إما أن تترجم أو تموت

حجم الخط
0

بدأت الدراسة الأكاديمية الغربية للترجمة، وكما كان الأمر مع علم الآثار، من الكتاب المقدس. كانت الأركيولوجيا في بدايتها تنقيبا عن عصور الكتاب المقدس لكنها انتهت إلى غايات أخرى مع تطور المجال، ونهوض ضرورات علمية وبحثية من نوع آخر تخرج عن حدود التفكير الديني. كذلك كان الأمر مع تأمل وتفسير فعل الترجمة وما ينطوي عليه من مشاكل وإشكالات.
صحيح أن البحث في مشكلة الترجمة بدأ من تلك الإشارات والملاحظات التي ظهرت مع الرومان في تراجمهم لأدبيات الإغريق في القرن الأول قبل الميلاد، لكنها اتخذت منحى جديا ثم مع تراجم الكتاب المقدس على يد القديس جيروم في القرن الميلادي الرابع ومرورا بآخرين عبر التاريخ، وصولا إلى يوجين نايدا الذي تصدى لتأسيس رؤية منهجية لترجمة الكتاب المقدس، مستثمرا بذلك الأساسات المنهجية التي وضعها نعوم تشومسكي لدراسة اللغة والنحو التوليدي. ولذا فإن السائد بين الأوساط الأكاديمية المعنية بدراسات الترجمة أن يوجين نايدا (1914 ـ 2011) كان أول من نقل النقاش المحدود وربما العام من دائرة ثنائية الترجمة الحرفية والترجمة بتصرف إلى مستوى آخر يطمح إلى تأسيس نظرية للترجمة من وجهة نظر المكافئ الشكلي، أو الساكن، مقابل المكافئ الديناميكي. لكن إذا قرأنا يوجين نايدا في ضوء الأساس الفلسفي (الأنطولوجي) والمعرفي (الأبستمولوجي) لفرضيته التي تستعير النموذج الذي وضعه نعوم تشومسكي في نظريته اللسانية العلمية؛ النظام الباطني العميق مقابل النظام الظاهري السطحي فإننا سنجد ريبة لا تخفى، كما يشير عدد من الأكاديميين. فما يعنيه نايدا بالبناء الباطني يتعلق بمعنى ديني غيبي في سياق الكتاب المقدس، مقابل ما عناه تشومسكي بذلك وهو أمرٌ علمي محض يتعلق بالبناء الفسلجي الباطني للدماغ البشري، وهذان شيئان مختلفان تماما في أساسهما الفلسفي والمعرفي، على الرغم من التشابه الاصطلاحي الخادع بينهما. من ناحية أخرى يعتبر جورج ستاينر أن الكلام في الترجمة ونظريتها ظل ولقرون طويلة يدور في حلقة تلك الثنائية المملة، وربما العقيمة حتى ظهور شلايرماخر وهمبولت وغوته وشليغل، ومن ثم في القرن العشرين رومان جاكوبسن، الذي بدأ بتطبيق المنهج البنيوي للوصول إلى نظرية تهيكل فهمنا، وممارستنا لفعل الترجمة وما ينطوي عليه. ويرى أن نظرية الترجمة شأنها في النشوء شأن نظرية الأدب الحديثة، بدأت مع البنيوية. على العموم ما يمكن أن نخلص إليه من هذا هو التالي: على الرغم من كون الترجمة ممارسة قديمة جدا، إلا أن الاتفاق السائد بين من كتبوا في تاريخ دراسات الترجمة هو أن ظهورها كمجال أكاديمي ونظري، حديثٌ جدا ولا يكاد في واقع الأمر أن يتعدى النصف الثاني من القرن العشرين، كما أشرنا في مقال سابق.
إن التفاهم بين الشعوب التي تتحدث بألسنة مختلفة، الذي فرزته ضرورات التجارة والحرب وكذلك التوسع الديني عبر التاريخ هو ما جعل من فعل الترجمة بين اللغات أمرا ضروريا، وجعله مجالا للتأمل والسؤال ولعل الحرب لعبت دورا كبيرا في إبراز أهمية حقل الترجمة وما تنطوي عليه الاختلافات بين ألسن البشر، ودعم دراسته بالمصادر اللازمة لتطويره. فإذا اتفقنا أن ترجمة المقدس المرتبطة بالتوسع الديني هي التي دفعت بسؤال الترجمة وما تنطوي عليه من إشكالات إلى السطح في العصور القديمة، فإن الاهتمام بالترجمة الآلية، أو ترجمة الحاسوب وتطويرها بدأ بشكل استثنائي خلال الحرب الباردة، وحيث احتاج كل من المعسكرين الرأسمالي من جهة والاشتراكي من الجهة الأخرى، إلى ترجمة فورية تجعل مراقبة كل منهما لإعلام عدوه ممكنة آنيا. وهذا بدوره ما دفع بالدراسات اللسانية والوظيفية منها بالتحديد إلى الأمام بخطوات سريعة في تلك الفترة لإيجاد نظريات وظيفية فاعلة للغة، من أجل تمكين أنظمة الحاسوب من إنتاج ترجمة ناجحة بحدود معينة غير تلك الرطانة التي تنتجها في معظم الأحيان.

ينطوي فعل الترجمة على حلول وبدائل لفوارق عميقة ومتعددة المستويات بين اللغة المترجم عنها، واللغة المترجم إليها، لأن ليس هناك لغتان تتقاسمان بناءً واحدا لا على مستوى المفردة ولا على مستوى النحو، ولا كذلك وهذا الأهم طبعا على المستوى الوظيفي في نص ما، ولذا فإن هذه الفروقات والفراغات المحيرة ستظهر دائماً مهما بدا النص المترجم سهلاً.

وكما نرى فإن في عالمنا القرية الآن يزداد الاهتمام بالترجمة الآلية، حتى يمكن القول إنها قطعت أشواطا غير متخيلة في العقدين الأخيرين، وذلك لحركة الهجرة غير المسبوقة في التاريخ التي شهدها القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى ضرورتها في عالم وسائل التواصل الاجتماعي والتفاهم عبر اللغوي، وحيث يكاد أن يختفي من على سطح هذا الكوكب وجود شخص أحادي اللغة. وفي هذا الصدد يورد إدوين جينتزلر في كتابه «نظريات الترجمة الحديثة» مقدمة الشاعر والناقد الأمريكي بول إنغل لكتاب «كتابات من الحرب العالمية الثانية» وهو أنطولوجيا لترجمات أدبية تعود إلى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين؛ حيث يقول: «بينما يتصاغر هذا العالم وينكمش كما برتقالة عتيقة، وتتقارب الشعوب من ثقافات مختلفة مجبرة على ذلك أو مترددة، يبدو أن العبارة الأهم والأبرز في ما تبقى لنا من سنين على هذه الأرض هي: إما أن تترجم أو تموت».
إن التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى خلال العقود السبعة الماضية التي تلت الحرب العالمية الثانية– هذا على أقل تقدير- لها علاقة وثيقة بالتحولات الابستمولوجية التي نشهدها وكذلك بالوعي المتزايد بالتعقيدات والإشكالات التي تنطوي عليها الترجمة، وانعكاس ذلك على المجتمع الأكاديمي الذي استجاب بالضرورة لتلك التحولات الاجتماسياسية. مع تلك التحولات وتيارها والارتفاع الملحوظ في التماس عبر الثقافي بين الشعوب، أصبح من الجلي أن عملية الترجمة تتعدى المعرفة والخبرة في لغتين أو أكثر، كما تتعدى القدرة على استخدام المعاجم. فلو كان الأمر يتعلق بمعرفة لغتين لكانت مهمة المترجم من المهام الهينة التي يمكن أن يقوم بها أي شخص لديه، ولو معرفة لغوية وخبرة وتدريب قليلين في هذا المجال. ولعل هذا الأمر هو الأبرز للأسف الشديد في التراجم العربية، إذ ما زلنا نطلع وباستمرار على ترجمات مضحكة يقوم بها أشخاص لا يعرفون من اللغة والثقافة التي يترجمون عنها سوى النزر اليسير.
ينطوي فعل الترجمة على حلول وبدائل لفوارق عميقة ومتعددة المستويات بين اللغة المترجم عنها، واللغة المترجم إليها، لأن ليس هناك لغتان تتقاسمان بناءً واحدا لا على مستوى المفردة ولا على مستوى النحو، ولا كذلك وهذا الأهم طبعا على المستوى الوظيفي في نص ما، ولذا فإن هذه الفروقات والفراغات المحيرة ستظهر دائماً مهما بدا النص المترجم سهلاً. سيصل كل من يحاول الترجمة إلى قناعةٍ مفادها، أن ليس ثمة نظامان لغويان متشابهان في كل شيء، ولذا فإن المترجم يقوم عادة بعمليتين؛ الأولى هي فهم النص ومؤولاته في لغته الأم، والثانية إعادة صياغته في اللغة المترجم إليها. أستطيع أن أذكر هنا سؤالا طرحه أحد مستخدمي فيسبوك العرب قبل أعوام عن كيفية ترجمة عنوان المسلسل الأمريكي المعروف (Breaking Bad) إلى العربية. ذلك لأن ترجمته الحرفية ستكون مجرد رطانة في ما يستدعي إيجاد بديل ديناميكي للعنوان جهدا استثنائيا لنقل الرسالة أو المعلومة الكامنة فيه والواضحة المفهومة في أحداث المسلسل. ما أود قوله هنا هو أن هذا التواصل عبر اللغوي وبالنتيجة عبر الثقافي رفع سؤال الترجمة إلى الواجهة وجعل مشاكلها وملابساتها جلية قائمة على المستوى العام وليس على مستوى النخبة التي تشقى بممارستها.
ومع أهمية الترجمة من هذا المنظور المعاصر أو من ذلك المنظور التاريخي، إلا أن مصطلح دراسات الترجمة صكه في الواقع جيمس هولمز الذي قدم بحثه المميز (اسم وطبيعة دراسات الترجمة) عام 1972 الذي يعتبر نقطة الانطلاق لهذا الحقل من الدراسات الأكاديمية. يفيد هولمز في بحثة المذكور بأن البحث المنهجي الحديث في عملية الترجمة، بدأ فعليا خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). إذن، استطاع هولمز الشاعر والمترجم الأمريكي الذي عاش في هولندا ودرس في جامعة أمستردام، أن يعطي اسما لحقل دراسة الترجمة ويضع الأساس لنظرية ترجمة تقدم خريطة علمية لهذه العملية وما يمكن أن تنطوي عليه. لكن لا بد من الرجوع أولا إلى البدايات القديمة لنتتبع الطريق الذي بدا مع الرومان في ترجماتهم لنصوص الإغريق واحتدام النقاش في مسألة ترجمة المقدس هذا ما سنعرج عليه لاحقا.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية