هذا كتاب صادر عن دار الرواق المصرية للكاتب الشاب محمد غنيمة. محمد باحث في التاريخ والوثائق يخرج عن المعتاد من البحث فيضع يده على محطات بين من يجذبونه للكتابة عنهم من المشاهير، قد تمر على غيره. وتحمله الكتابة الأدبية والفنية أحيانا ويظهر هذا في كتابه الأسبق «عروش تتهاوى» الصادر عن الدار نفسها الذي يتقصى اللحظات الأخيرة والنهاية الدرامية لموت محمد علي باشا وابنائه وأحفاده الذين حكموا مصر حتى الملك فاروق.
لهذا الكتاب «ذاكرة النخبة» عنوان فرعي «أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ» يتحدث عن وثائق ومواقف في تاريخ كثير من الشخصيات، ربما تكون مرت على كتب المؤرخين أو جاءت بها ولم يقف عندها أحد. لقد قام بالبحث في أرشيف كل من تحدث عنهم ليصل إلى هذه الذاكرة. لكن قبلها يتحدث عن بعض الغرائب التي لا يذكرها أحد من تاريخ الجبرتي، الذي يعد كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» مصدرا رئيسيا لتوثيق الأحداث في مصر إبان الحملة الفرنسية، والفترة الأولى من حكم محمد علي، وقبلهما مصر العثمانية. أشاد الجبرتي في كتابه بالمظاهر العلمية للحملة الفرنسية، لكنه تناول الحياة اليومية للمجتمع المصري، شارحا تدهور الحياة الفكرية بشقيها من العلوم الدينية والفكرية من ناحية، ومن الانحرافات التي ظهرت في الحياة الدينية وممارسة العقيدة.
يقف الباحث محمد غنيمة عند الإيمان الغريب من الأهالي بالخوارق والكرامات الصوفية التي انتشرت في زمن الأوبئة والمجاعات، ومن ثم كان حرص الجبرتي على التدوين لكرامات الصوفية، وكيف ابتعدت عن الصوفية، فيذكر أسماء مختلفة من أهل الكرامات مثل الشيخ المجذوب أحمد أبو شوشة، والشيخ علي البكري الذي كان يمشي عاريا، تتابعه امرأة ظن الناس أنها جُذبت إليه. من يمشون وراءهما يثيرون ضجة في الأسواق ويسرقون، وتنتشر الشائعات عن القيامة بعد غدٍ، فيصدقها الناس ويكادون يجنون، كما تنتشر حكايات الجن التي يسخرها أولئك المجاذيب. تدخل عادات جديدة للمجتمع المصري مع الحملة الفرنسية مثل التبرج والتحرر والمقاهي والخمارات، وتصل إلى الاحتفالات بهذا النوع من أصحاب الكرامات البعيدة عن الصوفية، فتشهد سهرات وخمرا ودعارة جوار الضريح. يحكي حكاية زينب ابنة الشيخ البكري، التي كان أبوها قريبا من نابليون وفُتنت هي بنابليون، حتى قال الجبرتي أنها عاشرته، وتناقلت بين القادة الفرنسيين تشرب الخمر وتمارس المجون، لكن أهلها قتلوها في النهاية، ومثلها كانت «هوى» التي كانت زوجة لأحد عساكر الإنكشارية العثمانية الذين فروا إلى الصعيد مع المماليك، وكيف انتهت حياتها بقضم رقبتها أيضا من قبل زوجها الذي عاد بعد خروج الحملة الفرنسية.
أزمة الجبرتي بعد وفاة ابنه خليل مقتولا، وظنه أن محمد علي وراء قتله، لأن محمد علي كان يبغض الجبرتي لمناصرته للوهابيين من جهة، ولأنه رفض أن يكتب كتابا يمدح فيه محمد علي. ينتقل إلى الفكاهة وكيف انتشرت، كما جاء في كتاب الجبرتي. يتحدث عن شاعر اسمه الشيخ عامر الأنبوطي اشتهر بخفة الدم والمرح، فكان يعيد صياغة القصائد الشهيرة إلى قصائد عن الطعام. فعل ذلك مع ألفية بن مالك ومع لامية ابن الوردي، فزخرت قصيدته بكل أنواع الطعام، حتى لتبدو مرجعا في ما كان يأكله المصريون.
من الجديد بعيدا عن الجبرتي، بل من الوثائق، أن نرى وجها آخر لشامبليون. ففي الوقت الذي كان شامبليون حريصا على الطلب من محمد علي إنشاء مصلحة لحماية الآثار، كان أيضا يريد منها، كان صاحب اقتراح نقل مسلة فرعونية من معبد الأقصر إلى باريس من باب تدعيم العلاقات مع فرنسا، ورغم أن محمد علي تلكأ، فقد حدث النقل لمسلة تحوتمس الثالث إلى ميدان الكونكورد، مقابل ساعة تلقاها محمد علي من الملك لويس فيليب، وهي الساعة التي رُكِّبت في قصر محمد علي في القلعة. لقد بدا شامبليون حريصا على الآثار المصرية، لكنه عاد إلى باريس محملا بكنز منها يقدر بأكثر من مئة قطعة مدهشة، صارت في فرنسا حتى الآن.
يتحدث عن شاعر اسمه الشيخ عامر الأنبوطي اشتهر بخفة الدم والمرح، فكان يعيد صياغة القصائد الشهيرة إلى قصائد عن الطعام. فعل ذلك مع ألفية بن مالك ومع لامية ابن الوردي، فزخرت قصيدته بكل أنواع الطعام، حتى لتبدو مرجعا في ما كان يأكله المصريون.
ننتقل إلى محمد علي نفسه وكيف يحكي عن انتصاراته على الحركة الوهابية بنفسه. ورسالته إلى دروفتي قنصل فرنسا في مصر، عن عزمهم على ما سيفعلون وما جرى، وينهيها قائلا، «وقد كتبنا هذه الرسالة لإحاطتك علما بهذه الأخبار، وحين تصل إليك الرسالة نرجو ألا تنسانا من الدعاء في صلواتك». كذلك كيف دبر محمد علي خطة لتهريب نابليون من منفاه في جزيرة سانت هيلانة. لقد كان محمد علي مغرما بنابليون حتى أن بعض المؤرخين يرون أن محمد علي أزاح تاريخ ميلاده عاما ليكون تاريخ ميلاد نابليون نفسه. رفض نابليون تهريبه إلى الإسكندرية وحاول محمد علي تكرار الأمر، إلا أنه انشغل بالحروب في الشام وضد العثمانيين والثورات في صعيد مصر. من الشخصيات التي يقف عندها الكاتب محمود باشا الفلكي، أهم عالم مصري في علم الفلك وقتها، الذي تعلم في باريس في عهد عباس الأول. يحكي عن براعته في علم الفلك وشهرته في العالم، وكيف توصل إلى أن ميلاد الرسول محمد عليه السلام كان في التاسع من ربيع الأول الموافق للعشرين من إبريل/نيسان عام 571 ميلادية، وعند وفاته كان قد بلغ ستين سنة شمسية وثمانية وعشرين يوما، أو ثلاثة وستين سنة قمرية وثلاثة أيام، كذلك تحديد الأعوام التي بُنيت فيها الأهرامات.
بعد ذلك مراسلات لصفية زغلول بعد حديث عن دورها العظيم وغيرها من النساء مثل هدى شعراوي في ثورة 1919، مراسلات لزوجها سعد زغلول، أو للمندوب السامي البريطاني اللورد اللنبي من أجل زوجها الذي في المنفي. يقدم نماذج منها وهي في مصر، أو حين سافرت لتلحق بزوجها في منفاه الجديد في جبل طارق. هذه الرسائل يسميها الزغلوليات. كيف تآمر طه حسين لإدخال البنات إلى الجامعة هو ولطفي السيد والدكتور علي باشا إبراهيم، دون إخطار وزارة المعارف والحكومة المصرية، وكانت أجمل مؤامرة. أسماء الفتيات اللاتي كانت أولهنّ سهير القلماوي ومنهن فاطمة سالم ونعيمة الأيوبي، وكيف اشترط عليهن أن لا يعلن ذلك حتى لا تنتبه الصحف، فيتدخل الرأي العام ويفسد الخطة وقد كان.
أما علي مصطفى مشرفة العالم المصري في الذرة، الذي رثاه آينشتاين حين موته، فكان له دوره أيضا في إثراء الحركة الفنية والأدبية بتقديمه تبسيطا للعلوم في الإذاعة، ولاهتمامه الكبير بالموسيقى وعزفه البارع على الكمان، وكيف قدم أبحاثا عن السلم الموسيقي وأسس الجمعية المصرية لهواة الموسيقى. عن جمال حمدان وكيف رأى الجغرافيا سندريللا العلوم. فالجغرافيا قد تراها قمة العلوم، لكنها قمة الثقافة، دونها أنت غير مثقف مهما فعلت، وبها أنت مثقف مهما قصّرت، داعيا إلى مدرسة جديدة للجغرافيا تخرج من النطاق الأكاديمي، إلى رحاب الحياة الواسعة، فالعلم نثر شعره الجغرافيا! قصة حبه حين درس في إنكلترا لزميلة اسمها ويليما، وكيف بعد أن حصل على الدكتوراه رفضت الزواج منه والعودة معه إلى مصر فعاش بلا زواج. كلنا نعرف الشكوك في وفاته وكيف يمكن أن يكون وراءها الموساد الإسرائيلي، لكتاباته في الصهيونية واليهود وبني إسرائيل.
حديث عن مشاريع لغزو مصر قبل الحملة الفرنسية وبعدها، من مراسلات نابليون لحكومة الديركتوار ـ الإدارة – الفرنسية بعد الثورة نعرف أن نابليون اقترح ذلك، لكن هنا نعرف أنها لم تكن أول مرة. قبله أرسل الفيلسوف لايبنتز إلى الملك لويس الرابع عشر اقتراحا بغزو بلاد الفراعنة، فهذا هو هو أضخم مشروع يمكن تصوره. لم يكن وحده، بل كان هناك أيضا البارون دي توت وغيره، فجاءت الحملة الفرنسية في ما بعد استجابة لطلب قديم لموقع مصر في العالم.
الكتاب فيه جهد بحثي وأيضا لغة أدبية جاذبة لا تفارق الكاتب فلا يفارقك الكتاب. هو ذاكرة النخبة وعن النخبة أيضا.
روائي مصري
شكرا للاستاذ ذكرتمونا بهذا العالم الفيزيائي الكبير الذي جاء قبل وقته فقد كان عملاقا في دراسته غي تلك الفترة التي سادت فيه الخرافة والتخلف ونال فيه حكام الجور من الشعوب العربية المتخلفة فزادونا في نشر الجهل حتي عادوا بنا الي العصور الجاهلية رغم أن هذه الشعوب تعيش في القرن العشرين قرن كل التحولات .شكرا .
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. رائع جدًا في الحقيقة هذا الكتاب وهذا المقال. أريد فقط أن أضيف ملاحظة للتوضيح. بحثت عن العالم علي مصطفى مشرفة، ولم أكن أسمع عنه من قبل وغم أني أعمل في نغس المجال البحثي، واطلعت على أحد أهم أبحاثة. في زمنه وبالتسبة لمصر والعالم العربي لاشك أنه عالم كبير لكن كون أينشتاين رثاه عند وفاته يعود فينا أعتقد لصداقة بينهما وربما لايعني أن أعماله أبحاثة العلمية ترقى إلى هذا المستوى العالمي الذي وصل إليه الكبار مثل أينشتلين وغيره من علماء ذلك الزمان. في الحقيقة مازال هذا الأمر ينقصنا على المستوى العربي، أي الإرتقاء بأبحاثنا وأعمالنا البحثية إلى مصافي البحث العلمي العالمي. طبعًا يحضرني هنا العالم أحمد زويل رحمه الله الحائز على جائزة نوبل لكنه بقي حالة خاصة.