وحدها رؤية حيوية (ذات أساس مادي) في إمكانها أن تنأى بموضوع الأزمة عن ذلك التمثل الذي يرى إليها بما هي جوهر ثابت وماهية مستقرة. ولعل ما يضفي على هذه الرؤية صفةَ الحيوية الوعيُ باستحالةِ تَمَثُّل الموضوع في ذاته ولذاته، في انفصال عن العلاقة كمبرر للوجود.
يُسعف المدخل اللغوي في الكشف عن الازدواج الذي يَسِم دلالة الأزمة تداوليا. ففي اللغة الصينية تشير كلمة «weiji» إلى مشترك لفظي يضم مقطعين؛ الأول «wei» ويعني الخطر، والثاني «ji» ويشير إلى الفرصة. أما في اليونانية فإن «krisis» تختزل معنى الحكم القطعي أو اللحظة الحاسمة حيث يُتخَذ قرار يفضي إلى وضع يختلف بالضرورة عن سابقه. وفي لسان العرب يستدعي ابن منظور قول «اشتدي أزمة تنفرجي» لتمرير الازدواجية التي ينطوي عليها دال الأزمة: الخطر الذي هو شرط به تتحقق النجاة.
يبدو أن اختلاف تداول العبارة في اللغات الثلاث، وكذا تباين الحقول التي تشكل فضاءً لاستنبات معناها، لا ينفي وجود تقارب في تمثل الأزمة. الحجة في ذلك أن التضاد يسري في المعاني الثلاثة: الخطر بما هو فرصة للنجاة، والحسمُ المفضي إلى وضع جديد يختلف بالضرورة عما سبقه، والاحتدامُ الذي لا بد منه كي يستنفد الوضع أقصى مُمكِنه، ويفرزَ من تناقضاته وضعا مغايرا.
ما أبعدنا إذاً عن الرؤية السكونية في مقاربة الأزمة، رؤية لا تستحضر الأزمة كعلاقة؛ فتكتفي بسلطة التسمية كي تضمن لنفسها تأويلا أحاديا يُلغي التشعب الذي يسم الوضع. معنى ذلك أن الرؤية الليبرالية، بخلفيتها المثالية، تُبعد الأزمة عن التناقض بغاية طمس مفهوم الصراع الطبقي. كأن الأمر هنا يتعلق بخطاب يتخفى وراء مقولات كلية تجعل من الأزمة ماهية لا تدنسها العلاقة.
على أن سلطة التسمية التي يَحُوزها الطرف الأقوى في العلاقة، بما هي صراع، تفصح عن نفسها أكثر في التفتيت الذي يطال الوضع، حيث يُنظر إلى الأزمة قطاعيا (الأزمة الاقتصادية، أزمة المثقف، أزمة هوية، أزمة القيم..) في مسعى الالتفاف حول أعطاب نظام رأسمالي ينحو منحى تَوثين الأزمة (Le fétichisme de la crise) قياسا على فيتيشية السلعة (Le fétichisme de la marchandise) بيان ذلك أن طيف الأزمة اكتسب نوعا من الصنمية، صار معها كل حديث عن الأزمة ضربا من التهويم، إن لم نقل الإيهام.
إن تسمية وضعٍ ما أزمةً يُضمر التخفيف من حقيقة التناقض كشرط لكل علاقة، ومن ثم حقيقة الصراع كنتيجة لهذا التناقض. ولعل خطاب الخبراء، في تحالف مع الآلة الإعلامية، والذي ينصب حول الأزمة يكاد يصرح بأنها تهديد يُحدٓق بالكل، لا يُستثنى في ذلك طرف. بهذا المعنى تكتسب الأزمة بعدا قدريا، وكأن الأمر يتصل بلعنة لا صلة لها باحتدام الصراع وماديته.
مهمة الفكر شاقةً في مقاومته لقوى العدمية التي تتخذ لنفسها وجوها متعددة في العصر الراهن، حيث السعي الحثيث لدى الخبراء في إزاحة الفكر جانبا، وذلك بما يقترحه هؤلاء من خطاطات تبشر بالإجابات القاطعة عن سؤال الأزمة.
ولأن الليبرالية، التي تَسنُدها رؤية مثالية، انتبهت إلى ما يميز مفهوم الصراع الطبقي من قوة وتجذر وديمومة؛ فقد اجتهدت في رفع الأزمة إلى منزلة «الطوطم» إن استعرنا لغة الأنثروبولوجيين. إنها، من هذا المنطلق، آلية لامتصاص لعنة تستهدف الكل. وبهذا ستعوض الليبرالية، في مسعاها لربط الأزمة بالبعد القدري، واقعيةَ التفاوت باستيهام المساواة في اللعنة.
لقد تم استئصال البعد الحيوي الذي تنطوي عليه الأزمة في دلالتها اللغوية المشار إليها أعلاه. فلا علاقة هنا ولا تناقض ولا صراع ولا قرار، اللهم قرار التسمية الذي تكفله الهيمنة بغية تأبيد الوضع. وبهذا الاستئصال أُبدلت الأزمة ذات البعد الحيوي بأزمة «خالصة» تُستقبَل استقبال القدر القاهر. من هنا ينكشف الوجه العدمي لليبرالية بما هي تعطيل لحضور الإنسان وإلغاء لفاعلية هذا الحضور.
ضد مقاربة ماهوية للأزمة، تتنافى وحيوية الصراع الذي يُثبت فاعلية الإنسان وحضورَه في العالم، تنهض رؤية مادية تقارب الأزمة من جهة كونها «صيرورة أزمات». والليبرالية من هذا المنظور تسمي الوضع أزمةً دون أن تنشغل باقتراح مسارب الانفلات منه. بل إنها تتنكر لما كانت تبشر به من وعود الرفاه والازدهار والتحضر، كي تكتفي بتوصيفات «قيامية» مستلهمةً خطابَ الوعيد والنهايات.
على أن فحص نظام هذا الخطاب القيامي يكشف عن رغبة في الدفع بالأزمة إلى حدود جَعْلها إكسيرا به تنتعش الليبرالية، كما هو حال كل خطاب قيامي يُبدي استياء من الحاضر، وتوجسا من المستقبل؛ لحساب ماض هو مستقر الكمال. كأن الليبرالية تتغذى على الأزمة سراًّ وتلعن الوضع جهرا.
الأزمة مختبر لرؤيتين، وفضاء للمجابهة بين مقاربتين: إحداهما سكونية تتسلح بالتبرير كي تكرس وضعا يضمن استمرار الهيمنة. هيمنة قوامها بث وعي زائف لدى المهيمَن عليه. والأخرى حيوية تمجد حركة العالم وقدرة الصراع على إفراز وضع مغاير. بهذا تصير مهمة الفكر شاقةً في مقاومته لقوى العدمية التي تتخذ لنفسها وجوها متعددة في العصر الراهن، حيث السعي الحثيث لدى الخبراء في إزاحة الفكر جانبا، وذلك بما يقترحه هؤلاء من خطاطات تبشر بالإجابات القاطعة عن سؤال الأزمة.
كاتب من المغرب
ما أحوجنا إلى فكر منير، به نستنير، كهذا الذي، جاد به منير وحمادي، ألف شكر وألف تحية
مقال تنويري ينبه إلى خطورة ما يدبره الخبير الليبرالي ، في إقصاء تلم لدور المثقف ، بتواطء مع الآلة الإعلامية العالمية لتأبيد وهم الأزمة .
تحية عالية للأستاذ و الصديق حمادي و سي الهدهودي على مساهمتكم في تنوير الرأي العام و تنبيه إلى أوهام السوق / و المسرح التي تصنعها الليبراليا و آلتها الإعلامية.