المناكفات الليبية الليبية قد تُعطل الحوار الدائر بين بعض الأطراف الإقليمية، بوساطة قطرية، للإعداد لمؤتمر جامع يُعيد عربة الحل السياسي إلى السكة.
ثلاث مذكرات تفاهم جديدة بين ليبيا وتركيا قصمت ظهر حكومة عبد الحميد الدبيبة، إذ عمقت الاستقطابات الإقليمية ضده، وأتاحت لخصومه مطاعن أضعفت موقعه داخليا وخارجيا. وكان لافتا أن أنقرة أرسلت وفدا رفيع المستوى إلى طرابلس، برئاسة وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. وفي خطوة كررت ما تم في العام 2019 من تبادل مذكرات تفاهم بين حكومة فايز السراج والحكومة التركية، تخص ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وقعت وزيرة الخارجية الحالية نجلاء المنقوش، مع نظيرها أوغلو مذكرة تفاهم للتنقيب المشترك عن النفط والغاز في المياه الليبية.
عمليًا، ستفتح هذه الاتفاقية مساحات أكبر أمام تركيا للتنقيب عن مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط وجنوبه، في مناطق تعتبرُ اليونان وقبرص أنها تابعة لهما. كما وصفتها مصر من قبل بأنها «غير قانونية». وكانت هذه المذكرة واحدة من ثلاث مذكرات تفاهم مع أنقرة بشأن التعاون في مجالات الطاقة والدفاع والإعلام.
وستبقى المذكرة «سارية المفعول لمدة ثلاث سنوات، ويتم تجديدها لفترات متتالية ما لم يُخطر أحد الأطراف بإلغائها». كما يجوز إنهاء المذكرة ببادرة من أي طرف في أي وقت، عن طريق إعطاء إشعار كتابي مسبق بثلاثة أشهر. ونفخت المذكرات الجديدة النار في رماد الخلافات الليبية-الليبية والإقليمية إذ أثارت حفيظة الجيران، وأساسا مصر واليونان، كما أغضبت الاتحاد الأوروبي غريم تركيا. وتبلور نوع من الاجماع على كون حكومة الدبيبة غير مؤهلة للتوقيع على هكذا اتفاقات، بوصفها مؤقتة تقتصر مهمتها على الإعداد للانتخابات. وشمل طيف المُعترضين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي خالد المشري، على الرغم من انتماء الأخير للتيار الإخواني الليبي، القريب من تركيا.
كما شمل الاعتراض أيضا رئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية بمجلس النواب الليبي، عيسى العريبي، الذي اعتبر الاتفاقات الموقعة مع الجانب التركي «غير قانونية وغير ملزمة». وعزف العريبي على وتر المناطقية، إذ اعتبر في بيان له أن هكذا اتفاقات «تسلب برقة (شرق) حقها النفطي، بسبب الحكومة منتهية الولاية بطرابلس (غرب) والتي لا تملك السيطرة ولا الحكم على برقة وفزان (جنوب)».
وفي السياق أعلن ثلاثة وسبعون عضوا بمجلس الدولة، أن توقيع حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة على مثل هذه المذكرات الغامضة «وفي مثل هذا التوقيت يمثل محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع». ورفضوا ما سموها «انتهازية سياسية من الأشقاء الأتراك» معتبرين أن ذلك قد يضعهم، أي الأتراك، مستقبلا في مواجهة المصالح الوطنية الكبرى لليبيا، في الوقت الذي يسعى فيه الليبيون للتوافق من أجل استعادة الدولة وقرارها الوطني.
أكثر من ذلك، أثارت المذكرات خلافات داخل حكومة الدبيبة ذاتها، إذ أبدى وزير النفط والغاز محمد عون ملاحظات جوهرية على النسخة التي اطلع عليها قبل يوم التوقيع. ولم تُؤخذ تلك الملاحظات في الاعتبار، بالرغم من كونه أشعر زملاءه في الحكومة بأنه لن يُوقع على مذكرة التفاهم المتعلقة بالتفتيش المشترك عن النفط والغاز في المياه الليبية. وفي يوم التوقيع كان عون موجودا في مهمة رسمية بأفريقيا الجنوبية، فأتت الصدفة مواتية لتكليف وزير الاقتصاد محمد الحويج بالتوقيع على الوثيقة بوصفه «وزير النفط والغاز بالوكالة». والأرجح أن الدبيبة ثبت هذا الأمر الواقع، واعتبر عون مستقيلا وسمى في مكانه الحويج وزيرا للنفط بالوكالة. وأتى الرد الرسمي الوحيد على تلك الانتقادات من الحويج الذي اعتبر أن المذكرة ليست اتفاقية وإنما مذكرة تفاهم، «ترمي إلى الاستثمار واستغلال الظرف الدولي، والحاجة الملحة للطاقة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية».
سحب المرتزقة
هذه المناكفات الليبية الليبية قد تُعطل الحوار الدائر بين بعض الأطراف الإقليمية، بوساطة قطرية، للإعداد لمؤتمر جامع يُعيد عربة الحل السياسي إلى السكة. وتزايد الحديث في الفترة الأخيرة عن مشروع إقامة مؤتمر ثالث في برلين يُمهد لانتخابات تُفضي إلى تشكيل حكومة منتخبة. وكان هذا الأمر في قلب الزيارة الأولى التي أداها المبعوث الألماني الخاص إلى ليبيا كريستيان باك، حيث اجتمع مع الوزيرة المنقوش وبحث معها إمكان عقد مؤتمر «برلين 3» ما اعتُبر أمارة على عودة ألمانيا إلى دور قيادي في العملية السياسية. وتحدثت المنقوش بعد اجتماعها مع الموفد الألماني الخاص عن «خريطة طريق مختصرة وواضحة المعالم، تحدد الالتزامات تجاه العملية الانتخابية» من دون إعطاء تفاصيل.
وتُعزى عودة الاهتمام الألماني بالملف الليبي إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا، وانعكاساتها على أسواق الغاز في العالم. ويمكن القول إن ألمانيا حازت على وكالة من الأمريكيين لإدارة الحل السلمي في ليبيا، بعد إخفاق الدبلوماسيتين الفرنسية والإيطالية في تحقيق اختراق نوعي على طريق المصالحة والتسوية السلمية للصراع. وساهم الانسحاب الفرنسي الاستراتيجي من منطقتي الساحل والصحراء، في فسح المجال أمام روسيا، لكي تدخل على خط الصراعات، وتتمدد عسكريا واستراتيجيا في المنطقة المُتاخمة للجنوب الليبي، لا بل وتنتشر شرقا وجنوبا عن طريق قوات «فاغنر» الداعمة للحاكم العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ولم يتحرج ثعلب الدبلوماسية الروسية ميخائيل بوغدانوف من التصريح لإحدى وكالات الأنباء بأن غاية روسيا اليوم هي «استعادة الوجود الذي كان لها قبل تفكك الاتحاد السوفييتي». وأعلن بوغدانوف أن روسيا اتخذت قرارا باستئناف عمليات قنصليتها العامة في بنغازي، وهي تستعد لتعيين سفير روسي لدى ليبيا «في المستقبل القريب» وأن فريقا فنيا وصل إلى ليبيا، ليرى كيفية الإعداد العملي لمعاودة فتح السفارة الروسية في طرابلس. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال قبل أيام إنه «يُعلق أهمية كبيرة على العلاقات مع ليبيا، ويهتم بالتوصل إلى تسوية عادلة ومستدامة للصراع الداخلي الذي طال أمده في ذلك البلد».
وتشكل هذه العودة الروسية إلى الملعب الليبي أمرا منتظرا بعد الانسحاب الفرنسي المرتبك من منطقتي الساحل والصحراء، وانتشار روسيا في القارة الأفريقية بواسطة الشركة العسكرية والأمنية «الخاصة» فاغنر، التابعة للكرملين. وتُجمع التقارير على أن «فاغنر» تغلغلت في بلدان محددة أهمها مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والسودان وتشاد، ما يشكل خطرا على جنوب ليبيا حيث ما زالت مؤسسات الدولة مشلولة منذ 2011. وكان اللواء المتقاعد خليفة حفتر اعتمد على عناصر «فاغنر» في تسيير هجومه على طرابلس، الذي انطلق في الرابع من نيسان/ابريل 2019 وانتهى من دون تحقيق هدفه. ويُقدر عدد عناصر شركة «فاغنر» في شمال شرق ليبيا حاليا بـ1200 عنصر مسلح، ما يُشكل تحديا مستمرا للسيادة الليبية مأتاه الجنوب.
ويأتي التحدي الآخر من الشمال حيث تتعاطى تركيا مع ليبيا بكثير من الصلف، الذي يقترب من الإملاء، مستثمرة وهن الدولة الليبية وانقسام مؤسساتها. ولعل هذا ما عناه البيان الصادر عن ثلاثة وسبعين عضوا بمجلس الدولة، رفضوا مذكرة التفاهم مع تركيا في المجال النفطي، واصفين إياها بـ«الانتهازية السياسية من الأشقاء الأتراك» ومُحذرين من أن ذلك قد يضع الأتراك مستقبلا «في مواجهة المصالح الوطنية الكبرى لليبيا وكل المحاولات الوطنية الجادة للتوافق بين الليبيين نحو استعادة الدولة وقرارها الوطني». ولا يمكن أن تتحقق تلك السيطرة طالما ما زالت جماعات مسلحة تستقوي على الدولة. ولهذا السبب تدعو الحاجة للتوصل إلى اتفاق مع أولئك الذين يسيطرون على الأسلحة ووسائل العنف.
ووسط هذه الأجواء المتوترة، ما زالت الجزائر تثق في قدرة حكومة الدبيبة على قيادة المسار المُفضي إلى الحل السياسي، إذ أنها تعتبرها السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا. ويبدو أن هذا هو الموقف الذي أبلغه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى الرئيس الألماني فرانك شتاينماير، خلال مكالمتهما الهاتفية الأربعاء الماضي، حيث أكدا على ضرورة إنهاء أزمة ليبيا عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية. ومن الواضح أن عين الألمان أيضا على مصادر الغاز الليبية، التي لئن كانت صعبة الاستغلال في وضعها الراهن، فإنها واعدة بمنتوج وفير. وقدر قائد البحرية التركية السابق الجنرال جهاد يازجي احتياطي الغاز في شمال المنطقة الليبية البحرية بـ 30 تريليون دولار.
بالإضافة إلى ملف الغاز، يُرجح أن الرئيس الألماني استمزج نظيره الجزائري في شأن فكرة عقد مؤتمر «برلين3». ويُثير هذا التقارب الألماني الجزائري ردود فعل سلبية في القاهرة، التي ترفض الاعتراف بحكومة الدبيبة وتُفضل التعاطي مع الحكومة الموازية التي يرأسها فتحي باشاغا. والأرجح أن هذا الخلاف الحاد ستكون له استتباعات سلبية في الاجتماعات الإقليمية والدولية المقبلة، أسوة بالخلاف بين الوفدين المصري والليبي في الاجتماع الأخير لمجلس جامعة الدول العربية، في السادس من أيلول/سبتمبر، في القاهرة حيث غادر الوفد المصري القاعة عندما أحيلت رئاسة الاجتماع على رئيسة الوفد الليبي وزيرة الخارجية المنقوش. ومن تداعيات هذه الخصومة ما كشفه موقع «أفريكا أنتليجنس» الاستخباراتي في شأن تأجيل قمة الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية المقرر عقدُها غدا في القاهرة إلى أجل غير مسمى. وعزا الموقع الفرنسي قرار الإرجاء إلى معارضة مصر رئاسة ليبيا للجامعة العربية، إذ ستكون مشاركة في رئاستها، حسب التداول على الرئاسة بين الدول الأعضاء. ورجح الموقع إرجاء قمة الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية إلى الربع الأول من العام المقبل، عندما تترأس مصر الجامعة.
مجلس رئاسي جديد؟
في غضون ذلك ظهرت تسريبات تُشير إلى وساطة قطرية بين الفرقاء الليبيين لتفادي عودة الحرب الأهلية من جديد، ولا سيما بعد الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس ومدينة الزاوية في آب/اغسطس الماضي. وأفاد تقرير بثه موقع صحيفة «المرصد» الليبية، أن فترة محمومة من الدبلوماسية وزيارات لاعبين رئيسيين للدوحة، قادت إلى وضع اقتراح جديد على الطاولة قد يؤدي إلى الاستقرار. ويتمثل الاقتراح بتشكيل مجلس رئاسي جديد برئاسة عقيلة صالح رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري وعضو آخر من الجنوب، مع الأخذ في الاعتبار الثقل السياسي الذي يمثله اللواء المتقاعد خليفة حفتر، صاحب النفوذ في المنطقة الشرقية. واستطرادا يتم تشكيل سلطة تنفيذية جديدة، تضع حدا للصراعات بين حكومتي الدبيبة وباشاغا. ولدى القطريين خبرة طويلة في الوساطات من هذا القبيل، بما فيها الأكثر صعوبة وتعقيدا، وهي الوساطة في الصراع الأفغاني. لكن هناك دوما مخاوف، في ظل استمرار تدفق السلاح والمرتزقة، على ليبيا، من لجوء أطراف خارجية إلى تفجير أي اتفاق سياسي لا يخدم مصالحها، وخاصة إذا كان سيؤدي إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر انتخابات حرة وشفافة.