تديّن مرضي

حجم الخط
2

كان جورج بوش الابن سكيراً، وفجأة تاب، نزل عليه الوحي، قال بوش إن «الله أمره أن يغزو العراق»، لأن صدام حسين لديه أسلحة دمار شامل، قال عنها توني بلير إنها يمكن أن تصل إلى أوروبا في 45 دقيقة.
فعلها بوش، وذهب إلى لعراق بسلاح قبيلته الفتاك، ودمر العراق تنفيذاً لرغبة «إله الحرب»، أو «رب الجنود» المذكور في الكتاب المقدس، الذي أمر بوش الابن بشن «حرب صليبية» مقدسة ضد الأشرار. كنت مع كثيرين أتساءل: لماذا بحق السماء يأمر الرب جورج بوش أن يغزو العراق، بحجة وجود أسلحة دمار شامل، وهو يعلم أنها غير موجودة في العراق. وجاءت الإجابة بعد سنوات على لسان أحمد الجلبي، أحد زعماء العصابة التي دمرت العراق، والذي علق حينها على حقيقة أنه كذب في مزاعمه أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، بقوله: ليكن، أهم شيء أن المارينز اليوم في بغداد. أما كولن باول صاحب فرية «المفاعلات النووية العراقية المتحركة»، فقد كان أكثر حصافة من الجلبي، إذ آثر الصمت بعد أن اكتشف أن الـ»سي آي إيه»، فبركت القصة من ألفها إلى يائها.
قبل جورج بوش، قتل بيتر سوتكليف الذي أطلقت عليه الصحافة البريطانية لقب Yorkshire ripper «سفاح يوركشير»، 13 امرأة. كان سوتكليف يتعامل مع «بائعات الهوى»، ضمن معادلة «الجنس مقابل المال»، ولما أحس بالمال المهدر نقم على النساء، وقتل منهن 13 وخطط لقتل 7 أخريات. وفي المحكمة قال إنه يريد قتل كل النساء لأن لديه رسالة من الله بذلك. هكذا بكل بساطة تاب الرجل، ومسح العار الذي لحقه بدم 13 امرأة، قدمهن قرباناً إلى الله تكفيراً عن ذنوبه، بعد أن كافأه الرب بالنبوة. طبعاً سوتكليف حكم عليه بالسجن مدى الحياة، ونقل إلى مشفى للأمراض العقلية، ليكمل نبوته هناك. أما جورج بوش فهو حر طليق، يحظى باحترام أمثاله من المجرمين، على الرغم من أن رسالته الإلهية قتلت وشردت الملايين من المسلمين، وجعلت العالم أقل أمناً، إذ ما زلنا نعاني من آثار وحيها إلى حد الآن. جورج بوش حر طليق مع أنه أكثر إجراماً من سوتكليف.
وإذا ما تركنا الحالات الفردية، لمناقشة الظاهرة، فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا، هو: لماذا يرجع أصحاب السلوك الشاذ عن سلوكهم إلى نوع من التدين المرضي، الذي يكون مصحوباً بلوثة عقلية ونفسية، تؤدي إلى نتائج كارثية؟
هل هو تغير جذري في السلوك، أم أنه مجرد استمرار للسلوك الإجرامي الذي انتقل من الإجرام الإباحي المتهتك، إلى «الإجرام المتدين»، ومن الجريمة العارية، إلى الجريمة المغلفة بعباءات الأنبياء؟ ومن جماعتنا، نحن المسلمين، كانت حياة بومدين تذهب إلى الشواطئ، وتتصور بـ»البكيني»، وتعيش حياة عابثة، مع صديقها أوميدي (أحمدي) كوليبالي، ثم فجأة تابت مع صديقها وتزوجته، وأرادت أن تكفر عن ماضيها، فاشتركت في مخطط لقتل الصحافيين الستة في «شارلي إيبدو» في باريس، قبل أن تهرب إلى سوريا، ويقتل زوجها على يد الشرطة الفرنسية. ويعود مع نموذج «كوليبالي – بومدين» السؤال الملح: لماذا عندما يتوب هؤلاء يختارون توبة مدوية، تكون نتائجها أفظع من نتائج الموبقات التي ارتكبوها قبل هذه التوبة؟ لماذا يختار هؤلاء القتل وسيلة للتكفير عن سوابقهم؟
لا شك أن حياة هذه النماذج المتهتكة في ماضيها، لا تقارن في ضررها مع حياتها الجديدة التي قررت فيها هذه النماذج أن تكون «أشخاصاً صالحين». تهتكها شخصي، ويخصها هي، بينما توبتها شكلت كوارث لها ارتداداتها التي لن تنتهي في المدى القريب. أما كان العالم سيكون أكثر سلاماً وأمناً لو أن جورج بوش – مثلاً – ظل عاكفاً على كأسه، يمارس غواياته الشخصية، من دون أن يتوب التوبة التي انتهت بنا إلى عراق مدمر وأفغانستان محطمة، وملايين القتلى والجرحى والمشردين، ناهيك عن مسلسل الرعب الحالي في سوريا وغيرها من البلدان التي يمكن أن يربط ما حل بها بشكل أو بآخر بنتائج توبة رجل ترك الخمرة ليسكر بالدماء. هناك بالفعل نوع من التدين المرضي، لا علاقة له بسلامة الإيمان بالله، بدليل أن أصحابه ينتهون إلى طريق مسدود، وينتجون بتدينهم كوارث لا يقول بها دين. معظم الذين قاموا بعمليات إجرامية، سواء كانت مصنفة إرهابية أم لا، عانوا بشكل أو بآخر من السلوكيات المنحرفة، واللوثة الذهنية، والاضطراب النفسي الذي حاولوا تغطيته بجلباب الدين، والأعمال التي أرادوا بها التخلص من معاناتهم الطويلة مع الماضي وذكرياته. ومن بين المسلمين الذين قاموا بأعمال صنفت إرهابية، متطرفون لا علاقة لهم أصلاً بالمساجد، وقد رد أحد الأئمة المسلمين في بريطانيا، على طلب الشرطة بأن يكون للمسجد دور في توعية الشباب المسلم بعيداً عن التطرف، رد بقوله: المشكلة أنهم لا يأتون إلى المساجد. وهذا صحيح إلى حد كبير، فهؤلاء لهم شبكة علاقاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعيداً عن المساجد خشية انكشاف أمرهم.
خلاصة الأمر، لا يمكن لمن كان يدفع المال للبغي مقابل الجنس أن يقنعنا بأنه قتلها توبة وتقرباً إلى الله، لأن البغاء ذنب والقتل جريمة، ولا يصح عقلاً التكفير عن الذنوب بالجرائم. لا يمكن الاقتناع بذلك إلا إذا اقتنعنا بأن بوش الابن يستطيع أن يتوب عن الخمرة بأن يسفك دماء الملايين. هذا لا يصح، والصحيح أن تلك النماذج من البشر، هي نماذج إجرامية مارست الجريمة العارية شطراً من حياتها، ثم مارست الجريمة بمسوح دينية شطراً آخر من هذه الحياة.

٭ كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

د. محمد جميح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامح // الامارات:

    * من الآخر : كل من يقتل أو يدمر أو يخرب باسم ( الدين )
    كاذب وفاجر ودجال .
    شكرا .

  2. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    اتفق إلى حد بعيد مع هذا التحليل و أضيف أن معظم قيادات ما يسمى بتنظيم داعش و ربما حتى أفراده العاديين هم من هذه اﻷصناف أيضا ، فقد كان الكثير منهم ضمن أجهزة المخابرات و ادوات بيد أجهزة قمعية لا ترقب في مواطن إلا ولا ذمة و كانوا يمارسون شتى أنواع التعذيب و اﻹستجواب ﻹستنطاق من يخالفون النظام بزعمهم
    و كانوا يرتكبون خارج نطاق هذا العمل شتى أنواع الموبقات من معاقرة للخمرة و ممارسة العلاقات المحرمة خارج الزواج و ابتزاز التجار و رجال اﻷعمال و قضاء الليل في المواخير و اﻷندية الليلية وفي الحانات و صالات القمار ناهيك عن ممارسة الجريمة المنظمة بعد اﻷحتلال من خطف و قتل و تهريب ، فلما جاءؤا ليكفروا عن ذنوبهم بزعمهم اطالوا اللحى و لبسوا الجلابيب و حفظوا آيات القتال منزوعة من سياقها و قرؤا كتب أئمة الضلال و التزموا بأداء المناسك ظاهرياً و ليس اقامتها وفق مراد الله و قرؤا القرآن لكنه لم يبلغ حناجرهم فصار كل فعل مارسوه من قبل له تبرير بإسم الدين و كل إجرام صار توبة وفق تفسيرهم المعوج ونتيجة توبة جورج بوش على الطريقة التي ذكرها الدكتور الجميحي و التي أدت إلى كل تلك المآسي وجد هؤلاء من داعش على الجانب اﻵخر اﻷرضية الخصبة لكل متضرر من حرب بوش لينظم إليهم كرد فعل على إجرام جورج بوش وصار العالم و اﻷبرياء بين مطرقة الفعل و سندان رد الفعل

إشترك في قائمتنا البريدية