موت الكلام سريريا

كانت معجزة حقا أن تكلم يسوع عليه السلام في المهد. تكلم حسب النص القرآني كي يدافع عن السيدة العذراء مريم. من الناحية العلمية وخارج نطاق المعجزة، ليس المرء مخولا أن ينطق في المهد بلغة مفهومة، يجب أن يمر وقت حتى يتدرب ويفتق لسانه ويتكلم بلسان قومه. يبدأ الطفل بنطق كلماته الأولى قبيل عامه الأول أو بُعيده بقليل، ولن يستطيع بناء الجمل في العادة إلا بعد عامين.
لنطق الكلمة الأولى قيمة، ولاسيما حين تكون الكلمة (ماما). (ماما) ليست كما نعتقدها كلمة واحدة من منظار الطفل هي في ميزانه بمثابة الكلمة الجملة، أو الكلمة الرسالة. حين يقول (ماما) فكأنه قال في سياق الهدوء: (أحبك يا أحلى ماما) ولكن بطريقته. من الممكن أن يستعمل الطفل كلمات غير موجودة هي في الأصل تأويل صوتي لما قد يسمعه من كلمات متداولة. يلد الكلام شيئا فشيئا ونحتفي به حين نسمعه على لسان الصبْيَة وأحيانا نضحك حتى نستلقي من كلماتهم التي بها عوج. ونظل نراقبهم حتى يَفْتُقَ لسانهم بالكلام، كما انطلقت بالمشي سيقانهم. الجديد أن بعض الدراسات الغربية، أثبتت أن تعلم اللغة يبدأ في الأشهر الأخيرة من الحمل والطفل في قفص الرحم. فالجهاز السمعي للجنين يعمل في هذه المرحلة.
من بداية العمر ونحن نتكلم لنقول المفيد وغير المفيد، لنحزَن ونُحزِن لنُضحك ونَضحك نتكلم مع الغرباء حتى إذا استأنسوا بكلامنا صاروا قُرَبَاءَ، ونتكلم مع القريب حتى يصبح حبيبا ونتكلم مع من نحب حتى إذا حدثت الخطوب وكرهنا لن تطيق أذنه سماعا لأنفاس كلماتنا. الكلام هو نشاطنا الذي يتلبس بنا ويظل حيا معنا ويموت حين نموت. هناك حقائق لا نعلمها عن الكلام، ولكن اللسانيات اليوم أعلمتنا بها واستعملت هذه المعطيات في أحكامها وأوصافها العلمية. من هذه الحقائق أننا حين نتكلم يكون كلامنا في الحاضر: أي أن لحظة الكلام هي اللحظة التي نقيس بها الحاضر المتجدد، حين تشرع في الكلام يكون ذلك حاضرك التلفظي؛ ولا يتقدم الكلام ولا يتأخر ولا يصبح ماضيا إلا حين تقوله؛ أما وأنت تقوله فهو الحاضر أبدا. يموت الكلام بانتهاء قوله وهناك كلام يُخزّن في الذاكرة ولكن أغلب الكلام الذي نقوله يموت في لحظة قوله، ولحظة قوله هي حاضره.

لحظة الحديث الحاضرة استعملها الدارسون لكي يعرفوا الأفعال وفق الأزمنة. ليس الفعل الماضي في النحو القديم عندنا، ولا في اللسانيات الحديثة الفعل الذي وقع في الماضي.

لحظة الحديث الحاضرة استعملها الدارسون لكي يعرفوا الأفعال وفق الأزمنة. ليس الفعل الماضي في النحو القديم عندنا، ولا في اللسانيات الحديثة الفعل الذي وقع في الماضي. فذلك الماضي زمان، ولكنه ليس لغويا إنه زمان فلكي يتحدد بحركات الفلك في الطبيعة، ولا علاقة له بتحديد الزمان في اللغة. الفعل الماضي هو الفعل الذي قيل بعد زمان تلفظك به حين تقول (أحْبَبْتُها) فأنت تقول هذا الفعل في حاضرك، أي في لحظة تلفظك بالقول وهو الآن، وفعل (أحببتُ) يقع في حيز سابق لزمن تلفظك به، ولذلك يكون ماضيا. هنا ينبغي أن نميز بين زمن التلفظ، أو الحديث وهو الحاضر المتجدد بتجدد عملية القول، وزمن الحدث الذي يقع سابقا ولذلك يكون ماضيا. لو قلت (سوف أحب) فإن الفعل سيكون في المستقبل لا لأنه واقع بعد زمن تلفظك به. لو كنت تعيش حبك مع من تحب الآن وقلت (أنا أحبها) ففعلك في الحال (أو الحاضر) لأنه يتقاطع مع زمن التلفظ: أنت الآن تتكلم والآن تحب.

بعضُ الفلاسفة القدامى شككوا في هذا (الآن) الذي لا يستمر فقالوا إنه لا يمكن أن يوجد زمان حاضر، أو حال، لأنك وأنت تتحدث عنه يصير جزء منه ماضيا، وجزء آخر مستقبلا.
ما يعنينا ههنا هو أنه، على الرغم من أن أجدادنا من النحاة القدامى، أثاروا هذه المسألة في كتبهم وعرفوا الأفعال بهذا المقياس الذي أقرته اللسانيات الحديثة، فإن كثيرا من مدرسينا يعتقدون أن الماضي من الأفعال هو الذي جرى وحدث في الماضي، وأن المستقبل من الأفعال ما سيدور في المستقبل، وأن الحاضر هو الذي يدور الآن من الأحداث. لم يستطع علمنا الذي نعلمه عن تصريف الأفعال في الماضي أن يأخذ معطياته من دور اللحظة التي نتحدث فيها، وكيف أن هذه اللحظة التي نمارس فيها الكلام هي لحظة مهمة بالنسبة إلى ضبط الأفعال ماضيا، أو مستقبلا، أو حالا.

الكثيرُ من العلاج النفسي يكون بالكلام؛ لكن لا علاقة مباشرة بين العاطفة والكلام، إنما العلاقة تمر عبر العرفان، أي عبر معالجة ذهننا للعاطفة وللكلام معا. تؤثر العاطفة في كيفية معالجتنا للمعلومات بما في ذلك الانتباه والتعلم والذاكرة والتفكير وحل المشاكل.

ما يزال في الحضارة العربية استهانة بالكلام، وما زلنا نقول لمن يتكلم كثيرا إنه يتكلم ولا يفعل، ونعتبر ذلك عجزا في موازين الأفعال واختلالا. لم تقنع كثير من النظريات الحديثة التي أثر فيها الفلاسفة التحليليون عقلية بالية تفصل بين القول والفعل. ما زلنا حين نريد أن نمدح شخصا نعتبره «عمليا»، وحين نزري بشخص ننسبه إلى الكلام، ونغني له أغنية داليدا (بارول Paroles) أي كلمات ولا شيء غير الكلام. كثير من أنشطتنا الكلامية تنجز بالقول بدءا من الأحكام إلى كثير من المواثيق. أقوى أفعال السلطة تنجز أقوالا وأقوى أفعال الخالق وهي الخلق كانت قولا: (كن فيكون). لكن أقوال العامة في ما بينها وهي في المقهى أو في الشارع في القطار أو في المطار هي أيضا أقوال نافذة، بدءا من مدح أحدهم أو ذمه وصولا إلى الاستفسار عن موعد الرحلة والامتثال للمعلومة المقدمة لنا قولا حول أن القطار سيصل في وقته أو أنه سيتأخر أو أنه لن يأتي. في قطار العمر نحتاج في حياتنا العاطفية الكلامَ. كثير من تشنجاتنا هي جراء كلام ليس في موضعه وكثير من هدوئنا بعد تشنجنا يكون بكلام يخفف علينا.

الكثيرُ من العلاج النفسي يكون بالكلام؛ لكن لا علاقة مباشرة بين العاطفة والكلام، إنما العلاقة تمر عبر العرفان، أي عبر معالجة ذهننا للعاطفة وللكلام معا. تؤثر العاطفة في كيفية معالجتنا للمعلومات بما في ذلك الانتباه والتعلم والذاكرة والتفكير وحل المشاكل. وما من شك في أن الحديث الذي يكون في سياق شعور متشنج سيكون من جنس تلك العاطفة المتشنجة، والحديث في سياق شعور عادي أو إيجابي سيكون من جنس ذلك الشعور. أول مظاهر التأثير تلحظ في المنحنى اللحني الذي يتخذه صوتنا ونحن نتحدث، فمن الممكن أن يصعد المنحنى النغمي بتصاعد منحنى العواطف وينخفض بانخفاضها؛ ومن الصعب أن يتحكم المرء في ذلك المنحنى فذلك يتطلب جهدا عرفانيا مضاعفا يقتضي أن يعالج الصوت معالجة ليس فيها تناسب بين منحنى التشنج المرتفع ومنحنى نبرة الصوت المرتفعة. لا يوجد شخص هادئ عند الغضب، فهذا توصيف غير دقيق؛ يوجد شخص قادر على التحكم في معالجة اللغة، بما لا يتناسب مع حمو الموقف. ما نسميه بعبارة بسيطة التحكم في الأعصاب صحيح لكنه تحكم في طريقة معالجة الذهن للكلام وللحركة في سياق عاطفي متشنج. أنا أعتقد وليست لي حجج علمية في الأمر، أن عدم التناسب بين الموقف الانفعالي واللغة التي تناسبه هو ضرب من التعديل لسلوك لغوي وجسدي يتطلب معالجة عرفانية، أقوى من تلك التي تسمح لجعل الصوت والكلام يعزف على اللحن نفسه، الذي يعزف عليه المقام العاطفي غضبا، أو حزنا، أو فرحا، أو غيره. نحن نتعجب ممن يأتيه خبر مفرح ولا يبدي لا في لغته ولا في جسده رد فعل يناسب العاطفة التي تفرزها، ولكننا نعجب بمن تحكم في أعصابه عند الغضب، نعجب به وحق لنا العجب كيف استطاع أن يبذل من القوة الذهنية ما لا طاقة لشخص عادي في ثقافة شبيهة أن يفعله. شخص لا يبدي حراكا كبيرا في موقف انفعالي عاطفي عاصف، ويتكلم بالبرود الغريب هو شخص مات كلامه سريريا. الموت لا يخشى أحدا وإن كان الكل يخشاه. يموت الكلام سريريا لأنه كان يخشى أن يخرج فيكون الموت له بالمرصاد.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية