعي أن يحمدَ العراقيون السماءَ مع كل إشراقة يوم جديد.
يُقال إن البلدان التي تفقدُ ذاكرتَها تموت من البرد. شمس العراق تتوقف في السماء في الصيف، وتتلبثُ طويلا، وتشوي بصورة لا تحتمل من الشروق وحتى الغروب، وفي الليل يمتد سَهب قمري ملتهب حتى الجانب الآخر من الدنيا، والنجوم من حوله غبش، يحسب من يراها نفسه أحد أبطال قصص ألف ليلة وليلة، وسوف تُروى حكايته في إحدى الليالي. رغم شدته، لا يشبه الحر في بغدادَ معطفًا غليظا، كما هو الحال في المدن التي تحيط بها الصحراء، فرائحة الماضي لا تخطِئها الأنف في أي ركن من المدينة، وهناك من الناس من يتمنى الحر في الصيف كضرورة جسدية سنوية، لأنه يأتي ومعه هبات إشراق على الوجوه، التي تنمو فيها الملاحة كلما ازداد الحر وطبخ الحلاوة في التمر. يقول الشاعر ملا عبود الكرخي (1861 – 1946): «بغدادْ مَبْنِيهْ بْتَمُرْ (مِن تَمْر) \ فَلشْ وكُلْ خَسْتاوِي».
وهذا هو أحد أصناف التمور التي تبلغ في العراق المئات. فَلَش: بعثر، وكان التمْر يُحفظ بأن يُكبس في علبة اسطوانية الشكل من الخوص (حِلانة) وتُدعى عملية الأخذ منها (تفليش). شبّه الشاعر مدينة بغداد بصورة حِلانة تمرٍ من النوع الخستاوي، وهذا تغزلٌ بالمكان لم يسبق الشاعر الكرخي فيه أحد. كانت في بيتنا نخلات ثلاث، تمرُها اسمه (أصابع العروس) وفي الوقت الذي تقوم فيه أمي وخالتي، تساعدهما الخادمة (بخيته) بتهيئة وجبة الغداء، كنت أصعد وأنا صبي إحدى النخلات، وأجني لكل فرد في البيت عشْرَ تمرات أنتقيها من غابة الأعذاق التي تملأ الفضاء حولي، أما التمر «الخستاوي» فكان لدينا منه خمسُ نخلات في جهة أخرى من حديقة البيت، وميزة هذا الصنف أنه يعطي نتاجه أواخرَ الربيع، وتحملُ النخلة قبل أن يعلو جذعها، تقطفُ منها التمر وأنتَ واقف، فلا تتعب نفسك في صعود الجذع والهبوط منه. كنتُ أجني من هذا التمر في الصباح، ليكونَ في وجبة الفطور.
أيام الحر الشديد ندعوها باسم (طباخات الرطَب) ومن يشأ التعرف على الحر في بغداد فلا بد له من هذا المشهد؛ في أحد أيام الصيف وعند وقت الفجر صادفتُ كهلا ينتبذ ركنا من الرصيف، ويروح بيده على وجهه بمِرْوحة من الخوص، ويحاول باليد الأخرى التقاط الظل الصغير للّطف الذي خلفته نجوم الليل التي غابت، والذي يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر. موعد الأذان التالي يحل في الظهيرة، وعندها تتحول أشعة الشمس إلى ما يشبه السياط، ويطفو الشارع في بخار الحر، ويتغير لون إسفلته، ويكون لظلال الأشجار مظهر نقي. في مثل هذا الطقس يصير الحر لدى الكهل الذي مرّ ذكره شعريا بحق، ويشعر بأنه يعيش في عالم يرى فيه ما يملأ حياة البهيمة والطير من سعادة لا تتحقق لبني البشر، إلا في ظروف تتطلب منهم بذلا شديدا في النفس لا يقدر عليه أغلبهم. أليس هذا هو تعريف الشعر، بذل النفس والتماهي مع الطبيعة؟ هي ذي الشمس تسوط من جميع الجوانب، كما أنك لا تعدم أن ترى في عز الظهيرة، أي في الثانية أو الثالثة، في مقهى على الرصيف رجلا بالملابس العراقية التقليدية: صاية (ثوب طويل بلا كمين) مع قميص وسترة وكوفية وعقال، يحمل عباءة رجالية مطوية فوق ذراعه، يشرب الشاي الساخن، ويصيح بالشباب الجالسين في المقهى، وهم من عمال البناء في أيام العطالة: – أين هو الحر؟ أنتم نائمون في ريش النعَام؟ ويقصد بالريش الظل فقط لأن المِروحة الهوائية ساكنة بسبب انقطاع الكهرباء، وأذرعها يغطيها الذباب النائم. أنعش الحر قلبَ هذا القروي فتزيا له بأجمل زي، كما أنه يعيد بواسطته تأليف عالمه الذي يهواه، وتربى على شميم هوائه في كل صيف. والأشجار تنتعش هي الأخرى في شمس يوليو وآب/أغسطس، خصوصا النخل والسدر، وتعيد تأسيس عالمها الفريد، يطبخ سيد الشجر في أتون لهيب الصيف أحلى العسل وأنقاه، وتنزع السدرة لونها القديم وتزدهي منذ أول هبة لرياح السموم بلون أخضرَ ذهبي صافٍ ولامع يذهب عنه نقاؤه تدريجيا ما إن تهدأ مع الأيام وقْدة الصيف، وإذا علمنا أن هاتين الشجرتين مقدستَان في العراق، زالت منا الدهشة في ما يتعلق بحب العراقيين لشمسهم، وتفضيلها على ما في جنة الخُلد. يقول شاعر العراق الأول بدر شاكر السِياب: «الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها/ والظلام، حتى الظلام هناك أجملُ/ فهو يحتضن العراق».
امرأتي غاضبة على ابنها وهو نائم، وهو يقظ، وغاضبة عليّ كذلك إذا تكلمت، وإذا سكت. لم تحتمل أكثر من ذلك، وأجهشتْ بالبكاء، وكانت تلعن الظلام والحَر وتشتم النمل.
ويرسم الحر كذلك كاحل امرأتي بالزعفران وراحتها بالأرجوان، والشفتان تصطبغان بلون الصبر، حتى أظفارها تتلون بالأنوثة في الأيام التي تبذخ فيها السماء علينا حرّها الخرافي، يدخل فينا من فتحات الجسد ومساماته، خصوصا ما ينفذ منه خلال الأذن إلى الدماغ. يسمع البغادة الحر في مدينتهم العريقة، ويصغون إليه، ويصيخون سمعهم، لكن الحُب يجرد قيظ يوليو من جِدته، وتحتاج الحياة إلى بذل مزيد من الحب من أجل احتمال هذا الجحيم الطيب.
– لكنك تتحدث عن الواقع بلغة الأدب.
قال صديقي الشاعر، وأجبته بكلام ليس مني، إنما هو بعض من حوار جرى بيني وبين رفيقة لي في درب الطب، اختصرتْ هي ما أردتُ قولَه بكلمات قليلة: «من زمان وأنا أتغنى بحرارة تموز وشمسه اللاهبة التي لا يعرف طعمها إلا العراقي. في أوروبا تحس بأنك تذوب من الحر وتكره الحياة والحرارة لا تتجاوز الدرجة الثلاثين مئوية، لكني أستمتع بحرارة بغداد التي تتجاوز الخمسين، وأرتوي بطعم الهواء اللافح (السموم) يضرب وجهي ويجفف عرقي، ويجعلني أحس مجددا بطعم الحياة في بلدي».*
حتى القمر فرّ من السماء من شدة الحر.. كنا، امرأتي وأنا، مبللين بالعرق، عاريين تقريباً. جدران الغرفة ساخنة إلى درجة أن لا أحد منا يستطيع لمسها.
«تكلمْ معي!» هتفت بي (ليلى) وتردد صوتها عند النافذة التي تطل على المستنقع، حيث تلتقي طرق مجاري المياه الوسخة الخارجة من بيوت الحي. «تكلمْ معي وإلا فإن عقلي سوف يضيع مني». قالت، وشرعَ (محمد) في البكاء، هزته بين ذراعيها المبللتين بعرقها وعرقه.
«الولد يموت من الحر وأنت ساكت. تكلم معي، أرجوك!». كانت غيمة شفيفة من الحر تتشكل فوق رأس ابني وهو يبكي، وتهزه ليلى، ويعاود النوم، وكان يبتسم في أثناء نومه بينما أمه تئن وتلعن الظلام والحر وتشتم النمل.
«الذباب والبق لا يعيشان هنا، النمل الفارسي وحده يتحمل هذا الجحيم». إن مسألة الحر تهون لأن أبخرة المستنقع صارت تمتزج بعرق أجسادنا وتمنع عنا الهواء المُر والطيب، وكنا نسمع الطنين اللجوج والأصم للساعة المعلقة على الجدار، التي لا تريد أن تنقضي. تحولت حرارة الجو فجأة إلى سخونة باردة، وعندما اشتدت مع سكون الهواء صارت ثلجية. وهو يرضع، تنهد الطفل تنهد حمامة. هزته أمه بعنف:
«كيف تطيق هذا الحر وتنام؟!»
امرأتي غاضبة على ابنها وهو نائم، وهو يقظ، وغاضبة عليّ كذلك إذا تكلمت، وإذا سكت. لم تحتمل أكثر من ذلك، وأجهشتْ بالبكاء، وكانت تلعن الظلام والحَر وتشتم النمل.
كاتب عراقي
نعم كانت بغداد مبنية بالخير والأمن والطيبة والان الأحزاب الغريبة اكلت التمر وسحقت النوى والإنسان الشريف.