صمت كاواباتا البليغ

حجم الخط
2

كلما احتاجت هذه السطور إلى معطيات بحثية تخصّ الصلات بين اللغات الآسيوية وآداب اليابان الحديثة والمعاصرة على وجه التحديد، فإنّ أعمال ناتسوكو تسوجيمورا لا تشكل منبعاً ثرّاً وفريداً ولا غنى عنه، فحسب؛ بل يحدث أن يفضي العثور لديها على إجابات شافية إلى إثارة أسئلة جديدة، خالقة لمزيد من إشكاليات لم تكن أصلاً في نطاق المعطى البحثي الأمّ. لا غرو، بادئ ذي بدء، لأنها في عداد أفضل دارسي ومدرّسي هذه الشؤون خارج اللغة اليابانبة، بالإنكليزية خصوصاً، وهي أستاذة لغات وثقافات شرق آسيا في جامعة إنديانا بلومنغتون الأمريكية؛ وقد وقّعت ثلاثة أعمال باتت كلاسيكية في خدمة هذه الميادين، أبرزها (في يقين شخصي) كتاب «اللسانيات اليابانية: مفاهيم نقدية» الذي صدر سنة 2005 عن منشورات راوتلدج، في ثلاثة مجلدات.
كتابها، الذي استدعته المناسبة هنا، فريد في موضوعه بقدر ما هو طريف في طرائق تسخير المنهج وتطويع التعقيد؛ صدر مؤخراً بالإنكليزية تحت عنوان «التعبير عن الصمت: حيث تلتقي اللغة والثقافة في اليابان»، ضمن منشورات لكسنغتون في لندن ونيويورك. أطروحة الكتاب المركزية من طراز السهل الممتنع، أو البسيط المركّب الشاقّ المستعصي إذا جاز الوصف هكذا: توفّر اللغة طرائق لا حصر لها في التعبير عمّا نراه، ونسمعه، ونشمّه، ونتذوقه، ونستشعره لمساً، وعبر اللغة في وسعنا أن نتبادل هذه التجارب مع سوانا؛ ولكن ماذا عن تلك التجارب الإدراكية التي تستدعي منّا القول: عير مرئي، لا مذاق له، لا رائحة، أصمّ، جامد، وسوى ذلك من علاقات مع مختلف الحواسّ، خاصة السمع في حديثنا عن الصمت والصامت أو حتى «المُصمَت»…؟ ولعلّ عناوين الفصول الثلاثة تعطي تصوّراً ابتدائياً منصفاً عن محتويات الكتاب: التعبير عن فضاءات الفراغ، صوت الصمت، والإيمائيات والصمت.

ذاك صمت رفيع البلاغة، غنيّ عن القول، أوّلاً؛، ولعله، ثانياً، كان بعض منابع التصارع التراجيدي الداخلي المتعاظم الذي قاد كاواباتا إلى ذروة قصوى من الاحتقان، فالانتحار.

الأجناس الأدبية عموماً، والرواية بصفة خاصة، هي ميادين التطبيق الأرحب التي تزوّد تسوجيمورا بمادة خصبة في اقتياد القارئ نحو استكشاف أنماط التعبير عن الصمت، وبلاغة القول الصامت، وخرائط التلاقي بين ضرورات الإشهار والإعلان وثقافة الإضمار والإيعاز؛ حيث الأشدّ إغواء للمشتغل بالنقد الأدبي أو المولع بالرواية اليابانية الحديثة ما تقترحه بصدد أعمال ثلاثة عمالقة: ياسوناري كاواباتا (1925-1970)، جونيشيرو تانيزاكي (1886-1965)، ويوكيو ميشيما (1925-1970). وإذْ تشرّفت شخصياً بترجمة اثنتين من أعمال كاوباتا، «ضجيج الجبل» و»أستاذ الـ غو»، وصدرتا تباعاً عن دار التنوير في بيروت والدار الأهلية في عمّان؛ فإنّ ما تتعمق فيه تسوجيمورا بصدد أبعاد الصمت لدى هذا الأديب المعلّم الكبير يعنيني كثيراً على مستوى معرفي ونقدي، ثمّ يلامس بعض أغوار الانحياز العاطفي إلى نصوص شدّتني بعمق وشكّلت عشرات الدوافع وراء تجاوز العراقيل على درب ترجمة الروايتَين.
وتفصيل الصمت، الاختياري هنا عند الكاتب، وبمعنى الامتناع الإرادي عن الكتابة أو التقاعد الذاتي المبكّر؛ يعيد إلى الذاكرة موقف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل في المقارنة التي عقدها بين رواية كاواباتا «منزل الجميلات النائمات»، 1961؛ ورواية غابرييل غارسيا ماركيز «ذكريات عن عاهراتي الكئيبات»، 2002. ولقد رأى أنّ العمل الثاني سطحي وباهت وفاقد لكثير من المهارات الفنّية الفريدة التي ميّزت تراث ماركيز الروائي الفذ، على نقيض العمل الأوّل الذي امتدحه وتغنى به؛ ولكن كان لافتاً أنّ مانغويل أغفل حقيقة أنّ ماركيز كتب روايته بعد طور من الصمت الكتابيّ دام عقداً كاملاً، بذريعة التفرّغ لإنهاء سيرته الذاتية، كما اعترف علانية بأنه كتب روايته تحقيقاً لحلم قديم في مجاراة رواية كاواباتا تلك تحديداً.
ومنذ يفاعته انضمّ كاواباتا إلى حركة حداثية شابة عُرفت باسم ّالحسّيين الجدد»، تمردت على ما كان شائعاً من أدب «شعبي»، وركزت على جماليات النصّ وشعرية اللغة وغنائية المقاربة. وحين نال جائزة نوبل للأدب في سنة 1968، وكان بذلك أوّل ياباني يحصل عليها، أشادت الأكاديمية السويدية بموقعه كممثّل أمين للتقاليد الأدبية اليابانية؛ الأمر الذي اثار دهشة قطاعات واسعة من قرّاء كاوباتا اليابانيين، لأنّ الرجل كان في الواقع يمثّل بالأحرى الحداثة اليابانبة أكثر من أيّ وفاء للتقاليد. لافت، كذلك، أنّ كاواباتا تفادى طرح الموضوعات السياسية، وكانت هذه كثيرة وضاغطة على الحياة اليومية اليابانية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان وخضوعها للاحتلال الأمريكي. روايته «ألف من اللقالق»، 1949، لا تشير إلى الاحتلال الأمريكي ولكنها في المقابل تغدق المديح على تقاليد احتساء الشاي وترثي روح اليابان بوسيلة رصد انحسار أو حتى اندثار المشهد الإنساني والطبيعي الذي يكتنف تلك الطقوس.
وليس من دون مغزى بالغ القصدية أنّ تسوجيمورا تستعيد الفقرات الافتتاحية لمحاضرة نوبل التي ألقاها كاوباتا في مناسبة تسليم الجائزة، حيث اقتبس شطرين من قصيدة الكاهن الشاعر دوغين (القرن الثالث عشر): «في الربيع، الكرز يزهر، في الصيف طائر الوقواق/ في الخريف القمر، وفي الشتاء الثلج والوضوح والبرد»؛ معلّقاً بأنّ هذه بعض عناصر «الروح الداخلية» التي تنقل جماليات اليابان، عبر الصمت أو الصوت، أو الطبيعة صامتة وصائتة. وذاك صمت رفيع البلاغة، غنيّ عن القول، أوّلاً؛، ولعله، ثانياً، كان بعض منابع التصارع التراجيدي الداخلي المتعاظم الذي قاد كاواباتا إلى ذروة قصوى من الاحتقان، فالانتحار.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول درغام رشاد المملوكي:

    {الأجناس الأدبية عموماً، والرواية بصفة خاصة، هي ميادين التطبيق الأرحب التي تزوّد تسوجيمورا بمادة خصبة في اقتياد القارئ نحو استكشاف أنماط التعبير عن الصمت، وبلاغة القول الصامت، وخرائط التلاقي بين ضرورات الإشهار والإعلان وثقافة الإضمار والإيعاز} انتهاء الاقتباس
    بالنسبة لأهم شاعرين عربيين فيما نُشر “رسميا” في عالم الشعر العربي المعاصر حتى الآن، أي الغائب محمود درويش والحاضر علي أحمد سعيد إسبر (الذي يلقب نفسه “أدونيس”)، فإن كتابة “الرواية”، على وجه التحديد، عبارة عن ضياع مقيت في الوقت وعن هدر أمقت في الطاقة، هكذا بالعربي الفصيح !!؟

  2. يقول لبنى شعث - فلسطينية مغتربة:

    (وحين نال جائزة نوبل للأدب في سنة 1968، وكان بذلك أوّل ياباني يحصل عليها، أشادت الأكاديمية السويدية بموقعه كممثّل أمين للتقاليد الأدبية اليابانية) اهـ
    “أوّل ياباني يحصل عليها”، هذه العبارة التي تكررت على صفحات النقد الأدبي بتعدد الجنسيات المعنية – “أوّل صيني يحصل عليها”، “أوّل هندي يحصل عليها” “أوّل عربي يحصل عليها”، إلخ – بصفتي قارئة مستمرة للأدب ومتذوِّقة نقدية له، أنا أعترض بشدة على هكذا تصنيف ترتيبي مملوكي “جازم” و”قاطع” تقرره مجرد ثلة “تحكيم” سويدية مملوكية حصل لها أن عُيِّنت من أجل توزيع جزء أو أجزاء من ثروة مخترع الديناميت (أي مدمِّر الإنسانية) لمن “يستحقها” من عالم الأدب وغيره – يقول العبقري الساخر جورج بيرنارد شو بما معناه، في هذا الصدد: «قد أغفر لآلفريد نوبل اختراع الديناميت، قاتل البشر هذا، ولكني لن أغفر له إنشاء جائزة نوبل للأدب والعلم والسلام» !!!؟

إشترك في قائمتنا البريدية