في اللغة كما في الإدارة يمكن أن تجمد الكلمات مثلما يُجمد الأشخاص في مراتبهم. اليوم يستعملون في الإدارات عبارات استعارية رمزية، فيقولون عن شخص قلصت مهامه إنه وُضع في الثلاجة. قد تضع اللغات وبحكم الاستعمال بعض عباراتها في الثلاجة، وبالتحديد في ركن التجميد، وحين تتجمد وتصبح «عبارات جاهزة» تستعمل بأكملها للتعبير عن المعاني المخصوصة، ولا تحيل على معانيها المفصلة أو الصريحة: هذا هو أشهر أحوال الجمود في اللغة.
ومن أحواله في العربية أن تركب الكلمات تركيبا يصير الكلمة كالمفردة فتقول على سبيل المثال: (هو جاري بيْتَ بَيْتَ) تستعمل مركبا مبنيا لتقول إنه جار الأساس، كما نقول اليوم في تونس الدار تلاصق الدار. نبني الكلمتين ونستعملهما معا متجاورتين مترابطتين كأننا نستعمل كلمة واحدة. بعض الكلام أكثر جمودا من بعض وبعض الذي يقل جموده يمكن أن يذوب أو يعود إلى تعامله الجديد، لكن لا بد له من طاقة فوارة تزيل شيئا من جموده وتجعله يتحرك كما تتحرك بقية الكلمات.
مالك بن الريب التميمي شاعر عاش في القرن الهجري الأول، ومات شابا عن سن لم تتخط منتصف العقد الثالث. كان مالك صعلوكا لكن في عصر الخلافة الأموية، ثم التحق وهو في فارس بجيش أرسل لفتح خراسان بقيادة سعيد بن عثمان بن عفان، إلا أن هذا القائد الوالي عُزل ومات وهو يعود أدراجه إلى المدينة، وكان مالك مرافقا له فمرض في الطريق وعز عليه أن يلقى المصير نفسه فقال يرثي نفسه بقصيدة طالعها (ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بوادي الغضَى أزْجِي القِلاصَ النواجيا).
ما يستوقفنا في هذه القصيدة أن الشاعر ذوب الكلام شبه الجامد بشيء من الإبداعية التي لا ترى غالبا، ذوّبه في سياق يحكي عن جماد الموت، ربما ذابت الكلم فرارا من برودة الموت. في البيت العاشر من القصيدة يتحدث عن ابنته فيقول: (تقول ابنتي لما رأتْ طولَ غربتي * سِفَارُكَ هذا تَارِكِي لا أبَا لِيا). عادة العرب أن يقولوا (لا أبا لكَ) أي أن ينسبوا الأب إلى المخاطب، والعبارة شبه مجمدة على هيئتها تلك، وهذا ما نجده في أشعار كثيرة قديمة، ففي معلقة زهير بن أبي سلمى يقول (سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا- لا أبا لكَ – يسأمِ). العبارات من نوع (لا أبا لك) و(ثكلتك أمك) هي عبارات لا تنسب إلى المتكلم، هي في العادة تنسب إلى المخاطب. إن حدث ونسبت إلى الغائب، وهو نادر كان مفعولها الدعائي أقل مواجهة، وأقل عنفا لأن ذم الغائب ممكن في أي خطاب، وكما نقول نحن في تونس (لعن الله الباي (أمير البلاد في العهد التركي) في غيابه). لكن في توجيه الكلام إلى المخاطب ضربا من المواجهة المؤذية والمباشرة، ففي الدعاء على المخاطب في حضرته من عنف في الخطاب يرقى إلى درجة العنف المادي الشديد.
في ثقافة الدعاء وهي ثقافة سابقة على العصور الإسلامية، فإن المقام الأمثل للدعاء له هو الحضور، ومقام الدعاء عليه الأمثل هو الغياب، ذكر لسان العرب أشعارا كثيرة وردت فيها (لا أبا لك) ومن الشارحين المفسرين من اعتبر أنه استعمال قد يدل على المدح، ونحن لا نعتقد في هذا المذهب. يقول صاحب اللسان مستشهدا ببيت جرير (يا تيمُ تيمَ عدي، لا أبا لكم! * لا يَلْقَينكم في سَوْءَةٍ عُمَرُ) فهذا أقوى دليل على أن هذا القول مثلٌ لا حقيقة له، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أبٌ واحدٌ، لكنكم كلكم أهل للدعاء عليه» (لسان العرب، 14/ 11). في عبارة (مثل) ما يوحي بأن هذا الدعاء شكل مجمد من القول، فلا يعني الحقيقة أي لا يدل كل جزء فيه على معناه.
إن تفكيك جمود العبارات في الشعر هو ضرب من محاورة المألوف والخروج عليه، محاورته بما هو قالب سائد والخروج عليه بتركيبه الأشكال التي حرمتها العبارات وهي جامدة من التركيب. جمدت العبارات حفظا لأخلاق التعامل المألوفة التي لا يدعو فيها المرء على نفسه باليتم، ولا ينفخ في نفسه بنفسه.
وهذا مهم في أن مالك بن الريب حين استعمل (لا أبا ليا) كسر هذا الجمود وأخرج الكلام من سياق الدعاء إلى سياق الوصف والتفتت بالضمير من المخاطب إلى المتكلم. هذا نادر تداوليا إذ لا يمكن أن تدعو البنت على أبيها، بل هي تصف غيابه فكأنه غياب كالفقد. حين قال الشاعر (لا أبا ليا) فإنه ذكرنا بسياق شعري ترد فيه العبارة المجمدة على الأصل (لا أبا لك)؛ لكنها وهي تذكر بها تتقصى منها وتكسر قيدها الذي يربطها بها أسلوبيا على الأقل لأن الأسلوب المقصود في البيت الإخبار لا الإنشاء، بل تصف حالة يتم قبل اليتم سيصير يتما على الحقيقة، مع أب يذكر وهو يموت أنه مات من زمان عند ابنته. إن في هذا التذويب لقالب من الكلام منافع دلالية وتحاورية (بالمعنى الباختيني للتحاورية) كثيرة منها أن الشاعر يحاور غيره من الشعراء بهذا القول، لكنه يبتعد عن شكلهم المجمد فيطوعه للوصف، ويخلق مع الشكل القديم حوارية ممتعة تريد أن تصف الفقد، لكنها تدعو على نفسها به إذ يستوي الغيابان، فالراحة الأبدية من وجود أب غائب بالموت أفضل من انتظار بلا قدوم هذا المعنى يتناسب مع رثاء الحي نفسه: هو حي ميت أجدر به أن يموت من أن يكون مهددا بالموت والغياب في كل وقت.
الشكل الثاني الذي فيه تذويب للعبارة المجمدة في هذه المرثية التي على الحساب، نجدها في قوله في بيت لاحق (لله دري) بدلا من (لله دره) أو درك الأصليتين. يقول: (فلله دَري يومَ أتركُ طائعا * بَنِي بأعلى الرقمتين وماليا) وفي الأبيات اللاحقة تعود العبارة إلى أصليتها بأن يضاف لفظ (درّ) إلى غائب كما في قوله (وَدَر الظباء السانحات عشيةً * يُخَبرْنَ أني هَالكٌ مِنْ وَرائيا).. إلى أن يقول (وَدَر الهَوى من حيث يدعو صحابتي * ودَر لَجاجاتي ودر انتهائيا). العبارة الأصلية تدل على المدح، أو التعجب في سياقات معينة فإن قلبت إلى الذم اتخذت شكلا جامدا منفيا هو (لا دَر دَركَ) كما في قول أبي نواس (قالوا: ذكرت ديارَ الحي من أسد * لا دَر دَركَ قل لي مَنْ بنو أسد!). حين تقول (لله درك) فأنت تنسب الخير الذي لمخاطبك إلى الله، لكنك رغم ذلك تمدحه بذلك الخير والعطاء وهذا ضرب من التمثيل الذي لا يعني الدلالة الحقيقية. لقد أراد الشاعر بتكسير جمود العبارة ونسبتها إلى نفسه أن يحسن إلى نفسه وأن يمدحها وهو على شفا مغادرة الدنيا. لقد ربط حسن الفعل بالزهد في الدنيا وترك المال والبنين في سبيل لقاء الله بالموت. ليس هذا المعنى صوفيا، بلا شك، لكنه معنى إنساني يعبر عن حرية اختيار المصير، بالموت. في يوم الاختيار ذاك ينبغي لمن رثى نفسه أن يعلو إلى درجات الحمد والشكر، ككل من صفت نفسه وطابت واستقرت، وككل من كان من الناس والأشياء والأماكن رفيقا في آخر رحلة للذاكرة.
إن تفكيك جمود العبارات في الشعر هو ضرب من محاورة المألوف والخروج عليه، محاورته بما هو قالب سائد والخروج عليه بتركيبه الأشكال التي حرمتها العبارات وهي جامدة من التركيب. جمدت العبارات حفظا لأخلاق التعامل المألوفة التي لا يدعو فيها المرء على نفسه باليتم، ولا ينفخ في نفسه بنفسه. غير أن الكلام الجامد قد يذوب حين تحتاجه مقامات الكلام المتمرد على العادة. ليس أكثر تمردا على العادة الشعرية من أن يرثى الميت قبل أن يموت، وليس أغرب في هذا السياق من أن يكون الميت والراثي والمرثي واحدا.. عندها تذوب الكلمات المتجمدة قبل أن يموت محررها. لا ندري في هذه الحالة من عيبد من؟ هل الكلمات أم الشاعر سيد الكلمات؟
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية